خاص- ثقافات
*ماريا بوبوفا/ تعريب: إبراهيم قيس جركس
“في كل يوم نتغيّر قليلاً، والشخص الذي كُنّاهُ البارحة قد مات. إذن لماذا نقول أنّنا نخاف من الموت، طالما أنّه يأتينا كل يوم، ويمسّنا طوال الوقت”.
[جون أبدايك. 18 مارس 1932- 27 يناير 2009]
((إنّ لغز الوجود لغزٌ دائم، بالنسبة للوضع الحالي للدماغ البشري على الأقل)). هذا ما قاله جون أبدايك للكاتب جيمس هولا في كتابه التأمّلي الذي يضمّ رحلة تحقيقاته الوجودية “لماذا العالم موجود؟”. لكنّ أبدايك كان يتأمّل سؤال الوجود بتمعّن وجدّية منذ فترة طويلة: جزء لابأس به من مذكّراته الرائعة عام 1996 “وعي الذات” مكرّس للحديث عن مسألة مابعد الحياة _أهمّ المسائل وأحد أشكال الهروب الإنساني من اللايقين الساحق للروح ومصيرها_ وما الذي يعلّمنا إياه بشأن الحياة الوحيدة التي نمتلكها، هذه الحياة التي نعيشها الآن:
((إذا ما تصوّرنا الحياة الأخرى، فإنّها _إذا ما أردنا الحديث بصورة هرطقية_ الهروب نحو شيء غير محسوس أو ملموس _”الأنا” الجوهرية_ من هذا اللحم البالي المعرّض للفساد، الذي يصيبه لحظة الموت… مجرّد التفكير بهذه الفترة الزمنية الطويلة التي سنقيضها داخل القبر يملأنا رعباً وخوفاً من الضياع إلى الأبد، أين ستكون ذاتنا خلال هذا الرقاد الأبدي طويل الأمد؟… إنّ فكرة أنّنا سننام لقرون طويلة من دون ومضَة حلم، بينما تتحلّل أجسادنا وتتحوّل عظامنا إلى رميم، حتى شواهد قبورنا الحجرية ستؤول غباراً، مرعبة ومضنية بقدر فكؤة الفناء ذاتها. وكل محاولة لتصوّر الحياة الأخرى وتحديد ماهيتها _بل حتى مجرد تصوّرها بشكل عام_ تفزعنا)).
لكنّ أبدايك يذكّرنا بأنّ الموت، لا يعني فناء الذات نفسها، بل مجرّد ظهور آخر لحقيقة أنّ شخصياتنا سلسلة من التطورات المتراكمة، وأنّ ذواتنا فيّاضة وسيّالة دوماً:
((ليست الذات ظرفية فقط، بل تموت أبضاً. في كل يوم نتغيّر قليلاً، والشخص الذي كُنّاهُ البارحة قد مات. إذاً لماذا نقول أننا نخاف من الموت، طالما أنه يأتينا كل يوم ويمسّنا طوال الوقت؟ من الممكن كره ذاتنا السابقة حتى، تلك النسخة الماضية عنا والتي تخلّصنا منها. على سبيل المثال، ذلك الشاب الذي كنتُهُ خلال مرحلة المدرسة الثانوية _كان نحيلاً، خجولاً، رَثّاً، غبياً، متهوّراً، يخشى أن يكون مرئياً، معذّباً بما فيه الكفاية، يُلقي بلا هوادة رسومه الكاريكاتورية وملصقاته ونكاته وقصائده الصاخبة عن عجز المدرسة الثانوية_ يصدمني الآن. أراه بغيضاً إلى أبعد حد. لكنني مدينٌ له رغم ذلك: فمن دون طموحه المحموم وشعوره بعدم الأمان لما كنتُ أقطن الآن هافِن هيل [كما كان يسمّي الآخرون منزلي الحالي])).
في هذا الصدَد، يقول أبدايك، العمل _أي عمل الكاتب_ يخدم نفس وظيفة الدين (الذي، كما وصفه مارك توين، مهمّته نقل الأنا الإنسانية). الكتابة بحدّ ذاتها تنطوي على آلية مكافأة وإثابة كامنة بداخلها _من ضجيج الروتين اليومي الصارخ إلى نعيم المكافآت ومتعة التكريم_ تؤكّد على وجود الكاتب، وتثبت كينونته، وتهدّء وعيه القلق بإدراكه للفناء الذي ينتظره، وتلهيه _كما يفعل الدين_ كما يفعل الدين_ عن الخواء والعَدَم المحتوم الذي يتوجّه إليه وجوده:
((بالنسبة لغالبية الناس، العمل هو الدين الفعّال، انشغال طقسي وتوجّه مُتَعَنّت يسمح لهم بالاعتقاد بأنّ مشكلة موتهم الخاص قد تمّ حلّها. يقول أونامونو: “العمل هو العَزاء العملي الوحيد لموتكَ قد وُلِدت”. مهنتي التي اخترتها لنفسي _وتشتّت الذات وتضاعفها من خلال أعمال الطباعة والنشر، وإفرازها اليومي كلمات أكثر، وفي نهاية المطاف تحويل تلك الكلمات إلى كتب_ بالتأكيد هي عَزَاء عملي وفعّال، نوع من الدرّاجات الهوائية التي ستلقي بي أرضاً إذا توقّفتُ عن التدويس. الدين يساعدنا على تجاهل العدم الذي ينتظرنا ويمنحنا القدرة على مزاولة أعمالنا ومهامنا اليومية)).
مقتبساً من مقابلة مع رجل دين تصوّر الحياة الأخرى على النحو التالي: “هذه الحياة تتمّ مراجعتها، ثمّ عرضها من منظور جديد”، يجد أبدايك _الذي خَلَع افتتانه مع مرور الوقت ضمن كتابه الجميل والأقل شهرةً الذي وجّهه للأولاد عام 1965 A Child’s Calendar_ نفسه منزعجاً بشكل غريب من هذا المفهوم ويتفكّر ملياً في اتجاهه الذي لارجعة فيه ببلاغته المعتادة:
((أليس تفرّد هذه الحياة [كونها الحياة الوحيدة التي نحياها] هو الشيء الذي يرعبنا؟ أليس الفارق الكبير بين المَلهاة والمأساة لأنّ المأساة تحرمنا من أي فرصة أخرى؟. يعبّر شكسبير مراراً وتكراراً عن فرادة هذه الحياة _عدم قابلية قراراتنا للتغيير والتراجع عنها، مهما كانت متسرّعة وجنونية. كم هي كبيرة ومثيرة للشفقة حياتنا التي تلوح في أفق فرادتها ومحدوديتها، كم هي خطية ومتصلّبة حياتنا، مع أنّ كوكبنا الكروي الدائر حول الشمس يعرض علينا دورات اليوم والسنة ليُفهِمَنَا بأنّ الوجود دائري أو دوري بامتياز، الوجود عبارة عن دورة لعوبة، وأنّ الشمس ستشرق دوماً، وسيكون دائماً هناك صباح غد، وفرصة أخرى)).
في نهاية المطاف، يعود أبدايك إلى الكتابة بوصفها ديانته وملكوته وقدس أقداسه، “صوته المتبقّي الوحيد”، وبالتحديد لأنّها تخفّف _حتى لو كان عن طريق الإيهام المتَعَمّد_ من وَقع الوزن الفائق والذي لايطاق لهذا الوعي:
((الكتابة… إدمان، انعتاق وهمي، ترويض افتراضي للواقع، ووسلية للتعبير بخفّة عن ما لا يُطاق. كوننا نتقدّم بالسّنّ ونخلّف ورائنا هذا الرُّكام المُبَعثَر من ذواتنا الميّتة والبالية، هي الحقيقة الثقيلة والأكثر شيوعاً في العالم _ذلك يحدث لجميع الناس. في نور الصباح، يمكن للمرء أن يكتب بنشاط وابتهاج، بدون أدنى تسارع لنبضه، عن ما لايمكن للإنسان تأمّله والتفكير فيه في الظلام من دون أن يهرع مذعوراً إلى يدي الله. في الظلام، يشعر المرء بذلك التدفّق والانسياب الهائل، ذلك التحوّل للأرض الواسعة إلى ظلام وشتاء أبديين، آخذاً معه كلّ الأثاث والمناظر، والسهوات البرّاقة واللمسات الدافئة، من حياتنا. وحتى أكثر الحقائق الأرضية تجريداً ثقيلة بصورة لا تحتمل، ومُثقَلَة بموتنا الشخصي. الكتابة من حيث أنّها فعل يعمل على تخفيف ثقل العالم _عن طريق ترميزه، وتشويهه، وتزيينه، وتفعيله_ شبيهة بالهرطقة)).
____________
كتاب ((وعي الذات)) عبارة عن خزينة غنية بجواهر الحكمة والفلسفة.
المصدر: Brainpickings.org