جثّتان في سرير بارد

خاص- ثقافات

*وليد أحمد الفرشيشي (ديوجين)

لم يحوّل عينيه عن سقف الغرفة. لم يكن في مقدوره أن يفعل غير ذلك.

*  *  *

إذا شئنا الدقّة، كان هذا أقصى ما يمكن أن يفعله وهو يجد نفسه مثبتا بقوة قاهرة في السرير، ذلك السرير الذي شكل في ما مضى ما يمكن لي شخصيا تسميته بالاحتواء العاطفي لعلاقة ميّتة من الأساس. في قرارة نفسي، وأنا أكتب هذه القصة، لا أرغب في إزعاج أحد عبر سرد مملّ لحدث تخيّلته وأنا أفكّر في شيء يخيّب آمال أيّ قارئ يبحثُ عن عاطفة ما في رائحة الحبر. ومع ذلك لم أقصد أن أزعج هذا الرجل الذي وضعته- أو ربّما وضع نفسه- في هذه الوضعية الغرائبية.

ولكنّ الأمر حدث هكذا بالنهاية. فالرجل لم يستطع تحويل عينيه أبدًا عن السقف مثلي تماما وأنا أختار له هذه الوضعيّة لسبب عبثي لا علاقة له أصلا بأيّ حبكة. وأقسم أني سأكون مخادعا لو قلتُ عكس ذلك.

هل يبدو الأمر غريبا؟ أعني أن أبتكر شخصيّة أضعها أمام أشدّ كوابيسها قتامة؟ لا أعتقد أنّ هذا الأمر سيكون أغرب مما سيحدث بعد ذلك. فبالنهاية، سأكون مخادعا أيضا، لو جزمت بأنّ لي السلطةُ، كل السلطة، على حياة ما خلقته. أعرف أن الله سيضحك كثيرا حين أعترف بذلك. لكن ما دخل الله في قصّة رجل عيناه لا تتحوّلان عن السقف؟ هذه كلّها تفاصيل، أقولُ لي، لا تعني أحدا ولا حتى للرجل الذي ينظر إلى السقف. لأنّ ما حصل بعدها يتجاوزني. سأدّعي أنه تجاوزني. ذلك أنه لم يحاول أن يحدث صوتا حتى لا يوقظ زوجته. هل قلت زوجته؟ يبدو أن الأمر يتعلّق بزوجته، وهذه مسألة نعتبرها مهمة في قصة هذا الزوج الغريب الذي وجد نفسه في هذه الوضعية الغرائبية.

ورغم أنه لم يحاول أن يحدث صوتا، ولم ينجح في أن ينتزع عينيه من سقف الغرفة، إلاّ أنه تمكن أخيرا من سماع صوت تنفسها الرتيب. وهنا حاول تحليل الموقف. هل هي مستيقظة أم لا؟ لا يمكن الجزم بذلك ولا حتى أنا. أنا الذي يكتب قصتهما الآن. لكن ما شأني وما يفعلانه بالضبط؟ لأن الأمر حدث بهذه الطريقة. أعني بـ “هذه الطريقة” ما سيحصل بينهما فيما بعد.

إذ أنّ الرجل، وهو يحلّل الموقف، دون أن ينتزع عينيه من السقف، فكّر في أن زوجته مستيقظة. أو ربما هي نصف مستيقظة. أو ربما هي تتناوم. بل حدس أنها مثله لا تستطيع أن تنتزع عينيها من سقف الغرفة وهو ما يعني بداهة أنها مستيقظة. لكل هذا قرّر أن يجازف بمقارعة استنتاجاته المتضاربة بالواقع.

*  *  *

“حبّي”، قال بصوت بارد. ليس باردا تماما بل كان صوتا زجاجيا شفافا ومحايدا. هو اعتقد ذلك وفكّر أنها الطريقة الوحيدة ليعرف فعلا إن كانت في مثل وضعه أم لا. هكذا تم الأمر وهكذا خرج صوته زجاجيا بتلك المفردة “حبّي”. هل يوجد حياد في المفردات؟ هل يوجد حياد في الحبّ؟ دعونا نكتشف ذلك معا.

“ماذا تريد”، قالت المرأة، التي بدت فعلاً مستيقظة. وهنا تكمن كل الدهشة. فعمليا لم يكن في الحسبان أن تكون الزوجة مستيقظة، على الأقل حسب الخط السردي الذي وضعته لها، وهذا ما يدهشني في الواقع مثلما أدهشني أنها هي الأخرى لم تستطع أن تنتزع عينيها من سقف الغرفة.

“إذن أنتِ مستيقظة؟” سأل الرجل بنفس الصوت الزجاجي.

“لا أعرف”، ردت المرأة، بنفس الصوتِ أيضا. رغم ذلك بدا من صوتها أنها مستيقظة. لكنه إلى حدود هذه اللحظة، لم يكن يعرف أنها عاجزة هي الأخرى أن تنتزع عينيها من السقف.

مرة أخرى كسر الصمت بينهما.

– حبّي، إني أشمّ رائحة كريهة. هل تشمين هذه الرائحة الكريهة؟

– لا. هل تشم أنت رائحة كريهة؟

– لا أعرف. تبدو الرائحة كريهة. كريهة إلى حدّ لا يطاق.

ظلت بلا حراك، ولاحظ الرجل في الأثناء أن رفيقة السرير لا ترغب في الحديث.

– حبّي! من أين تأتي هذه الرائحة. يبدو الأمر وكأنه ثمة جثة تتعفّن في غرفتنا.

قالت المرأة أخيرا:

– لماذا السقف يبدو بعيدا هكذا؟

– أنت أيضا تنظرين إلى السقف؟

– هل تنظر أنت إلى السقف؟

– هذا ما حاولت أن أقوله لك. الحقيقة أني كنتُ أفكّر.

– في ماذا كنتَ تفكّر؟

– في السقف ربّما. يبدو بعيدا جدّا. ولكني أفكّر أيضا في تلك الرائحة الكريهة. هل تشمينها أنتِ مثلما أشمها أنا. أكاد أختنق.

– أنا أيضا أكادُ أختنق. ولكن ليس بسبب الرائحة.

– إذن…؟!

– نعم يبدو السقف بعيدًا.

أراد أن يشبك يديه وراء رأسه، أقصد بين رأسه والوسادة، ولكنه لم يقدر.

قال:

– حبّي!

– ماذا؟ قالت الزوجة

– هل أنت نائمة؟

– هل أبدو لك نائمة؟

– لا. كنت أسأل فقط. صحيح. تبدين مستيقظة. أنا أيضا لم أستطع النوم. ربما هو السقف أو ربما هي الرائحة.

– نعم. ربّما…

– كنت أتمنى لو أني استدرتُ وأدخلت يدي تحت الملاءة وربت قليلا على خاصرتك أو ربما نزلت قليلا نحو…

– نعم. كنت أتمنى ذلك.

– إذن لا تنامي الآن. قد أفعلها بعد قليل.

أراد أن يضحك. لكنه لم يستطع أيضا. لم يفكّر بالأمر كثيرا مثلما لم أفكر أنا الآخر كثيرًا في هذا الموقف المزعج. إذ لا توجد أيّ إثارة في الموضوع إلى حدّ الآن.

– حبّي!

– ماذا؟

– كنت أفكّر في مسائل كثيرة. لا تنزعجي، ليس من بينها السقف والرائحة. وإنما مسائل قد تتوقف عليها حياتنا معا. هل تصغين، يا حبّي؟

– نعم.

– قلت كنت أفكّر في مسائل كثيرة قد تتوقف عليها حياتنا معا.

– مثل ماذا؟

– مثل…مثل…

بدا وكأنه يبحث عن خيط جامع لأفكاره وسط حقل عامر بالجثث. استجمع أفكاره فجأة، بتأثير منّي ربّما، وقال:

– حياتنا تبدو رتيبة بالفعل. ألا تبدو لك رتيبة وخالية من الإثارة؟

– نعم. نعم. خالية من الإثارة.

– عمليا يبدو الأمر أشبه بعملية حشر متقنة في علبة سردين.

– ما الذي تقصده بعلبة سردين؟

– أقصد أننا محشوران في علبة صغيرة، ممدان هكذا بلا حول منا ولا قوة، وعاجزان عن الفكاك منها.

– آه…غمغمت المرأة.

– أقصد أنه منذ زواجنا لم يتغيّر أي شيء. حقا، متى تزوجنا؟

– لا أعرف. تزوجنا. هذا ما أعرفه.

– كان ذلك منذ سنوات. لا أعرف متى بالضبط؟ ولكن متى كان ذلك؟ يبدو أن الوقت لم يعد له قيمة. نحن عادة ننسى الأشياء التي لم تعد لها أيّة قيمة. أليس كذلك؟

– صحيح. نحن تزوجنا ونسينا في ما بعد متى تزوجنا. يبدو أن الوقت مثلما قلت لم يعد له قيمة.

سكت أخيرًا. كان تنفسها المنتظم يأتيه وكأنه خارج من دائرة غير دائرة الوقت نفسه.

– حبّي، هل تصغين إليّ؟ يبدو أنّك نمتِ.

– لا. لم أنم.

كادت أن تخبره أنها مثله لا تستطيع النوم. ولكنها سكتت.

– قلت كنت أفكّر في أن نحدث أمرا جديدا في حياتنا.

– ما الذي تقترحه؟

– لا أعرف بعد. ولكن في داخلي ثمة صوت يقول لي إننا يجب أن لا نموت قبل الأوان. يجب أن نشيخ أولا ثم نموت. نحن مازلنا بعد أطفالاً.

– الأطفال لا يتزوجون. ونحن تزوجنا منذ…أقصد أننا متزوجان.

– هو تعبير مجازي لا أكثر ولا أقل.

– كعلبة السردين؟

– نعم مثل علبة السردين. تذكّري أننا لم نعش بعد ما كان ينبغي لنا أن نعيشهُ.

– وماذا كان ينبغي لنا أن نعيشه؟

– لا أعرف. أعتقد أنه لدينا سنوات أخرى لنعيشها. يجب أن نعرف ماذا سنفعل بها. يجب أن يكون قرارنا مشتركا.

– نعم. تأوهت المرأة قبل أن تضيف:” وماذا عن السنوات التي عشناها ولم نستطع تذكرها؟

– أفضّل أن لا نتذكرها. سنبدأ تحديدا من هنا. أعني من قرارنا المشترك حول ما سنفعله بما ينتظرنا من سنوات.

– ألا ترى أنه سيكون قرارا بلا جدار يسنده.

– توصيف دقيق يا حبي. نعم الجدار. لكننا للأسف لا نتذكّر ما حدث قبل هذه الليلة. ألا ترين الأمر غريبا.

– نعم هو غريب بعض الشيء. ماذا حدث قبل هذه الليلة؟

*  *  *

هنا كان عليّ أن أتدخّل قليلاً بعد أن شعرت بالانزعاج. فالطريق الذي سلكها هذا الأحمق في حواره الرتيب مع زوجته المملّة تخفي نيّة مبيّتة في اقتراف شيء ما لا أعرفه بعد ولكن بخبرة الكاتب أحسّه. فكّرت أن أفضل طريقة للجمهما معا هو أن أمنحهما بعض الحرّية. وهمُ الحريّة عادة ما يحسّن شروط العبودية. هكذا كنت أخاطبُ طلبتي. وهكذا فعلتُ مع الزوجين.

– أظنّ أننا تعشيّنا معا لنذهب بعدها إلى السرير.

– صحيح. تعشينا معا وذهبنا بعدها إلى السرير.

– ماذا تعشينا بالضبط؟

– أعددت طبق المقرونة الذي تحبّه وسلطة بالـ……نسيت.

– سلطة بالسردين.

– نعم سلطة بالسردين. هو ذاك سلطة بالسردين. وانت شربت بعدها ماء.

– لا لم يكن ماء.

– كان ماذا؟

– ويسكي.

– آه….صحيح…ويسكي. أكلت السلطة بالسردين ثم المقرونة ثم شربت الويسكي.

– شربت كأسا واحدة. تلك عادتي بعد العشاء. عادتي؟ تبدو الكلمة جديدة عليّ بعض الشيء..

– نعم. تبدو جديدة بعض الشيء وغريبة.

– وما الغريب في الأمر؟

– أن تتذكّر كل هذا وتنسى اليوم الذي تزوجنا فيه.

– لم أفهم.

– أليس الزواج يدخل ضمن العادات التي نتذكرها؟

– فعلا. كيف غاب عني أن الزواج هو عادة أيضا. ومع ذلك أفشل في تذكر بعض الأشياء. يبدو يوم زواجنا أمرا مهما. لماذا لم نتذكره بعد؟

– أنا أيضا لا أتذكّر. قالت بصوتها الرتيب.

– كأس الويسكي كانت لاذعة.

– نعم لاذعة.

– هل شربت معي كأسا.

– لا أتذكر.

– كيف عرفت أنها لاذعة؟

– لا أعرف. نبتت الفكرة في رأسي هكذا.

– غريب. مثلي تماما. لقد نبتت الفكرة في رأسي أيضا ولا أدري كيف تسللت إليه. حبّي، هل تشعرين بما اشعر به؟

– ماذا؟

– يبدو أننا لسنا وحدنا.

– كيف عرفت؟

– هو إحساس لا أكثر ولا أقل. ثمّ هناك هذه الرائحة الكريهة التي تأتي من مكان ما في الغرفة. رائحة كريهة لا تطاق. لقد استنتجت أنها لا تصدر منّي.

– ولا مني أيضا. قالت المرأة بتأفف ظاهر.

– لهذا استنتجت أنّنا لسنا وحيدين تماما. هناك شخص ما أو شيء ما معنا في الغرفة.

مرّة أخرى كان عليّ أن أتدخّل في توجيه دفّة حوار هذين الأحمقين تجنّبا لما لا يمكن لي أن أواجهه في ما بعد. ثمة أمور يجب أن تسيطر عليها منذ البداية حتى لا يفلت الزمام منك.

– حبّي، ما زلت تصغين إليّ؟

– أجل.

– ما رأيك لو غيّرنا حياتنا بشكل جذري.

– كيف ونحن عاجزان عن انتزاع أعيننا عن السقف.

– نحن نفكّر وهذا ما يفسّر ما يحدث معنا إلى حدود هذه اللحظة. قلتُ إننا نحتاج إلى تغيير حياتنا بشكل جذري.

– ماذا تقترح؟

(هنا بصماتي ككاتب ستكون أكثر وضوحًا)

– ماذا لو سألتك، ماذا تريدين أن تفعلي بحياتنا معا؟

– أشياء كثيرة.

– مثل ماذا؟

– أريدُ طفلا.

– كنت أفضل جروا.

– ما بهم الأطفال؟

– سيجعلوننا نشيخ فجأة وننسى أنفسنا.

– والجراء؟

– ستظل جراء حتى وإن كبرت.

– كيف يظل الجرو جروا حتى وإن أصبح كبيرا؟

– هكذا نبتت الفكرة في رأسي. لا أعرف. لكني أحسّ أنها ستظل جراءً. ما هي الأشياء الأخرى التي تفضلين أن تقومي بها لتغيير حياتنا.

– أريدُ طفلاً.

– طيب. فهمت. فهمت. ماذا أيضًا؟

– أن أكون أمّا.

– أنت تكررين نفسك. سألتك عن أشياء أخرى أكثر عملية قادرة على تغيير حياتنا.

– أريدها بنتا.

– حياتنا؟

– لا الطفل الذي أريدهُ يجب أن يكون بنتا.

– لماذا لا يكون ولدا؟

– هل تحب الأولاد؟

– لا. سألت لأعرف فقط لماذا يجب أن تكونَ بنتا؟

– لا أعرف. هكذا نبتت الفكرة في رأسي.

– لماذا تنبت هذه الأفكار فجأة.

– لا أعرف.

– ألا يبدو لك أنه ثمة شخص ما يحشو رؤوسنا بهذه الأفكار.

– كيف حدست ذلك؟

– قلت لك إن هناك هذه الرائحة الكريهة التي تأتي من مكان ما في الغرفة. هذه الرائحة تخفي أمرًا ما.

– بدأت أحسّ بذلك فعلاً.

*  *  *

اللعنة! قلت لنفسي.

الوغدان وضعا قدما في دائرة الوقت. وهذا ما لا يستقيم مع ما كنت أفكّر فيه. لماذا يتطفّلان على المحرّم عليهما. لماذا يقتربان من تلك الثمرة التي نزعت مذاقها تماما من رأسي القش هذين؟ هل لأنّي منحتهما ذلك الوهم؟ هل لأني حشوتُ رأسي القشّ بأفكار بسيطة بلا معنى؟ هل أمنحهما كلّ شيء وأنجو من الخطر؟ لكن ماذا لو منحتهما كلّ شيء؟ سينقلبان عليّ بالتأكيد.

تلك العاهرة تفكّر في الإنجاب. لو منحتها ذلك ستفسد الحبكة ولن يكون هناك معنى للموقف الذي وضعتهما فيه. لا. لن أمنحهما كلّ شيء. بالمقابل سألهو قليلا. نعم هذا ما أفعله دائما.  حتى وإن كلفني ذلك عصيانا أعرف كيف أخمدهُ. أعرف هذا جيّدا. أعرف ذلك من تجربة لي مع أحد طلبتي في الفصل حين سفهني أمام الطلبة حين بدأت في شرح درس مستويات الخطاب السردي في أسطورة الخلق. طردتهُ وكنت سعيدا بإخماد تمرّد تافه في فصلي.

سألهو قليلاً مع هذين الوغدين.

– سبع سنوات…!

– ماذا؟ تساءلت المرأة في هدوء.

– تزوجنا منذ سبع سنوات.

– آهه…كيف تذكرت هذا؟

– هكذا…

– فليكن. سبع سنوات.

– مثلما أتذكر ما حدث ليلتها.

– عن أيّ ليلة تتحدث.

– ليلة أمس.

– الليلة التي تعشيت فيها طبق مقرونة وسلطة بالسردين وشربت بعدها كأس ويسكي لاذعة؟

– هي بعينها.

– ماذا تذكرت؟

– كان معنا بالفعل شخص آخر. كان معك أنتِ تحديدا؟

– كان معي شخص آخر؟

– نعم كان معك شخص آخر. الآن أتذكر كل شيء بوضوح.

– أنا لا أتذكر شيئا.

– قلت لك صباحا إني سأعود متأخرا.

– هل عدت متأخرا؟

– كنت أراقب المنزل من بعيد. ورأيت ذلك الرجل يدخل. عرفت فيما بعد أنه طالب بالجامعة.

– كيف عرفت؟

– وجدت بطاقته في جيب سرواله فيما بعد.

– كيف عثرت عليها؟

– لأني قتلته. حين دخلت المنزل، تسللت إلى غرفتنا هذه. ووجدتك في حضنه. فأرديته على الفور.

– آه. قالت المرأة بصوتها الرتيب.

– ثم طلبت منك إعداد العشاء.

– وكأن شيئا لم يحدث.

– لا أعرف. هذا ما أتذكره. في الحقيقة، لا أدري كيف تذكرت كلّ هذا؟

– والمقتول؟

– ما به هذا المقتول؟

– أين أخفيت جثته.

– في الحديقة. ألا تذكرين كيف دفنته حذو تلك الشجرة.

– أيّ شجرة.

– تلك الشجرة التي فكرت يوما في قطعها لأنها لا تجلب سوى الغربان.

– نسيت. أوووف. كيف نسيت هذا؟

– ولكنّي قتلته بيدي العاريتين أمامك.

– حسنا. أصدقك. ولكن…

– ولكن ماذا؟

– من أين تأتي هذه الرائحة التي لا تطاق إن كنت دفنته في الحديقة؟

– هل تشمينها أنت أيضا…؟

– الآن أشمها. يبدو أن هناك شخصا آخر في الغرفة معنا. أحسّ بذلك.

– قلت لك هذا منذ البداية ولكنك لم تصدّقي. هل تحاولين خداعي؟

– لا. ولكن أنت دفنت المقتول في الحديقة. استنتجتُ أنّ هناك شخص آخر في الغرفة. جثة أخرى ربّما. هل قتلت أحدا آخر.

– لا أتذكّر. ما تذكرته قلته لك. الغريب أني أسرد هذا وكأني أنهل من ذاكرة شخص آخر. ألا يبدو هذا غريبا، يعني أن أسرد كل هذا بلا أحاسيس أو انفعالات؟ حتى أنت تبدين باردة فعلاً وأنت تستمعين إلى كلّ ما قلته.

– ربما اختلقته؟

– أو ربّما هناك من وضع كل هذه الشرور في رأسي. ألا تعتقدين ذلك؟

*  *  *

سجّل نقطة هذا الوغد. فعلا سجّل نقطة. كيف لم أفطن إلى أنهما بالفعل دخلا الدائرة وأن كل ما كان يصدر عنهما منذ البداية ليس إلاّ فخّا منصوبا لي بعناية. يبحثان عنّي بأعين مثبتة في السقف ولكن بقلوب متحرّكة وعقول قادرة على إحداث فتق في هذا الغشاء الذي سميّته قصتهما.

سأنهي هذا العبث. قلتُ لي. سأنهيه تماما. سأضعهما تماما أمام كابوسهما الشخصي. سيكون هذا أفضل ما يفعله كاتب بخبرتي الطويلة. سأنهي كلّ هذا العبث دفعة واحدة.

*  *  *

أخيرًا، تمكن من تحرير عينيه من السقف. هي الأخرى تمكنت من تحرير عينيها من السقف.

لدهشتهما الشديدة، كان السريرُ فارغا.

كانت الغرفة فارغة.

الرائحة الكريهةُ اختفت.

وحدهُ الحبرُ كان يبحث عبثا عن تحرير نفسه من الدائرة التي ورطتنا جميعًا.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *