‘ساحر النساء’ يعود إلى الحياة

*أمير العمري

منحت لجنة تحكيم المسابقة الدولية في الدورة الـ70 في مهرجان كان السينمائي جائزة الإخراج للفيلم الأميركي “ساحر النساء” لصوفيا كوبولا، وهي جائزة اختلفت حولها الآراء، أولا لأن فيلم كوبولا هو إعادة إخراج لفيلم قديم بنفس العنوان، وثانيا أن هناك من وجدوا أنه ربما لا يضيف جديدا على مستوى اللغة السينمائية وأسلوب الإخراج، بل يبدو تقليديا في بنائه وحبكته.

ربما تكون أفضل ترجمة عربية لعنوان هذا الفيلم (The Buguilled) هي “ساحر النساء” فالكلمة الإنكليزية معناها الفاتن، الساحر، المغوي، في إشارة إلى بطل الفيلم، وهو الرجل الوحيد بين سبع فتيات ونساء، سيحاول إغواءهن لهدف ما، أو على الأقل، سيستغل ما يبدونه من إعجاب وهيام به للخروج من مأزقه.

يقوم الممثل البريطاني كولن فاريل بدور “جون ماكبيرن”، الملازم في الجيش الاتحادي الشمالي في زمن الحرب الأهلية الأميركية. يصاب ماكبيرن بجرح بالغ في ساقه أثناء اشتباك مع قوات المتمردين الجنوبيين الرافضين للاتحاد بإحدى ولايات الجنوب الأميركي. تعثر عليه في الغابة جريحا، فتاة في الثانية عشرة من عمرها هي “آمي” التي تأخذه إلى المدرسة الداخلية التي تقيم فيها مع ست نساء وفتيات على رأسهن مديرة المدرسة “مارتا” (نيكول كيدمان) التي تقوم بتدريس القيم المسيحية مع معلمة أخرى هي “إدوينا” (كريستين دانسيت).

الملازم ماكبيرن حسب معالجة كوبولا، رجل شريف، جاء من أيرلندا واضطر للالتحاق بالجيش الشمالي ليس لإيمانه بقضيته أو لرغبته في القتال، بل من أجل الحصول على المال، وقد جرح دون أن يشارك في معارك قتالية فقد كان عمله ينحصر في الشؤون الإدارية. الآن أصبح الضابط الوسيم “أسيرا” داخل منزل النساء، يتلقّى العلاج على أساس أن يقمن بتسليمه -كما تقول مديرة المنزل مارتا- بعد أن يتم شفاؤه، إلى الجيش الجنوبي. مع وجوده تحت الرعاية داخل هذه الدار، سرعان ما يجد ماكبيرن نفسه هدفا لأطماع الفتيات والنساء، عاطفيا وجنسيا، دون أن يكون له يد في هذا، لكنه تدريجيا يحاول استخدام وقوع الفتيات في غرامه وولعهن به بمن فيهن “آمي”، للإفلات من مصيره المنتظر، وهو ما يجعله يسرف في وعوده، ومع ذلك فهو أيضا يضعف أمام الإغراء، أمام قوة المرأة وجبروت النساء.

إن شخصية “مارتا” (التي تقوم بها نيكول كيدمان)، هي أقرب شخصيات الفيلم إلى فكر صوفيا كوبولا كما يتضح في أفلامها السابقة، فهي امرأة قوية، مسيطرة، يمكنها التحكم في مشاعرها، لا تتهالك وتعرض نفسها بوضوح، تكتفي حينا بالنظرات التي تكشف رغبتها في العثور على ما تشتهي في “الرجل”، لكنها في الوقت نفسه تمنع نفسها من السقوط في حضن “العدو” الذي تقول له إنه “أكثر الزوار غير المرحّب بهم”.

بناء تقليدي

الفيلم مصنوع في بناء تقليدي يسير في حبكة صاعدة، مع تصوير جيد يضفي أبعادا شديدة الصدق والواقعية على المكان، الغابة المحيطة، محاكاة أجواء الحرب الأهلية، والإضاءة الداخلية، وتضاريس المكان.. وغير ذلك من العناصر الفنية المختلفة كالديكورات والملابس والاكسسوارات، وكل ما أصبح من المفروغ منه في السينما الأميركية (سينما هوليوود) التي تهتم بكل التفاصيل الفنية وتوفر الإمكانيات لتنفيذها.

من المحتم أن من يشاهد الفيلم لا يمكنه تجنب المقارنة بينه وبين الفيلم القديم الذي ظهر عن رواية توماس كولينان، بالعنوان نفسه عام 1971 من إخراج دونالد سيغل، وقام ببطولته كلينت إيستوود في دور مخالف تماما لمعظم أدواره في تلك الفترة. والحقيقة التي لا يمكن نكرانها أنه رغم تميز فيلم صوفيا كوبولا فنيا بفضل التصوير البديع للمصور الفرنسي فيليب لو سور (حائز الأوسكار عن Grandmaster عام 2013)، الذي ينجح في إضفاء طابع الحلم عن طريق الإضاءة الخافتة (استخدامه للشموع كمصدر للضوء بوجه خاص في المشاهد الليلية الداخلية) وطاقم ممتاز من الممثلات من أعمار مختلفة، إلا أن فيلم دونالد سيغل يظل هو الأفضل والأكثر قدرة على البقاء في الذاكرة.

بعد مشاهدة حديثة للفيلم القديم بدت قصته للوهلة الأولى حول الحرمان والرغبة، لكنها في الحقيقة أعمق من هذا، فالموضوع يقوم على فكرة غياب الرجل من حياة جميع شخصيات الفتيات والنساء في الفيلم على نحو أو آخر، لأسباب مأساوية مختلفة، بمن فيهن الخادمة السوداء “هايلي” وهي (عبدة) في زمن العبودية ورفض الجنوبيين تحرير العبيد وهو سبب أساسي للحرب الأهلية. وهي فقدت حبيبها بسبب إصرار سيدها السابق، الذي هو شقيق مديرة الدار “مارتا”، على بيعه، مما دفعه للفرار، وظلت هايلي وحيدة. وفي فيلم سيغل أيضا عبارات عنصرية مباشرة من طرف الفتاة كارول ضد هايلي، وهو ما يشير إلى أن التعاليم الدينية التي تتلقاها في “المدرسة” لم تغير نظرتها العنصرية. كما يميل سيغل إلى استخدام الإشارات الإيروتيكية التي تبرز من داخل السياق، وهو ما كان يعد بمقاييس عصره، جرأة يفتقدها فيلم كوبولا؟

نغمة العنصرية

أما صوفيا كوبولا فقد استبعدت من سيناريو فيلمها -الذي كتبته بنفسها- شخصية الخادمة السوداء، كما جعلت الضابط “النبيل” يقع في حبائل مجموعة من الفتيات والنساء يتصارعن على نيل حبه، أي على النقيض من كلينت إيستوود في الفيلم القديم، الذي يكشف المشهد الأول من الفيلم، وقاحته وانتهازيته، عندما يقوم بتقبيل المراهقة الصغيرة “آمي” بشكل مفاجئ، ثم يروي بعد ذلك الكثير من الأكاذيب، كما يلجأ للغش والخداع والتضليل والإسراف في إطلاق وعوده الزائفة، بل يستخدم دونالد سيغل التعارض بين الصورة والصوت، عندما ينتقل عن طريق القطع السريع، بين ما يرويه الضابط عن نفسه زاعما أنه لم يكن مقاتلا ولم يقتل أحدا بل كان يقوم بإنقاذ الجرحى بينما تتناقض الصور التي نراها مع روايته، فنراه يمارس العنف والقتل دون هوادة ودون أن يرحم حتى الجرحى.

و-ى العكس من شخصية “إدوينا” (كريستين دانست) في فيلم كوبولا التي تعاني -أساسا- من الحرمان الجنسي، والخشية من أن تذبل وتنتهي كامرأة وسط هذه العزلة، تبدو إدوينا في فيلم سيغل رومانسية، حالمة، تبحث عن الحب، وهي مستعدة لأن تغفر للضابط خيانته الواضحة لها مع الفتاة الشقية المغوية كارول، متشبثة فقط بما يدور في خيالها المريض.

يستخدم سيغل أسلوب التداعيات في خيال “مارتا” وهي تحلم بمجيء الضابط إلى فراشها، ثم وهي تمارس معه الجنس، ويجعل هذه اللقطات داكنة الإضاءة تتقاطع مع لقطات أخرى للضابط وهو في فراش كارول المغوية، إلى أن تستيقظ مارتا فجأة على صوت عكاز الضابط وهو يصعد السلم نحو غرفة كارول في أعلى المنزل. إن فيلم سيغل هو أساسا فيلم عن الحرمان والرغبة والافتقاد للرجل وما يكمن داخل المرأة من عنف وشر يمكنها استدعاؤه في الوقت المناسب، مع قدرتها على ستر رغباتها تحت ذرائع أخرى، ثم ما ينشب من صراع من أجل الاستحواذ على الرجل، ولكن عندما تفلت الأمور أو تذهب أبعد من السياق المحدد لها، وينكشف غش الرجل وتضليله لهن جميعا، يتفقن على بتر ساقه أولا، كمعادل للإخصاء، ثم إعداد وليمة حافلة له تكون مقدمة للإجهاز عليه.

في الفيلم القديم أيضا مشاهد أكثر إثارة وتشويقا لما يمكن أن تتعرض له النساء في زمن الحرب، مع وصول جنود الجيش الجنوبي أكثر من مرة، فجأة، واكتشافهم ذات مرة، وجود ماكبيرن في الدار وما يقع من اشتباك بينه وبين أحدهم قبل أن تتدخل مارتا وتنقذه بادعاء صلة قرابة لها معه، كما يكشف الفيلم علاقة مارتا الحميمية القديمة بشقيقها، من خلال لقطات العودة للماضي التي تتداعى في ذهنها على شكل “فلاشات” سريعة، ثم الخطابات المتبادلة بينهما التي يطّلع عليها ماكبيرن، ومحاولته ابتزازها وفضحها أمام الآخرين، وكلها تفاصيل استبعدت من فيلم كوبولا التي فضلت التركيز على مأزق “الرجل الوسيم وسط النساء المحرومات”.

هوليوود والأفلام القديمة

يجب القول إنه ليس مفهوما السبب الذي دفع صوفيا كوبولا إلى إعادة إخراج فيلم قديم كان ناجحا في زمنه، دون أن تتمكن من مضاهاته رغم ما توفر لها من إمكانيات أكبر، وهو سؤال يمتد ليشمل أيضا التساؤل عن الأسباب التي تدفع شركات هوليوود إلى إعادة إنتاج الأفلام القديمة الناجحة؟

ربما يكمن السبب في رغبة هوليوود في تحقيق نجاح مشابه تعتقد أنه “شبه مضمون”، مع الاستعانة بنجوم العصر الحالي. ولعل ما لا يمكن إغفاله في الفيلم الجديد تفوق الممثلات بشكل واضح وملاءمتهن أكثر للأدوار عمّا كان في الفيلم القديم رغم تفوق جيرالدين بيج في دور مارتا بوجه خاص، والأداء الذي لا ينسى للممثلة جو آن هاريس في دور كارول التي سرعان ما غابت عن شاشة السينما مفضلة الظهور على شاشة التلفزيون.

كان كلينت إيستوود في الفيلم القديم أكثر نجاحا وملاءمة لدور ماكبيرن من كولن فاريل، الذي لم يتمكن من تجاوز أداء إيستوود خاصة بعد تغير عبارات الحوار، وغياب تلك الهمسات المغوية الخبيثة، وقدرة إيستوود على التسلل تحت جلد الشخصية التي يؤديها والانتقال من الهدوء والإنصات ثم إلى الإغواء، إلى التظاهر بالانصياع ثم الانفجار في الغضب الشديد قرب النهاية. إنه يحاول حتى إغواء الخادمة السوداء موهما إيّاها أنهما يشتركان في قارب واحد، في إشارة إلى مأزق الأسر والعبودية، لاعبا على رغبتهما المشتركة في التحرر.

لم تسع صوفيا كوبولا إلى تقديم رؤية جديدة للرواية وفضلت التركيز بوجه خاص على دور المرأة، قوتها، قدرتها على تحويل ضعفها إلى قوة، وامتلاك القدرة على تحقيق انتقامها الشخصي عندما يقتضي، كما فضلت الإبقاء على نهاية الفيلم غامضة. لكن الفيلم رغم كل ملاحظاتنا السلبية، يظل عملا متماسكا متقنا من ناحية الإيقاع وجمال الصورة والتحكم في الأداء، ولعل هذه الأسباب هي ما دفعت لجنة التحكيم في كان إلى منحه جائزة الإخراج.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *