غواية الكتابة عن بغداد

*محسن جاسم الموسوي

شأن عديدين، قَدِمتُ إلى بغداد في سنٍ مبكرة للدراسة الجامعية أولاً، ثم الانخراط في الصحافة والكتابة والتعليم، وإذا ما طرحنا سنوات الدراسة في كندا والرحلات، ومن ثم الغربة بعد تموز (يوليو) 1991، يصعب أن تكون عشرون عاماً كافيةً لبلوغ لوعة الفراق وشجن التغرّب بعيداً من بغداد، عشرون عاماً لا تكفي في حساب الزمن. ولكن هناك من عاش العمر برمته في بغداد، ومرت السنوات، فهرسةً للحياة اليومية، بحزنها وفرحها، بمآكلها ومشاربها، وسلسلة التغطيات المادية للمتطلبات والعلاقات، وربما تخللت ذلك لحظات حب وشوق تفرضها أجواء بغداد وأصداء البغددة التي يُتندر بها منذ القرن التاسع الميلادي. تلك البغددة هي التي أتوقف عندها لأنها نبض بغداد الذي سينزرع في قلب زائرها وساكنها ونزيلها. لا أعني ما يقوله علي بن الجهم عن «عيون المها بين الرصافة والجسر» وهنّ «يجلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري».

كان الشاعر الآتي من البوادي ضحية العيون والنظرات الخلابة التي اخترقت قلبه بمشاعرَ لم يألفها من قبل، مشاعر حتمت هذا الضياع بين المألوف والمعروف. سيشيع بيت الشعر ومعه بيت ابن زريق البغدادي وهو يستودع «الله في بغداد لي قمراً» لكنه سيأتي به إلى والصدور لا إلى العيون. كانت بغداد تسحر الغريب القادم إليها وتُسقطه في أسارها في نقطة التأرجح والارتجاج، معلقةً لم تتخذ بعد ثباتاً ما: «لا تعذليه فإن العذل يوجعهُ/ قد قلتِ حقًا ولكن ليس يسمعهُ/ ما آب من سفرٍ إلا وأزعجهُ/ رأيٌ إلى سفرٍ بالعزم يزمعهُ/ كأنما هو في حل ومرتحل/ موكَّلٌ بفضاء الله يذرعهُ/ أستودع الله في بغداد لي قمراً/ بالكرخ من فلك الأزرار مطلعهُ/ ودعته، وبودي لو يودعني/ صفوُ الحياةِ وأني لا أودعهُ».

الجسر والقمر

هكذا هو الجسر، وذلك هو القمر. لم يترك ابن زريق غير لقبه البغدادي الذي جاء مع بيت الشعر الذي يخلد فيه ذكره مقروناً ببغداد التي سيمسك بها أبو المطهر الأوِزدي في «حكاية أبي القاسم البغدادي» وهو يَدعُ أبا القاسم يناشد جليساً ليترك تبغدد أهل المدن، تلاعبهم بالكلام الظريف وتغَنّيهم وغنجهم. وكان أبو القاسم شخصية فريدة ستتوالد في عصور تالية وستأتي بمحتالي مقامات بديع الزمان الهمذاني وأبي القاسم والحريري إلى المجلس البغدادي، متطفلين على كل أمر، وبضمنه اللغة: أبو القاسم سيعجن الفصيح بالعامي ويختلط صوته برواة النوادر والحكايات. لكنه يستعيد صوته الفصيح عند أبي حيان التوحيدي في مجالساته ويتلاعب بهامشه في حكايات ألف ليلة، ويعيد بغداد إلى الشارع، أي ذلك الذي سيضج بالأغاني والأناشيد التي يذكرها ضياء الدين ابن الأثير وصفي الدين الحلي ويدون شيئاً منها رواة الشعر الشعبي ونقاده منذ القرن الثالث عشر وحتى العشرين عندما تفرغ إلى ذلك رضا القريشي وكامل مصطفى الشيبي وفي الأمثال والحكايات عبود الشالجي وعبدالرحمن التكريتي وسليم طه التكريتي.

هل بغداد القديمة في عصورها قبل هولاكو مثلاً أَمْيَلُ إلى الشعر والأغنية أم إلى النثر إذاً؟ لا هذا ولا ذاك. لم تكن بغداد معنية بالتنافس داخل هذا البلاط أو سابقه، وليس بين شاعر وناثر. كان نمو ديوان الإنشاء واقعاً منذ عصور، لكنه أخذ يتسم بمواصفات دقيقة لاحقاً أشرت لها في أكثر من مكان. ديوان الإنشاء هو ما يختلط اليوم بين وزارات الإعلام والثقافة والسياسة الخارجية (الدبلوماسي). كان يستميل المتأدب والمترسل لأن بلوغه يعني اعترافاً بمهارة الناثر وسعة معارفه ونبوغه في اللغة العربية وآدابها.

بلغ قمة نضجه أيام الصابي وأيام الصولي في القرن العاشر. لكنّه ارتقى فنّاً عند الفاطميين والأيوبيين وورثتهم في العصر المملوكي. هل مات الترسل في بغداد؟ وهن وضعف لأنه هو الآخر يخاطب النفوذ والسلطة ويخاتلهما، وبدون المركزية تعين عليه سكنى الحواشي والهوامش، بينما أخذت الأغنية والنادرة والحكاية والشعر الشعبي «الكان كان والدوبيت والمواليا» طريقها إلى الشارع، منتجها ورافدها. غنت بغداد وأنشدت لوعتها في هذه التنويعات بعدما لم يعد (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي، ومثيله يستجيب إلى هذا الشوق الذي سكن الأزقة والدروب والحارات والحانات وتغذى تارة بالحنين وأخرى بالشوق: فكانت الفنون السبعة لهذا الشعر الشعبي سبيل بغداد، كما كانت سبيل أهل البطائح. ستأتي حكاية الحمال والبنات البغداديات بإضافة جديدة، هي «قلندرية» التمدد، أي الحكايات المتصوفة التي تستضيف أبناء الملوك والأمراء الذين خسِروا الجاه والوجاهة لهذا السبب أو ذاك. ستستوطن موسوعة حكي ألف ليلة وليلة في شكلها الدارج منذ القرن الثاني عشر: فالقلندرية ظاهرة جمعت صاحب البدعة بالزاهد، واختلط الأمر لولا أن الشيخ أحمد الغزالي، شقيق أبي حامد، تبناه هو الآخر ودفع به إلى خانة الفتوة. وكان أن تبناها الخليفة المستنصر لتصبح نواة لشتى الظواهر التالية داخل الشارع العراقي، والبغدادي تحديداً. ستظهر في رواية «النخلة والجيران» لغائب طعمة فرمان في الستينات، وعند فؤاد التكرلي بلبوس جديد في رواية «الرجع البعيد». ولكن هل كان الحدث أو الأشخاص من يفرض حضوراً على المكان؟ أم أنها شخصية بغداد، إرثها الحديث نسبياً مقارنة بالكوفة والبصرة مثلاً؟ أعتقد أنّ اختيار بغداد حمل معه ذاكرة شعوب مختلطة وتواريخ يَصعب الخلاص منها. هل يعني أن إرثاً كهذا أصبح ثقيلاً؟ لماذا لم يظهر عند السياب؟ فقصائده بصرية أولاً، وحتى أنماطه المعروفة ضدّ الاستغلال البشع للعراق، كـ «المومس العمياء» و «حفار القبور»…

حضور وغياب

لم تحضر بغداد في شعر السياب، ولم تحضر في شعر البصري الآخر سعدي يوسف، وبدت عجوزاً متعبة في شعر البياتي في لحظات حضرها القليل. لكنها ملأت السوح وتقاطعات المحاكم والشوارع عند عبدالملك نوري وفؤاد التكرلي. ظهرت تتحكم بخارطة متبدلة باستمرار، حيث التناوب بين خلف السدة والمركز يبدو متوتراً: التكرلي الحاكم ابن بغداد يتقصى الشخصية المضطربة القادمة من حيز صغير مكتظ يصعب فيه التحكم بالغرائز والشهوات. بل، ويستحيل. علينا تذكر ذلك: لأن هذا الهامش سيثأر لنفسه في شكل آخر. سيخترق المركز تماماً: لا من خلال احترافه لآخر «الموضات» في الحلاقة والملبس والسلوك المفتعل، كما يقترح أحمد سعداوي، لا. وليس من خلال استمالة (الجميلات) اللواتي كنَّ السحر الساحر للثوريين الذين سيركبون البسطال والخاكي ويقودونها– أي بغداد ومعها البلاد، إلى الهاوية. لا.

ولا أعتقد أن سعداوي تمعن في مقترحه الآخر وهو يرى في مشروع قاسم لإسكان أهل السدّة الصرائف في مدينة الثورة «ثم سميت بصدام، وبعدها الصدر» بمثابة «لا خدمة» وتقصير وعزل. هناك شيء من كل هذا. لكن الهامش المكاني متحرك دائماً: هذا الهامش لن يتوقف عند حد لأنه يراهن على «المركز» ليتملكه بينما يبقي زواياه هناك حاضرة عند الطلب. هنا سيرتبك التبغدد. سيكون أضحوكة هذا النشيط المنتج، ميدانه للتندر وتحل ظاهرة الاستحياء والتردد عند البغدادي الذي يحاول أن يحترف لغة الهامش. لكنه سيكون أضحوكة لفترة من الزمن لحين أن يتحلى بشجاعة القادم الجديد. هل مات الشجن البغدادي بعد ذلك؟ هل تموت غواية الكتابة عن بغداد؟ وما كان غوايةً للثوريين القادمين من القرى والتخوم هو أضحوكة الهامش الذي يفرض هجنتَه والتباساتِه ومحاسنَه وسقطاتِه على البغدادي. لكن بغداد تطل ثانية من داخل هذا الكم الخليط، من القديم والجديد، والركام وعمران حديثي النعمة، في أشكال غريبة وألوان فاجعة وشعارات وأدعية، ونذور، تحكي الخوف الذي يسكن هذا القادم: الخوف من الزمن ومن الحسود، من الغد. ومن المخبأ والمقدور. يسعى «فتوة» القادمين اضطرارهم للرحيل، لتملك ما تبقى، لكن ذلك لن يلغي الخوف: البيوت مسكونة بذاكرتها. ولا أمل في الخلاص. سيرتاب حديث النعمة بكل أمر.

ستكون الأحلام كوابيس إرهاق وشقاء، ومعها أمراض النعمة المستجدة. لهذا تأتي بغداد ذاكرةً عنيفة: جريحة، مأزومة، تتشظى وتتألم وتستدعي فرانكشتاين، لا كما جاء عند ماري شيللي: بل كما هو عليه «فرانكشتاين في بغداد»، خلاصة التبغدد في عصور الغزو والاحتراب: ترقيع لا يعرف الهامش من المركز، الصحيح من الخطأ، المعذور من المغدور، المجرم من الضحية. هذه العجينة تتحدى الشعر والكتابة لأنها تلجأ إلى المشرط والانفجار. من يغنّي بعد ذلك؟ ستكون الأغاني محض أصداء، كما تجيء في «سُلاف بغداد»، بينما يستعيد الكتاب سمة ما، تتيح للسخرية أن تتمادى في التطفل على المشهد فتصف تضاريس مدينة مضت وشاخت لكنها امتلكت بهاءً في يوم ما، يوم كانت «البورجوازية» البغدادية تعيش احتفالات تمثل الآخر، بموضاته وأفكاره، ومشاريعه، كما هو شأن دعاة «الوجودية» في الستينات.

كان هناك من تمثل هذه الفلسفة أو تلك، ولكن الهامش يتسع دائماً للآخرين الذين سيسخر منهم صوت السارد عند علي بدر في «بابا سارتر». ليس هؤلاء وجوديي فؤاد التكرلي في «المسرات والأوجاع» و «الوجه الآخر»، ليسوا وجوديي عبدالملك نوري ونزار عباس. كانوا يسكنون هوامش مؤيد الراوي وآخرين ممن امتلكوا سحر الكلام ورهافة ما، وقلة الزاد. سيكون دليلهم اسماعيل حدوب وعبدالرحمن «فيلسوف الصدرية». لم تحضر، وربما لن تحضر، أغاثا كريستي في «قطار الشرق السريع»، كما حضرت بنفسها مرة عندما وصفها ورآها جبرا ابراهيم جبرا. ولن تحضر بصحبة ياسمينة التي تجيء للسندباد في البصرة، تاركة بغداد لوحدها عند جون بارث، في «رحلة أخيرة لبحار ما»: ظهرت رواية بارث عشية الحرب الأولى على العراق (1991): كانت بغداد تقاد إلى الدمار منذ فترة لتأتيها الضربات من كل مكان هذه المرة، ومنها إلى محطات سعداوي في «فرنكشتاين». ترى، هل نقول: ثمة غواية في الكتابة عن بغداد؟ هل ثمة سحرٌ في الفجيعة؟ والخراب؟ أم سنقرأ نشيداً آخر لعنقاء تمناها الشعراء في مثالية ما وطوباوية عرضت لها مرة عند الحديث عن خليل حاوي ومجايليه في احتفالية لهذا الغرض في ذكرى رحيله في الجامعة الأمريكية في بيروت؟

ولأن محمولات الذاكرة هي بهذا الاكتناز يصعب أن نقول عن بغداد أنها بادت وتبيد، فثمة نشيدٌ آخر ونشيجٌ آخر، وأملٌ لا دليل له غير الذكرى، لكنها الذكرى التي تتناسل في قاطنها الجديد وهو يسعى ليكون منها على رغم ما ألحقه بها من هجنةٍ وتلفٍ.
______

*الحياة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *