التاريخ في فخ الأيديولوجيا

*محمدو لحبيب

في أي نقاش عن التاريخ وحقيقته، تبرز كعنقاء نهضت للتو من مرقدها جملة مشهورة: «التاريخ يكتبه المنتصرون»، ويتم استدعاء تلك الجملة غالباً لتبرير مفاهيمي يؤكد على أن التاريخ يخضع للأيديولوجيا، ولمقتضيات الصراع ونتائجه التي تفرز منتصراً ومهزوماً، ومن ثم بطبيعة الحال يمكن أن يطرح سؤال وجيه يتبع ذلك وهو، هل يمكن لأي كان أن يثق في تاريخ يكتب على وقع الصراع، ويكتبه على مزاجه من يحسم المعركة لصالحه؟ وفي سلسلة التشكيك التي لن تنتهي بسهولة، سيستمر تناسل الأسئلة عن الحقيقة التاريخية ليصل ربما إلى مستوى الوجود الإنساني الأول على هذا الكوكب، وسيتجسد عندئذ منطق عدمي تشكيكي يخدم أصلاً ما وجد لينتقده وهو سيطرة الأيديولوجيا على التاريخ، ذلك أن التشكيك في الحقيقة التاريخية بزعم ارتباطها بقراءة أيديولوجية هو حكم أيديولوجي أيضاً.

حتى لو قبلنا جدلاً هذا المنطق العدمي الذي يشكك في بعض التاريخ البشري أو كله أحياناً، والذي يتكئ على الجملة الشهيرة الآنفة الذكر، وكأنها بنت خلاصات تاريخية مدعومة ببحث منهجي عميق، فإن علينا أن نسأل بذات المنطق هل هناك تاريخ محدد لأصل تلك الجملة – الأطروحة وكيف ومتى بدأت؟
المفارقة التي ستصدمنا للوهلة الأولى أنه لا يوجد اتفاق تاريخي على أصل تلك الأطروحة ومتى ظهرت لأول مرة، ورغم أنها تستخدم على نطاق واسع فهي ليست بذات تاريخ محدد ولا هي بالضرورة بنت نسق علمي تاريخي رصين.
البعض يرجع أول ظهور لتلك الجملة لرئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون تشرشل، إضافة للنازي هتلر، لكن ثمة من يقول إنها ظهرت في فرنسا لأول مرة على لسان اليميني روبار برازياك الذي اشتهر بمواقفه المتطرفة في المنشورات التي أشرف عليها، كما عرف بتعاونه مع النازيين، وتورد بعض المصادر أنه قال جملة «التاريخ لا يكتبه سوى المنتصرون» عندما كان عرضة لتنفيذ حكم الإعدام عليه سنة 1945 بتهمة الخيانة والتعامل مع العدو.

ويورد الباحث الأكاديمي عادل لطيفي في مقال له بعنوان «التاريخ لا يكتبه المنتصرون» أن التأصيل الأكاديمي للجملة يقود إلى المفكر الألماني من أصل يهودي والمتأثر بالمادية التاريخية والتر بنيامين، الذي تنسب له المقولة، وأنه في الحقيقة استعملها من جانب نقدي سنة 1940، كي يميز بين ناسخ التاريخ، أو مدون الأخبار الذي يتأثر بالمنتصر وبما هو ظاهر، وبين المؤرخ المادي الذي وجب عليه الاهتمام بالإنسان منتصراً كان أم منهزماً.
ويضيف لطيفي إن هذا المنحى التفكيكي يعني أن الفكرة كانت متداولة في تلك الفترة، وبالفعل فقد انتشرت في أوروبا خلال الثلاثينات من القرن الماضي في إطار انتشار الأيديولوجيات «الكليانية» التي هي أفكار تمجد العظمة والانتصار والقائد الملهم، إذ نجد آثاراً لهذه التوجهات في فكر الفيلسوف الكبير مارتن هيدجر الذي كان يطالب الأشخاص باختيار رموزهم من بين الزعماء الكبار الذين طبعوا التاريخ كي يضمنوا الانتصار في الحاضر، وكان ذلك في فترة تقاربه مع الفكر النازي سنة 1934، ويستطرد عادل لطيفي ليقول إنه من الواضح أن من يرددون مقولة «التاريخ يصنعه المنتصرون» لا يعرفون أن القصد منها ليس تقديم تصور للتاريخ كعلم، بل كان القصد تمجيد مقولة العظمة التي انتشرت في الفكر السياسي اليميني في فترة ما بين الحربين.
وبرغم أن بعض الأحداث التاريخية على مر التاريخ الإنساني تثبت فعلاً أن التاريخ يكتبه المنتصرون، إلا أن بعضاً من أهمها أيضاً يثبت العكس، فمثال الثورة الفرنسية ودوافعها يشكك في أن من انتصروا وهم حينئذ الشعب الفرنسي كتبوا تاريخاً محدداً لتلك الثورة التي صاغت تقريباً بأفكارها كل ما تلاها من أحداث حتى اليوم.
يورد كرين برينتون في كتابه «تشكيل العقل الحديث» جدلاً تاريخياً عميقاً بين من يعتقدون أن الثورة الفرنسية قامت على أساس البحث عن العدالة والحرية والقيم الديمقراطية الدستورية النبيلة كما نعرفها في عالمنا اليوم، وأن دافعها هو الاستياء من تأثير الكنيسة على السياسة العامة والمؤسسات، والتطلع نحو التخلص من الأرستقراطية المتحكمة وامتيازات النبلاء، وتحقيق المساواة الاجتماعية والسياسية وإحلال نظام جمهوري بدل الملكية التي كانت قائمة، أما البعض الآخر فيستدل من مصادره التاريخية المضادة بأن الثورة الفرنسية قامت فقط كثورة جياع ومهانين، لم يتحملوا سوء الأحوال المعيشية ولا الضرائب والمكوس، وأن سببها بشكل أساسي كان اقتصادياً بحتاً؛ إذ كان الجوع وسوء التغذية منتشراً بين الفئات الفقيرة في فرنسا مع ارتفاع أسعار المواد الأساسية كالخبز؛ إضافة إلى كل ذلك ثمة سبب في بعض المصادر التاريخية الأخرى وخارج إطار ذلك الجدل الذي أورده برينتون، وهو أن الثورة الفرنسية قامت لأن الفرنسيين كانوا يتهمون الملكة ماري أنطوانيت بأنها جاسوسة للنمسا وأنها هي من كانت تقف وراء اغتيال وزير المالية الذي كان يحظى بشعبية كبيرة في الأوساط الشعبية الفرنسية.
ويمكن أن يؤشر كل ذلك الجدل حول شرعية الكتابة التاريخية ودوافعها إلى سؤال آخر هو: هل يكتب التاريخ حقاً أم أنه يقرأ فقط قراءات مختلفة وذات دوافع متباينة وشتان قطعاً بين القراءة والكتابة؟
الواقع أن التاريخ موجود على هذه الأرض ما بقيت الأرض نفسها، فالتاريخ لم يعد كمفهوم منحصراً لا في الصراع الطبقي ولا في أي صراع آخر من أي نوع، ولم يعد محكوماً عليه بأن يظهر فقط عن طريق روايات معينة أو قراءات أيديولوجية، ذلك أن تطورات التقنية الإشعاعية التي باتت قادرة على تحديد عمر أي أثر تاريخي أو تحديد تاريخ وجود أي رفات بشرية مقارنة مع الحدث التاريخي الذي يراد تحديد تفاصيل المشاركين فيه، كل ذلك بات يصنع للتاريخ منهاجاً يجعل كتابته أسهل وتدقيقه بشكل علمي أكبر، وقد يحيل ذلك إلى أن الكتابة – لا القراءة – التاريخية أصبحت مفهوماً مركباً من الصراع والأيديولوجيا وتطورات التكنولوجيا أيضاً إضافة للصدفة التي قد تصنع تاريخاً هي الأخرى، وبالتالي فإن أي تحليل علمي لحدث تاريخي ينبغي الآن توخياً للدقة أن يستحضر كل تلك العوامل عند كتابته أو إعادة كتابته للتاريخ.
لكن السؤال الذي ينبغي استحضاره هنا هو: ما مدى علمية الكتابة التاريخية أصلاً، ذلك أن العلم هو كائن تجريبي متغير باستمرار ومفتوح على تطورات مستمرة؟
يرى الباحث المغربي الدكتور عبد اللطيف الركيك في دراسة له بعنوان «علمية الكتابة التاريخية وإشكالية الموضوعية»، من خلال طرحه للسؤال: هل يحق القول بأن التاريخ يتوفر بالفعل على مواصفات العلم الموضوعي؟ أنه يتعين الإقرار بأن التاريخ هو علم ينتمي إلى فرع العلوم الاجتماعية والإنسانية، غير أنه لا يخضع لقاعدة التجريب كما في العلوم التطبيقية. ويعود الدكتور عبد اللطيف ليضيف بأنه إذا كان التاريخ علماً نظرياً، فإن اعتماده على عدد من العلوم المساعدة التي تنتمي لفروع العلوم التطبيقية، واشتغاله على الوثائق المادية والاكتشافات الأثرية يُكسب نتائجه قدراً من المصداقية العلمية، غير أنه يشدد على أن استنتاجات المؤرخين والباحثين في التاريخ والقواعد النظرية التي يستخلصونها لا يمكن اعتبارها علماً، بقدر ما هي تأويلات تخضع لقواعد الشك والنقد، ولعله من المجحف كما يقول تحويلها مع كثرة تداولها والاستشهاد بها إلى قواعد ومقولات نظرية علمية يقع البناء عليها. ويقرر أن علمية الكتابة التاريخية تبقى محدودة، كما تظل نتائج المقاربة التاريخية نسبية، ولا محل للسعي لإكسابها طابع المعطى التاريخي العلمي الموثوق بصدقيته.
خلاصة القول التي يمكن الوصول إليها بعد كل ذلك، هي أن الحقيقة التاريخية يجب أن تعامل بمنهج حذر – دون شك ديكارتي-، يستفيد من تطورات العصر الحالي ومن علوم أخرى مرتبطة بها كالأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا، إضافة للاكتشافات الأثرية وطبعاً تطورات التكنولوجيا التي تساعد على ضبط وتحديد تلك الاكتشافات من الناحية الزمنية، وكذلك يجب التعامل مع التاريخ دون تعصب لما هو معروف منه ومسجل في المصادر الشائعة والمتداولة، ذلك أن التدقيق فيه بناء على المحددات العلمية الآنفة الذكر ليس بالضرورة مرادفاً للانتقاص منه أو التشكيك فيه أو محاولة تغييره.
يمكن لنا بعد كل هذا أثناء بحثنا في المعطيات والمعلومات المتوفرة أن نستصحب احتمالاً منطقياً ومتوقعاً هو أن تكون تلك المعلومات هي مجرد قراءة للماضي تهدف إلى تثبيت واقع ما في الحاضر والمستقبل، من قبيل المعطيات التاريخية المتوفرة عما يسمى بالمحرقة أو الهولوكست، التي يرفض الصهاينة أي كتابة عنها من منظور تدقيقي تاريخي نقدي.
إن حساسية التعامل مع التاريخ والشطط في ذلك، يعودان أساساً كما نعتقد إلى اعتماد القراءات التاريخية، قبل تأسيس الكتابة التاريخية وقواعدها المنهجية المنصوص عليها آنفاً، ذلك أن قراءات التاريخ تظل مهيمنة حتى الآن للأسف أكثر من كتاباته ومن هنا يصبح التساؤل وارداً: هل كُتب التاريخ حتى الآن؟
________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *