“سقوف الرّغبة” لمحمود شقير: الفلسطيني والقدس

*نبيه القاسم

استمرار التجريب

“سقوف الرغبة”، العمل الأدبيّ الأخير للكاتب الفلسطينيّ محمود شقير، الذي يتميز بأنّه لا يتوقّف عن التّجريب في الكتابة، فقد كتب القصة القصيرة والرواية والمسرحية والحكاية الشعبية والسيرة الذاتيّة وأدب الرحلات والدراسة الأدبية والمقالة، وخصّ الأطفال كما الفتيان بقصصه الجميلة والهادفة.

ما الذي ينفرد به محمود شقير؟

أوّلا: أنّه كرّس معظم إبداعاته للأجيال الطالعة من الأطفال والفتيان، ثقة منه بأنّهم مَن سيقلبون الموازين ويُغيّرون ما هو قائم، ويبنون الوطن الذي حلمنا به واجتهدنا لنُقيمه، فظل في إطار الرسم المشتهى وخداع الآمال وحدود الحلم.

ثانيا: مدينة القدس كانت وبقيت المكان الأثير الذي يُخصّص له جُلّ إبداعاته، يتنقّل في حاراتها ويترسّم وجهَ أبنائها ويُعانقها في كل أزمنتها، لا يعرف الملل ولا يرضى بالبُعد، هي معشوقته الوحيدة الأبديّة.

ثالثا: أخذته القصة القصيرة جدا بسحرها ورشاقتها منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي حتى بات يُشار إليه كأحد أبرز كتّابها في الأدب العربي الحديث، وقد كانت محاولته الأولى في ثلاث قصص وصفها بالقصيرة جدا صدّر بها مجموعته القصصية “الولد الفلسطيني” (منشورات صلاح الدين – القدس، الطبعة الأولى- أغسطس/ آب 1977).

تناول محمود شقير في قصصه القصيرة جدا هموم الإنسان الفلسطيني اليومية والإنسانية ومقارعته للمحتل وسَعيه الدائم لخَلق حالات وعي مستمرة، خاصة لدى الفتيان والأطفال لتبقى الحياة تشدّهم، وفي هذه القصص التزم بشروط كتابتها فابتعد عن التفصيلات واختار الإيجاز والتكثيف والإيحاء والتّمحور في لحظات إنسانيّة. شخصيّاته عاديّة ليست من ذوات الحظوظ والمراتب، شخصيات تعيش حياتها بتفاصيلها الحقيقية، قد لا يلتفت إليها الآخرون، ولكنها الثابتة في المكان والملازمة للشمس من لحظة بزوغها حتى آخر لحظات غروبها، والمتماسكة في ظلمة الليل والمنتظرة بإصرار بداية اليوم الجديد. هذه الشخصيات تُرسّخ وجودَها في وطنها، وتتحدّى محاولات الإقصاء والإلغاء والمحو التي يُحاولها الغريب، وتُؤمّنُ للأجيال الطالعة مستقبلَها، وتحافظ على بنيان وطنها وترسيخه.

كانت القصة القصيرة جدا عند محمود شقير، كما عند معظم كتّابها، مستقلة في طرحها وبنيتها في مجموعات قصصه الأولى، وتميّزت في مجموعة “طقوس للمرأة الشقية” (1986)، بالتّوقف عند اللحظات الإنسانية التي عاشتها الشخصيات، وما عانته من ألم وشعور بالفقد والاضطهاد والقهر والإهمال والنقمة على مُسبّبها. واستمرّت في استقلاليتها في قصص مجموعة “صمت النوافذ” (1991).

كتابة محمود شقير للفتيان والفتيات واهتمامه بتوعيتهم وإعدادهم ليكونوا بناة المستقبل دفعته لنَقل التجربة التي عاشها وأبناء جيله بصورة متكاملة ومتناسقة وواضحة. ففي رواية “كلام مريم” (2013)، التي كتبها للفتيات والفتيان، جعلها حوارية متكاملة تدور بين مريم وكنعان، فيها يتناولان كل الهموم التي تُشغلهما، وفي سيرة “القدس مدينتي الأولى” (2015)، يروي قصته مع القدس مدينته الأولى، كيف زارها أول مرة وعرفها وتجوّل في كل مواقعها ثم وقوع حرب 1967 وبعدها حرب 1973 وبعد ذلك سجنه وإبعاده من قبل جند الاحتلال عن الوطن وتغرّبه بعيدا عن القدس حتى كان وعاد عام 1994. هو يروي سيرته للفتيات والفتيان باختصار وإيجاز وتكثيف ولغة سهلة قريبة من عالمهم. هذا المنحى في رواية القصة بشكل متواليات متلاحقة قصيرة مثيرة سَهلَة التّقبّل كانت دافعا له في كتابته للقصة القصيرة جدا وجَعْلها على شكل مُتواليات قَصصية، الواحدة تنسحب لتستمر في التي تليها، وهكذا لتتواصل الواحدة بالتي قبلها والتي بعدها لتكوّن معا قصة كاملة تحكي قصة الناس.

وقصة محمود شقير في مجموعته الأخيرة “سقوف الرغبة”، كما في معظم إبداعاته السابقة، هي قصة عشق مع مدينة القدس التي ولد فيها وعرف مواقعها وأحبّ كل شيء ينتمي إليها. القدس التي يراها يوميا تُعاني من ظلم المحتل ومحاولات الطمس والمحو لكل ما يربطها بناسها وعشاقها، ولكنها تظل تلك المرأة المعشوقة الأبديّة، باعثة الرّغبات والشّادّة لاستمراريّة الحياة والتّعلّق بها، والمؤكدة على ضرورة حرصنا وتمسّكنا بالحياة لأجلها. لها يهدي مجموعته الأخيرة “سقوف الرغبة”: “إلى المدينة التي زرعت في قلبي الدّهشة، إلى القدس”. وبقصصه القصيرة الـ132، كتب لنا أجمل قصة حبّ. جمعت بينه هو العاشق الأبديّ وهي ليلى المعبودة التي تتجسّد فيها مدينته المعشوقة القدس. يتنقّل العاشق مع معبودته في كل المواقع والأمكنة، يلتقيان بالعديد من الناس، يُغافلان الجند ويتجاوزان الحواجز، تطول رحلتهما ويتمتعان بحلو الحياة ورشفات الحبّ في كل مكان وزمان.

ما يُميّز “سقوف الرغبة”

بلغ محمود شقير في “سقوف الرغبة” الدرجات العليا من التميّز والإبداع والتفرّد، فقد ابتعد عن تناول الهموم العاديّة الشاغلة للناس في حياتهم اليومية ومواجهاتهم لجند الاحتلال، وكان قد أثقل هذه المواضيع بكثرة تناولها كما غيره من الكتّاب، ورأى أنّ علاقته بالقدس ليست فقط رصدَ واقع أهلها وتتبّع هموم أفرادها وتعقّب ما يقترفه جند الاحتلال، فالقدس لها مكانتها عنده، وهو  رغم إبعاد جند الاحتلال له عنها لسنوات ظلّت شاغلته، وبعد عودته وجدها أجمل، كتلك الأميرة الرائعة بانيلوب التي تخيط بإبرتها، مُزجية الوقت، تنتظر عودة محمود عاشقها الأبدي.

محمود شقير يدرك ظلم الواقع، ويعرف سَطوة المحتل واستحالة التفرّد مع محبوبته بعيدا عن عيون الغريب الوقحة، ويعرف أنّ للقدس خصوصيّاتها وأحلامها ورغباتها المعطّلة بسبب المحتل الغريب، فما كان منه إلّا أن انتشلها من واقعها، وحرّرها من سطوة المكان والزمان، وحلّق وإيّاها بعيدا في المسافات الشاسعة المنفتحة إلى ما لا نهاية في حلم جميل يعيشانه، يرسمان كل ما يريدان، ويُحقّقان كلّ رغباتهما، لا يُعيقهما جُند مُحتل ولا شراسة مستوطن ولا تزمّت مُتطرّف ولا فتوى جاهل ولا قيود سلطة.

“جاءت عند منتصف الليل، أو ربما قبل ذلك بقليل، وقالت بصوت خافت: تخطيتُ دوريّة للجنود على تخوم الحيّ، وجئتُ” (ص 5 – 6)، وأيقن وهو يتأمل جمال وجهها أنّها ليلى، المحبوبة التي يعشق.

هكذا حدّد الكاتب هويّة الشخصيّتين الرئيستين بقيس وليلى المعروفتين من التراث العربي بقصة حبّهما ليقول لنا: هكذا حبّنا للقدس، وكما مات قيس وليلى بعشقهما، هكذا الفلسطيني ومدينته القدس ارتباطهما أبدي لا يكون الواحد بدون الآخر.

كان محمود شقير في الكثير من مجموعات قصصه القصيرة جدا لا يذكر اسم الشخصية ويكتفي بطرحها حتى دون تصوير ملامحها وصفاتها ونفسيتها، ولكنها كانت دائما تحمل وظيفة مُحَدّدة يركز عليها الكاتب، القصة القصيرة جدا تكتفي من الشخصيّة بالضرورات القصوى، وهذا رأيناه في شخصية جند الاحتلال والمستوطنين وصورة الجندية حيث اكتفى الكاتب بذكرهم دون الدخول في الصفات والنفسيات وغيرها لأن في ذكر الجندي أو المستوطن كل المعاني والصفات والتّداعيات والقصص التي لها أول وليس لها آخر. كما أنه في هذه المجموعة استعان بالببغاء لتؤكّد اليقين المفهوم الذي يصعب على المحتل تقبّله.

وفي “سقوف الرغبة” بدأت رحلتهما في ربوع الوطن. “ركضنا، شعرها يتطاير كأنّه سرب فَراش، وفستانها متواطئ مع فضول عينيّ، ينحسر أثناء الركض إلى ما فوق الركبتين، ما يجعل ركضها مفتوحا على أكثر من احتمال، كنت أسبقها حينا وهي تسبقني حينا آخر. وكانت السماء مجلّلة بالغيوم” (ص 6). اقترح عليها أن تدخل حلمَه، “قلت: أدخلي حلمي، فأنا في انتظارك. دخلت، وكانت تتأوّد مثل غصن البان، ثم أغلقت خلفها باب الحلم كي نبقى وحدنا. قلتُ، لا تغلقي الباب لكي نرقبَ الناس وهم يمرّو%

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …