حين يعود العالم إلى طفولته


*خليل قنديل

من يراقب فقدان الجدية في تعامل العالم مع قضاياه يدرك أن العالم برمته قد بدأ يدخل في سبات طفولي نادر، وأن كل ما يدعيه العالم من جديّة هي في الأصل محض اقتراح مؤقت، وأن صيغة التواصل مع الحياة عموماً هي طفولية بامتياز.

إن هذا الحنين الغامض للعالم تجاه طفولته يجعلنا نضع يدنا على منطقة القلب خوفاً من المقبل والآتي، ذلك أن العالم صار يبدو كأنه يتراجع عن التزاماته الجدية تجاه الحياة، تلك الالتزامات التي ظلت تؤكد لنا أن العالم مازال يقيم في منطقة سن الرشد.
وإذا كان الفن والأدب هما المرآة الحقيقية لتوجهات العالم فإن الأفلام السينمائية صارت تذهب بمخيالها التصنيعي إلى قضايا طفولية لا تصل إلى مستوى تلك القضايا الراشدة التي كانت تتعامل معها الفكرة السينمائية، لا بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك وهم يقترحون دور سينما قادرة على أن تضع مشاهد الفيلم فيزيائياً داخل نص الفيلم هذا غضافة إلى إضافات تكنولوجية أخرى، وبالطبع فإن مثل هذا النهج قاد السينما إلى اقتراحات صبيانية في ما يخص مضمون الفيلم.
هذا عداك عن تنشيط المخيال السينمائي العلمي الذي صار يقترح نفسه على معظم الأفلام الجديدة، فأنت حينما تدخل أي سينما حديثة بات عليك أن تجهز نفسك لمشاهدة المخيال الإنساني وهو يتقزم حتى يتوازى مع طفولة مقترحة على الفيلم.
هذا عداك عن الطابع الكابوسي الذي يغلف قصة أي فيلم وهي كابوسية، خصوصاً بمخيال الطفل.
وهذا يجعلنا نقول إن السينما العربية باتت وهي تتوخى الربح المادي الخالص بعيدة كل البعد عن جيلها، وصارت الأفلام الجديدة تخترع الأبطال الشباب وتحيل بقية أساطين السينما العربية إلى ما يُشبه التقاعد الإجباري.
ومن يراقب السيل اليومي الهادر للصور المتحركة في محطاتنا الفضائية سيدرك أن مثل هذه الهجمة قد قامت بتحويل العائلة بمجملها إلى صور متحركة، هذا عداك عن المضامين الخرافية التي تحملها مثل هذه الصور، وهي تعيدنا إلى سيرة الأشباح والخربشات المتحركة وبشاعة التكوينات التي تدخل عوالم أطفالنا على اعتبار أنها منطقية وممكنة.
والغريب أن بعض مسلسلات الصور المتحركة كبرت هي وحلقاتها مع أطفالنا وصارت تشكل لهم ذاكرة، وأي ذاكرة؟
والمهم أن جيلاً كامل الدسم من أبنائنا يتعرض إلى مثل هذه الهجمة الانقلابية من دون أن يرف لنا جفن ومن دون أن نقوى على مساعدته واإنقاذه.
والعالم الطفولي العميق أخذ ينعكس على لوحات تشكيلية صار الواضح فيها تعمد الطفولة التعبيرية في اللون، بات اللون، وتحت حجة الفطرية، اكثر التصاقاً بطفولتنا.
وقد غابت جديتنا الروائية التي كانت تحفر في العميق الواعي وأخذت تركز على رغباتنا الطفولية، فصار المضمون الروائي يشكو بشكل علني من عمق التناول ومن شح المساحة الابداعية التي يستحقها.
إننا بحاجة إلى وقفة تأملية عميقة كي نقوى على التحديق، في كل هذا الخراب الذي بات يهيمن على ساحاتنا الثقافية ويخلق لنا كل هذا المستقبل المُعتم.
_____
* الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *