الأطفال كائنات بيولوجية فريدة في نوعها وعلى درجة عظمى من الخصوصية والتميّز، ويُجمِع علماء نفس الطفولة والتطور البشري أنّ مصدر تلك الفرادة المقترنة بالطفولة يعود في معظمه إلى اللدونة الدماغية* الفائقة لدماغ الطفل، ومن الطبيعي أن تترتّب على هذه الخصيصة الفريدة مترتبات يمكن عدّها مزايا حصرية للأطفال دون سواهم، وأهمّ تلك المزايا هي: القدرة الفائقة والسريعة للطفل في تشكيل أنماط دماغية جديدة قادرة على التكيف مع الخبرات غير المجرّبة وتمثلها والتعامل معها بمرونة وصبر وشغف، وهذه المزية الفريدة لا تُتاح في العادة لغير الأطفال، أو قد تكون متاحة لهم ولكن بثمن باهظ يخلو من عوامل الإثارة والشغف ويغلب عليه القسر وتأدية الفروض والواجبات في سياقات بيروقراطية شديدة الوطأة.
ثمة خصيصة أخرى مرتبطة باللدونة الدماغية الفائقة للطفل، وأعني بها انفتاح الفضاء التخييلي لدى الطفل وعدم تقيّده بمحددات فيزيائية أو اجتماعية ضاغطة، ويمكن فهم هذه القدرة الفريدة لدى الطفل من الطواعية الدماغية لديه في خلق تشبيكات عصبية يتعذّر عدّ احتمالاتها الممكنة، وكل احتمال من تلك الاحتمالات هو بمثابة فرصة لتخليق عالم تخييلي جديد.
تأسيساً على الملاحظات السابقة، أودّ في الملاحظات المحددة التالية إلقاء ضوء على بعض الموضوعات التي أراها ذات أهمية حاسمة في ثقافة الطفل الذي يعيش عصر السيولة الرقمية والمستحدثات الحاسوبية والتطبيقات المتعاظمة للذكاء الاصطناعي :
– أهمية الحكايات الشفاهية للأطفال: تبقى الحكايات الشفاهية المتواترة (سندباد، حكايات الأخوين غريم، أليس في بلاد العجائب..) ذات أهمية عظمى لمخيال الطفل وذائقته التصويرية وجهازه اللغوي الغض، ومن الضرورة الفائقة أن تُروى هذه الحكايات على مسامع الأطفال حتّى لو كانت مطبوعة في كتب ورقية ذات ألوان براقة جاذبة. يمكن للأب أو الأم أو المعلمة القيام بدور الراوي في هذه الحكايات؛ غير أن الأم تبقى هي الراوية الأفضل وبخاصة في وقت ما قبل النوم. إن تجربة سرد الحكايات الشفاهية على الأطفال فريدة للغاية وذات دور عظيم في تثوير خيال الطفل وإثارة مكامن شغفه بالكلمات والصور المتخيلة؛ الأمر الذي ينعكس بالضرورة في ارتقائه البيولوجي والوجداني، وينبغي دوماً مقاومة الميل المتعاظم لجعل الأطفال قارئين رقميين لهذه الحكايات اللذيذة على وسائطهم الرقمية.
– ضرورة تجنب السرديات ذات المحمولات الارتكاسية والموغلة في النزعة القومية والشوفينية: يُلاحَظ في ثقافة الأطفال (وأدب الأطفال بخاصة) إعلاؤه شأن الحكايات المتوارثة التي تؤكّد السمات القومية لكل جغرافية بشرية، ويمكن عدّ هذه الظاهرة انعكاسا لنزعة تأكيد السيادة القومية وإعلاء شأن الأمة-الدولة؛ غير أن عصرنا الحالي تفاقمت معضلاته وتغوّلت حتى شملت الكوكب الأرضي برمّته ولم يعُد مقبولاً -أو حتى ممكناً- الانكفاء على الخصائص المميزة لكل جغرافية بشرية بعينها وتأكيد علويتها بالقياس إلى سواها من الأجناس البشرية؛ بل صارت الضرورة البراغماتية تفرض ترويج نمط من الثقافة الجمعية التشاركية التي تعمل في إطارها كل الكائنات البشرية للحفاظ على الموروث الإنساني ومعالجة آثار المشاكل المهددة للجنس البشري بأجمعه.
– ثقافة الطفل والأخلاقيات العملية: ثمّة ميل عالمي متعاظم لإحلال نوع من الأخلاقيات العملية منذ وقت مبكر في ثقافة الطفل واعتبارها أمراً أجلّ شأناً وأكثر جدوى من الخطابات الوعظية ذات المحمولات الدينية أو اللاهوتية التي تختصّ بجماعة بشرية دون غيرها، ويراد من هذا الأمر تخليق نوع من الأخلاقيات الجمعية التي لا تتحدد بمؤثرات الزمان والمكان والبيئة وتكون فاعلة في الوقت ذاته في التعامل المجدي مع المعضلات العالمية.
يمكن في هذا المضمار إيراد أمثلة كثيرة على هذه الأخلاقيات العملية الجمعية: إشاعة ثقافة الاحترام والتسامح والمساواة الجندرية، احترام الثقافات البدائية ونزع المسلكية الشوفينية إزاءها، تأكيد حق الحياة والتعليم والصحة لكل أفراد الأرض، المشاركة الفاعلة في الحملات الإنسانية لدعم أطفال المناطق الموبوءة أو التي تعاني ويلات الحروب أو الهجرة الناتجة عنها، دعم المعرفة البيئية والسياسات اللازمة للتعامل مع المعضلات الكارثية التي تواجه كوكب الأرض…
– ضرورة الموازنة الدقيقة بين القدرة التحليلية والقدرة الرقمية في ثقافة الأطفال: من المعلوم أننا نعيش اليوم وسط بيئة صارت محكومة -بالضرورة- بهيمنة الوسائط الرقمية الشائعة، ومعروف أيضاً أن تلك الوسائط محكومة هي الأخرى بقيود النظم الرقمية التي تعمل وفق خوارزميات محددة، وقد أدى هذا الأمر إلى خفوت القدرات التحليلية والفلسفية والاستعاضة عنها بنوع من القدرة الخوارزمية الأقرب إلى متطلبات التنميط الجمعي التي يستلزمها الارتقاء بمنظومات الذكاء الاصطناعي.
ولا يغيب عنا أن خفوت الشغف التحليلي والفلسفي ينطوي على مخاطر عدة من بينها تراخي النزعة الإنسانية وفقدان التواصل الحيّ مع الإرث الإنساني في شتى حقوله المعرفية وشيوع نوع مستحدث من العبودية الرقمية التي يسهل توظيفها من قبل الحكومات لخلق نوع من دكتاتوريات رقمية شديدة الوطأة، وفي مواجهة ذلك ستحافظ الثقافة غير المنمّطة رقمياً على التراث الإنساني وتعمل على الارتقاء المتواصل في المناطق الدماغية الخاصة بالقدرات التحليلية وتجنب الانكفاء في لجّة الخبرات المنمّطة.
– يمكن لثقافة الطفل أن تكون أداة من الأدوات الفاعلة في تحقيق السلام العالميّ وتخفيف حدّة النزاعات الدولية: من المعروف أن الإرهاب الدوليّ وغياب فرص التسامح والتعايش الحقيقية يتغذّيان من حالة سوء فهم الآخر وعدم الانفتاح على ثقافته الخاصة، وقد أثبتت الجهود العالمية (الأمم المتحدة مثالاً) وهناً كبيراً في إشاعة قدر مقبول من التسامح الدولي والانفتاح الثقافي تجاه الثقافات المهمّشة (حسب نموذج نظرية المركز-الهوامش) بسبب بيروقراطيتها وشيوع الفساد فيها؛ وهنا يمكن لثقافة الطفل المبكرة أن تكون ترياقاً مضاداً لكل النزعات التهميشية والإقصائية للآخرين وبخاصة إذا ما اعتمدت نمطاً من الحس الإنساني الجمعي المتناغم مع تطلعات الشعوب في كافة أقاصي الأرض.
– دعم ثقافة الأطفال وتطويرها هو استثمار ناجح في المستقبل: ثمة جانب براغماتي ملحّ يتطلّب الارتقاء بثقافة الأطفال وبخاصة في عصر شيوع الثقافة الرقمية وقرب سيادة منظومات الذكاء الاصطناعي التي ستغزو جميع مرافق الحياة الإنسانية. يمكن لثقافة توازِنُ بين الجانبين التحليلي والرقمي ينشأ عليها الطفل أن تساهم في إمداده بالعدّة اللازمة للتعامل الناجح مع المستقبل وطرد الشعور بالضياع وعدم القدرة والتمكّن من التعامل الكفء مع المستحدثات الرقمية، كما أن الثقافة المبكرة المتوازنة للطفل -مثلما يرى خبراء ثقاة- يمكن أن تبعده عن مخاطر الاعتلالات المرضية (مثل مرض الزهايمر) وتملأ حياته شغفاً وبهجة.
– ثقافة الطفل وتعلّم اللغات الأجنبية: تنبّهت السياسات التعليمية العالمية (بل حتى على مستوى العائلة) إلى الضرورة الفائقة لاستثمار اللدونة الدماغية الهائلة لدى الطفل في ميادين محددة، ومن أهم تلك الميادين هو التعلّم المبكر لبضع لغات عالمية؛ إذ تبدو قدرة الأطفال غير محدودة تقريباً في تعلّم وإتقان اللغات الأجنبية، وهو الأمر الخليق بتعزيز قدرات الأطفال ومنحهم مزايا تنافسية مشروعة من جهة، كما يساهم في الكشف عن إطلالات مشروعة على الثقافات العالمية الشائعة خارج فضاء الثقافة المحلية للطفل. إن التعددية اللغوية للطفل ستقود حتماً إلى شيوع ثقافة تقبل الآخر والتسامح واحترام الخصوصيات القائمة على التمايز والاختلاف في إطار من التلاقح الثقافي والحضاري المتبادل.
* اللدونة الدماغية (Cerebral Plasticity): مفردة تقنية تشير إلى قدرة الدماغ على تخليق اشتباكات عصبية دماغيّة جديدة؛ الأمر الذي يؤدي إلى تخليق قدرات إبداعية جديدة.
_________
*المصدر: مجلة الجديد
مرتبط