تشيد مارغريت دوراس ( 1914- 1996) استراتيجيات- من دون علمها- لصنوفٍ من الوحدة. ولا تتوقف عند وحدة واحدة وحيدة. الطاولة، سرير النوم، حديقة بيتها في نوفل شاتو. تدري أن الوحدة لا تنتهي، هي تستمر وتحضر في أي مكان من العالم. تقيم المؤلفة علاقة ما بين الخطر واللعب، ولا تحدد موضعاً تعرفه، أو مرّت عليه من قبل. فالكاتب لا يدرك أنه وحيد إلاّ إذا خرج عما هو مُدرج في الأمكنة والمسافات والعلاقات والمفاهيم: «إن نوع الوحدة التي عشت في نوفل شاتو، قد صُنع من أجلي، وإنني في هذا البيت وحده أكون وحيدة، لأكتب. فهمت أنني شخص وحيد مع كتابته، وحيد وبعيد من كل شيء».
يُعدّ نص «أن تكتب: الروائي والكتابة» (دار أزمنة) لمارغريت دوراس، (ترجمه الروائي والناقد المغربي أحمد المديني)، من الإصدارات اللافتة في التوجهات والاختيارات، وبترجمة فذّة كأنّه ربّ العمل. الترجمة ليست لمجرد وظيفية الإقامة مع نص متوحش إجرامي، فالكاتب والمترجم أحمد مديني كان يتنفس في كل سطر الهواء الذي تنفسته دوراس، فجعلنا نشاهد مجرى الدم وكيف تخوض فيه الكلمات. هذا الكتاب سبق وقرأته منذ سنوات مترجما، ولكن هنا تقرر مصيره في راهنية سلطته.
تُناجي دوراس في هذا الكتاب الوحدة، تلوذ بها، وتؤرخ لذاتها وهي تنجز هذا الكتاب، أو تلك الرواية. إنّها تحيل الكتب التي ستقوم بتدوينها، والتي تقع في المستقبل إلى الوحدة أيضاً. فتكيد لضدّها، وتنذر نفسها أولاً بها، وصولاً إلى ألا يكون أي كاتب/ كاتبة في مأمن من شررها المتطاير فيما هو ينشد إنجازه الإبداعي.
بقيت دوراس بنيوياً ووجودياً في خدمة وحدتها وتبعاتها فحققت فرادتها: «إن هذه الوحدة الحقيقية للجسد تغدو نفسها وحدة المكتوب التي لا تُغتصب إذ الكتابة لم تغادرني قط»، بعضنا النادر، شغوف بالوقوع في حبائلها بمقتضى خصوصية الوعي، فالوحدة ليست مفهوم نظري نموذجي، فهي نوع من التوكيل لحفظ أنواع الإبداع في سائر الفنون، وبالتالي تصلح أن تكون مرحلة متقدمة من الاعتراض. إنها وضعية روحية وعصبية تتطلب تجاوزات شتى، وعلى أكثر من صعيد، ليس في مقدور الجميع تسديد أثمانها الفادحة. هي تستحضر إحالات للمواجهة بجميع ما يخص مفهومي الكتابة وفعل الحياة. في هذا الكتاب الصغير (54 صفحة) مع المقدمة، كلها معمرّة بإشراقات الفردي والذاتي، الشخصي والخاص جداً وهو يعزّز اندماجه في حركية التاريخ والانخراط في الشأن العام، والتشديد على عدم هدر ثانية في اللاوحدة: «ينبغي دائماً وجود عزل بين الكاتب والأشخاص المحيطين به، أي الوحدة، هي وحدة المؤلف، وحدة ما يكتب».
في صورها الشهيرة، تبدو دوراس ذات بنية متوحدة بنسيج عمرها العصيب جداً. كلما أشاهدها في الصور، أظن أنها تبحث عن موضوعها المشار إليه، أو ذلك السطر الذي من شأنه لا يُقلد، ولا يُختصر، ولا نعرف كيف نعيد صياغته، ولكن نعثر على بعض من جوهره في سياقات المونولوغات التي كانت تنقب فيها عن «الشاب الأنكليزي»، أو «الرجل الأطلسي» أو في هذا الكتاب المتوحش، وبقية أعمالها. فهي لا تلتمس أي عذر، ومن أية جهة جاء لأية شراكة مزيفة بين « القراء « والكتاب ، ربما غير الوحيدين : « مازالت هناك أجيال ميتة تصنع كتباً محتشمة ، بل وبين الشباب أيضا ، فمن يصنعون كتباُ لطيفة . كتب نهار، أسميها، لتزجية الوقت، أثناء السفر لكنها لا تنقش في التفكير أبداً. وتقول الحداِد الأسود لحياة بأكملها». قدم المترجم المؤلفة في إضاءات نفيسة لمسيرتها الشاهقة وحقبتها العاصفة بالحروب وصداقاتها وعشاقها وأسرتها ومرجعياتها الفكرية والسياسية وما مثلته في زمانها من تهديم، وما هو بالتأكيد الصميمي المتجاوز والمغوي بشتى الأساليب والسرديات والدلالات والمراجع. فالكاتبة أحيطت بالشاشات والإعلام والأصدقاء والشخصيات السياسية البارزة في أعلى هرم السلطة كالرئيس ميتران. أما ما أجمع عليه النقاد لأعمالها فجعلها ذائعة الصيت ومحاطة بالكثير من المفاهيم الفكرية والنفسية، فقد لاحقها المديني عبر جميع مؤلفاتها وسيناريوات أفلامها التي صدرت في كتب وأفلام: «توجّه نحو الإضمار والحذف- والاقتصاد الشديد- صعوبة التلقي واستدعاء نمط قراءة مختلف».
التابوت أمامنا كان صقيلاً وأنيقاً، وما يحاط به من باقات وسلال من أنواع زهور لم أرها من قبلْ، ومواكب من شخصيات وأصدقاء قدامى، وتاريخ تراكم بالتراتبية والسلطات والطبقات. ودوراس أستطيع الركون إليها كواحدة من المرجعيات في القوة العدوانية للكتابة إن جاز التعبير. حسناً، كانت دوراس هناك هادئة، ونحن ندور حولها ونودعها في تلك الظهيرة الجنائزية، الصديقة الناقدة يمنى العيد وأنا ونشم عبق بخور «نائب القنصل» في الهند، عندما حضرنا قداسها في إحدى الكنائس الشهيرة في باريس، قبل أن نغادر طلب منا الكتابة في سجل الضيوف. غادرتْ المؤلفة قبل إدمان «ثقافة» التواصل الاجتماعي السائدة في العالم، ترى، هل سيعتم عليها، أو تعاني من إهمال ما لسوء قراءة، أو بقصد هي لن تمتلك الأرشيف المليوني الافتراضي. «وإننا لوحيدون في وحدتنا الخاصة نفسها، هذه التي تظل دائماً لا قبل لنا بها، دوماً خطرة. أجل، إن ثمة ثمناً نؤديه لأننا جرؤنا على الخروج والكتابة».