عن الكتابة و الولادة

خاص- ثقافات

*آسيا رحاحليه

كنت لسنواتٍ أكتب نصوصي القصصيّة بهدوء و فرح . أكتب القصة الواحدة في وقت قصير، و حين أنتهي يكون الفرح مضاعفًا. يتملّكني إحساس بالانتشاء و بالامتلاء و كأنّ القصة أضافت لي شحنة، زوّدتني بطاقةٍ، أو ملأت، بشكل من الأشكال، فراغا بداخلي.
منذ سنة دخلت تجربة الرواية وعشت الفوضى بحالتيها :خارجية و داخلية .و حين أنهيت النص و وضعته جانبا لم أجد اللذّة ولا الفرح الذي كنت أجده مع القصة.
الحقيقة أحسست بفراغ رهيب و في لحظة بدا لي كأنّي ألوم النص لأنّه انفصل عني و تركني في حالة خواء كبير.g
أيكون لذلك علاقة بالمدة التي استغرقتها في كتابته؟
هنا وجدتني أفكر في الولادة/ لغة و ليس مجازا / و الكتابة كتجربتين تشتركان، لحد ما، في عامل المدة الزمنية و الجهد، و في عمليّتي البدء و النهاية / البدء؟ انقباضات الفكرة/ انقباضات الرحم!  / و كمعنَيين كثيرا ما تجاورا ( ولادة النص، كتبي أولادي، مخاض الكتابة،الكتابة ولادة، مولود أدبي جديد…) و خلصت، باعتباري امرأة مرّت بالتجربتين و عاشت الحدثين، إلى أنّه لا يمكن مقارنة الكتابة بالولادة سوى في حالة واحدة : الامتلاء و الانفصال بانقطاع ” الحبل السرّي”. يكون النص في أعماقك، بداخلك، في جسدك .. في مكان ما من قلبك و رأسك ثم ينفصل عنك تماما كما ينفصل الجنين لحظة الولادة. لكن الكتابة كفعل إبداعي متعة بينما الولادة ألم. منطقيا لا يمكن أن تجتمع المتعة و الألم و لا اللذة و العذاب إلاّ في تهويمات الشعراء. المخاض و ألم الولادة هو ألم صرف لا أثر فيه لأيّة متعة..و الغريب إنّه ليس ذلك الألم الذي ينتهي بالمرأة إلى فقدان الوعي و الدخول في غيبوبة، بل ألم حرون متعنّت  يشلّ تفكيرها في أيّ أمر عداه  و يجبرها على أن تعيشه بكامل وعيها ثانية ثانية و دقيقة دقيقة حتى النهاية . تنفصل المرأة عما حولها فلا يحضر سوى الألم بكل تجلّياته، بكل ثقله، و يغيب الزمن، لا يغيب فعلا و إنّما يقاس بمقياس الألم فتصبح الثانية الواحدة دهرا كاملا.
أنجبت ابنتي في ليلة من ليالي فيفري و كان في غرفة الممرضات تلفزيون و أم كلثوم تغني، كانت احتفالية بمناسبة ذكرى وفاتها، و قالت لي الممرضة و تعرف عشقي لأم كلثوم..استمعي. و نظرت نحو الشاشة و الألم يمزّقني و قلت .. أعشقك يا ست لكني الآن في عالم آخر و حالة أخرى / أعتقد حتى الحالة النفسية تختفي لحظة المخاض و لا يبقى سوى الألم الحقيقي، الملموس جدا، الواضح جدا، الحاد جدا، الصارخ جدا. ربما لا توازيه حدّة سوى طعنة خنجر ذي حدّين في الخاصرة../ و هذا أيضا لم أجرّبه لكي أجزم ! /
كنت أدور في الرواق و أضرب الجدار بكفيّ و في رأسي سؤال واحد : ما هذا يا الله ؟؟  رغم أنّي قرأت عن سير العملية و استعددت لها إلاّ أن الألم فاق كل تصوّر.
كامرأة أرفض أن يقارن فعل المخاض أو الولادة بأيّ عمل أو أيّ مجهود أو أيّ انجاز إنساني، في أيّ مجال و ليس في الأدب فقط. يطلق على المرأة لحظة الولادة..mother in labor/  femme en travail/ ما يوحي بأنّ المرأة، أو جسدها، يقوم بعمل ما. الأمر أكبر بكثير.. لا يمكن أن تجد له شبيها و المرأة نفسها لا يمكن أن تصفه بدقّة مهما حاولت. كان الأجدر قول : mother in combat لأنّ الولادة نضال. تصوّر مثلا نضال أحدهم، في قضية مصيرية و بوسائل بدائية و لمدة عشرين سنة، مختصرا في ساعات..
هكذا أتصوّر الأمر إذا كان لابد من التشبيه.
و أنا أبحث في جوجول وجدت هذا السؤال في مقال للروائية باميلا ايرنز: لمَ تغيب قصص عمليَات الولادة عن الأدب المُتخيَّل؟ و قفز الجواب أمامي في الحال : ببساطة لأن ألم الولادة يُعجز الخيال ..خيال الأديب. إذا كانت المرأة التي تعيش التجربة تعجز عن وصف الألم بالتدقيق و بالحد الذي يمكن أن يصل إلى الآخر، فكيف يستطيع الرجل ؟ / السبب بالتأكيد، جزئيًّا، هو أنَّ عمليَّة الولادة تختص بالدم والمُعاناة ولكن بالدم والمعاناة “تحت”، تعلم، المهبل../ تقول باميلا ..و جيّد أنها قالت ” جزئياّ”. ..
كم عشقنا من نزار قباني ” حبك مثل الموت و الولادة صعبٌ بأن يعاد مرّتين ” و نسينا أنّ نزار لم يجرّب الولادة / و لا الموت وقتها/
عندما أقرأ لــ منصف بندحمان في مقاله مخاض الكتابة قوله/ الكتاب عصارة فكر وتجربة ومخاض عسير، يفوق أحياناً وبكثير مخاض الولادة / لا أملك سوى أن أضحك و أتساءل من أين أتاه هذا اليقين و هو لم يجرّب المخاض ؟ و أقرأ للناقد المسرحي بن يحيى علي عزاوي ” الكتابة مثلها كمثل مخاض الولادة القيصرية،بل في بعض الحالات هي أكثر …” أتعجّب من قدرة أحدهم على وصف إحساس لم يمر به ثم الولادة القيصرية أصلا لا يرافقها مخاض!
قرأت أنّ الولادة هي ثاني أقسى ألم في العالم بعد الحرق حياً، ومعدل الألم الطبيعي الذي يستطيع أن يتحمله الإنسان 45 وحدة ألم، بينما المرأة عند الولادة تتحمل 57 وحدةَ ألم وهذا الألم يشبههَ أو يساوي ألم كسر 20 عظمة..لست واثقة من هذه المعلومة و لكنها الأقرب في تصوّري لوصف ألم الولادة.  إنّه ألم كبير.أكبر من اللغة..لدرجة استعصائه عليها . لذلك لا نجد له وصفا دقيقا واضحا في كتابات المرأة .و تكتفي الكاتبات بوصف الحدث على غرار ( ..و لم تدخل المستشفى إلا لتلد..عادت تحمل طفلا جميلا بصحة جيدة .) / حسيبة طاهر من قصة ” القبل القاتلة”/
لكن ماذا هناك ما بين ” تدخل” و ” عادت”؟ ..ذلك الزمن الذي كأنّه الأبد ؟
هل يُعجز الألم اللغة؟
أشاطر باميلا دعوتها للنساء المبدعات للكتابة عن الأمر فهو يستحق . تقول : ))ولكن لمَ على قصص المخاض والولادة أن تُصبح عربات لاكتشاف أمور ذات أهميَّة قصوى، بينها الانشطارات السريعة التي تجذبنا للخيال في المقام الأوَّل: الإرادة والقدر، الشجاعة والرُعب، الحُب والكُره، المعنى والفراغ، القوَّة والضعف، المُتجسَّد والمُبهم؟ كل ولادة تعبث بهذه الاحتمالات، وليكتبوا هذه القصص، يجب على الكُتَّاب أولًا أن يُصدقوا أنَّها مُهمَّة: خصبة، لتُستخدم كمجاز مُناسب، وعلى النساء أن يتجاوزن عادتهن لأن يُشاركن التفاصيل فقط في السر مع نساء أُخريات مررن بعمليَّة الولادة أنفسهن، عليهن أن يُصارعن أي صدمة مررن بها – طبيب قاسي أو صدمة ألم كسرهن في لحظات أو اكتئاب ما بعد الولادة أو عيب ولادة أو طفل وُلِد ميتًا، عليهن أن يصلن للذكريات التي جعلها الأدرينالين والتعب غير واضحة، وأن يضعن جانبًا عار ما تصرفن عليه في تلك الظروف القصوى. سيكون الأمر يستحق ذلك.((
*و أنا أكتب هذا المقال جاءني خبر وفاة ابنة صديق لي و هي تلد/ رحمها الله / 03/01/2017
_______
*أديبة جزائرية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *