بين أيديكم سادتي القراء الكرام ؛ أضع اليوم ؛ مقاربتي لحالة الإعلام الليبي؛ وبالرغم من أنني أسميتها بالحرب الإعلامية تساوقا مع حالة البلد(ليبيا) ؛ إلا أنني أزعم أنها مقاربة عامة لحال الإعلام الليبي ؛ وإن كنت عملت على حصر الموضوع؛ فقصرته إلى حد كبير على أداء الفضائيات الليبية ؛ أثناء تبادل التراشق الحربي؛ وحصرته زمنيا في الفترة منذ العام 2011 م-وحتى العام 2017م؛ وصحيح من حيث المبدأ ؛إن حالة الحرب تكثف الوسائل ؛وتدفع افتراضا الاداء إلى أكثر وأعلى مراحله تعقيدا؛ إلا انها في كل حالاتها ؛ليست إلا ما سوف يستقر لاحقا ؛ويتحول إلى شان عادي ؛ ويومي ؛فالحرب نفسها ؛قد لا تستمر- كحال خاصة في البرامج الإعلامية- إلا مدة قصيرة ؛ ثم تلحقها يد التطبيع؛ و تتحول وقائعها إلى مجرد برامج عادية تستمر عندما تبدأ السياسة التي هي في نظري ليست سوى استمرار الحرب !!.
أضع اليوم حصيلة ونتائج الدرس بين أيديكم ؛الدرس الذي استمر بطرق مختلفة ؛طيلة ست سنوات ؛ من المشاهدات الحية إلى النقاشات التفاعلية ؛ إلى قليل من المؤتمرات والندوات؛ لقد شرعت في مراقبة وملاحظة دقيقة لهذه الحالة منذ 20 فبراير 2011 م ؛ وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات؛ وكانت الحصيلة هي ما أقدمهم لكم اليوم؛ بحس من روح المغامرة الفكرية؛ وروح التجربة الحية.
اعتمدت في مقاربتي هذه على عدة مرجعيات فكرية؛ قد يبدو بعضها اليوم متناقضا معتركا لا يأتلف؛ وبعضها الآخر يبدو لي اليوم منسجما متآلفا اشد التالف؛ولكن لم يكن الاعتراض الأول ليثنيني عن متابعة الدرس والملاحظة ؛ و لا كان الاتفاق الثاني ليشعرني بحماس وحيوية زائدة؛ ففي جميع الحالات كان ثمة قانون يحكم كل مقارباتي؛ اذ انني ازعم ان قراءة الاحداث والوقائع ؛ كانت مقدمة عندي على اية مرجعيات فكرية او كتب !!؛ ومن هنا قد تنشا مشكلة في متابعة ما اكتب اذ اعتاد الجامعيون تقديم الكتب على الوقائع؛ وازعم انني عدلت فهمي للكتب ؛ حتى ينسجم مع ما تقوله الوقائع؛ تلك هي مغامرتي الأساسية؛ ولكن وهذا ما أتقدم بالشكر عليه للأستاذ عزالدين عبدالعاطي اللواج(الباحث والكاتب) إذ أفادني ومدني بهذا الاعتراض؛ ومفاده أنه لا توجد ملاحظة بريئة ؛ كل ملاحظة مهما ادعت لنفسها البراءة هي ملوثة؛ ملوثة بقراءات سابقة؛ نعم أقر وأعترف ثمة أثر ظاهر لقراءتي السابقة في كل ملاحظة لي؛ كما انه لا يفوتني توجيه الشكر والامتنان الى كل من أ.احمد عمر النائلي؛ الباحث والإعلامي المعروف؛ والعزيز الباحث والإعلامي :عادل فرج الفرجاني؛ فلقد شكلنا دون قصد حلقة نقاش دائمة في شؤؤن المشهد السياسي والإعلامي الليبي؛ و انا واثق ان كثيرا مما سطرته في هذه الدراسة يعود فضله بالدرجة الاولى الى الاخوة الثلاثة المذكورين اعلاه؛ وان كنت اتحمل مسؤولية البحث وعثراته وحدي.
من اساسيات مقاربتي هذه؛ ان الاوضاع الاقتصادية –الاجتماعية؛ هي المسئول الاول عن اية تطورات سياسية حدثت في ليبيا؛ وبالتالي فأنني فهمت حقل الاعلام الليبي كانعكاس مباشر؛ لحالة المشهد السياسي الليبي؛ أي انه اثر يقع في المرتبة الثانية ؛ يرتبط اشد الارتباط بالمشهد السياسي حتى انه يكاد يكون انعكاسا اليا تاما له لولا بعض الفوارق؛ اما في شان تفاصيل البحث والدرس؛ فثمة فضل لا ينكر لأشغال الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو على مجمل اعمالي؛ وهنا بالذات اعود بمرجعية مفهوم الحقل(= العينة المقتطعة للدرس ضمن حدود زمانية ومكانية واضحة) اليه(1)؛ مع ملاحظة انني اذ اعتد بكل العمل الفوكوي واعتبره فتحا في العلوم الانسانية وتجاوزا لبعض اهم معضلتها؛ إلا انني ايضا ؛ لا احصر العمل بمرجعية فوكو(خاصة مرجعيات كتاب : حفريات المعرفة/اركيولوجيا المعرفة)؛في الخطاب والعبارة وانبثاقهما وشروط ظهور الموضوعات وتركبها؛ واثر المؤسسات في انتاج هذا الخطاب؛ انما اعمد قاصدا الى تعميم هذا الخطاب ؛واعتد داخل هذا الحقل الناشئ ؛بسلوك الافراد ؛و احاول توصيفه مبدئيا ؛على مستويين: تأويل الحوادث الفردية الدالة ؛واستنتاج قانونها العام؛ وثانيا تأويل السلوك الجمعي للبشر؛ باعتبار وجود مخطط -قائم عمليا – للتقدم البشري ؛دون مرجعية مفهوم الذات ؛ودون الاقرار بأي غائية ؛مع انه يمكن بسهولة استنتاج الى اين تتقدم الشعوب !!؛ ثمة واقعة لا يمكنني تجاهلها ؛هي حدوث التقدم والتعقد ؛ثمة مجتمعات اقوى من غيرها ؛وثمة تراكم للعلوم عند مجتمعات ؛ وثمة سكون تام عند اخرى ؛ وثمة ايضا -وهذا هو الاهم -:مثل اعلى ؛ستتجه اليه حركة كل الشعوب ؛هو المثل الغربي ؛لذا تمكنت من هذا التعامل الديناميكي مع الظاهرة؛ بالاعتماد ايضا على مرجعية اخرى متعددة المشارب لكن في راس قائمة اولوياتها تأتي اعمال سمير امين؛مع طبعا مراعاة ما فرضته الحالة الليبية من اشتراطات للمقاربة؛ ومن بينها ان هذا الحقل هو حقل ناشئ؛ حقل في طور التكوين؛ لم يصل سن النضج بعد؛ ولا يمكن دراسته إلا باعتبار الشروط العالمية للتطور الاقتصادي-الاجتماعي؛ حيث ثمة مركز عالمي رأسمالي؛ يفرض شروطه بمجرد وجوده على كل الاطراف (2)؛وهذا يعني ان ما شهدته فرنسا خلال 800عام ؛ قد تشهده ليبيا خلال 60عام؛مع زيادة بعض التفاصيل غير المهمة وغير المؤثرة؛ فالإقطاع بالمفهوم الاوربي الخالص؛ لم تشهده ليبيا يوما؛ لكن الحالة الاقطاعية العامة بشروطها الاقتصادية؛ شهدتها ليبيا بامتياز ؛ وقامت الدولة الحديثة في ليبيا (1951م)؛ ضمن شروط هذه الحالة الاقطاعية العامة؛ ونحن هنا في غنى عن القول ان مفهوم الحقل الفوكوي يستند الى مفهومين اخرين هما القطيعة والانفصال (3)؛بمعنى انه اذا افترضنا؛ فقط مجرد افتراض للدرس؛ اقتطاع جزء من ليبيا؛وتحوله وتعرفه الى نفسه كدولة مستقلة؛ فان ذلك سيبعث تلقائيا اليات تطور ؛تستأنف المسير من حيث توقف التطور ؛في ما كان يسمى دولة ليبيا؛ وهذا يعني ان ثمة حقلا جديدا قد نشا؛ وانه يستحق درسا مستقلا؛ ضمن هذه الرؤية الديناميكية قراءنا تطورات المشهد الليبي.
و تأسيسا على ما سبق؛ ثمة ايضا مفهوم اخر يستحق الفحص والدرس والاعتبار؛ فلقد كان اساسيا في اجراءات هذه الدراسة؛ وهو ان الرأسمال الكلاسيكي هو رأسمال انتجه العمل؛ انتجته قوة العمل؛ وتتخذ هذه القوة موقعا محوريا رئيسيا؛ سواء في الانتاج المادي ؛ وتراكم الرأسمال الاقتصادي العادي؛او في تحليله ومقاربته؛ فيما نحن في الحالة الليبية بمواجهة حالة اكثر تعقيدا بمراحل؛ فتطورات الاقتصاد والاجتماع الليبي هي حصيلة عاملين يتفاوتان في القوة والتأثير هما على الترتيب: الريع النفطي الذي ادخل ميزانية الدولة منذ العام 1965م؛ والسياسات الاشتراكية التي دامت تأثيراتها لأكثر من ثلاثين عاما متصلة (نتخذ العام 1979م كمؤشر بداية الاجراءت الاشتراكية)؛ وان التطورات الاقتصادية في ليبيا تجري ضمن ميزان مائل لصالح المركز العالمي؛ أي ان التراكم الذي يحدث هو تراكم مراقب – لا اتحدث هنا عن مؤامرة بل عن حال طبيعي عادي معلن -من ناحية ومفروض عليه ان لا يتجاوز حدودا بعينها ؛ أي انه محكوم بالمركز.
ومن ناحية اخرى ؛ذات علاقة بمنهجية البحث؛ ادين لفيلسوف فرنسي اخر بالكثير؛ وهو بيار بورديو؛ فلقد اعانني كتابه : (اسباب عملية :اعادة انظر بالفلسفة)؛ والذي قراءته على مراحل متقطعة منذ منتصف تسعينات القرن الفائت الى اليوم؛ اعانني ومدني بالكثير من المفاهيم العامة والتصورات المفيدة وفي مقدمتها وعلى رأسها انجازه الاكثر اهمية : المزاوجة والمقارنة بين نوعين من الرأسمال احدهما اقتصادي و الاخر ثقافي (4)؛إلا انني اعتبر البداية من ذكر نقاط اختلافي عنه؛ من موقع التلميذ لا موقع الفيلسوف الند؛ ضرورة مفيدة لبحثي؛ حيث احصيت فروقا ونقاط اختلاف رئيسية ؛ تجدر مناقشتها قبل فهم اعتمادي عليها في صياغة دراستي؛ وهي:
1.مسالة نسبية الرأسمال؛ حيث تتشابه الترسيمة العامة للأوضاع الاقتصادية-الاجتماعية الفرنسية ؛مع الاوضاع الليبية؛ وليس الاوضاع ذاتها(5)؛ ولكن مع مراعاة فارق اساسي ورئيسي هو انه ليس لدينا تقريبا في ليبيا اتجاهات سياسية ثابتة وأكيدة عمرت طويلا كما هو الحال في فرنسا؛ أي ليس لدينا هذه العلامات البارزة التي يضعها بورديو في نموذجه: اليمين واليسار؛ فبالرغم من وجود نخب يمينية وأخرى يسارية الان حجم تأثيرها في المجتمع لا يكاد يعطيها اية اهمية تذكر؛ نحن تقريبا في مجتمع يؤسس في اللحظة الراهنة خياراته الاساسية؛ وربما تستمر فترة التأسيس هذه لعقود ؛ فهي مرتبطة بالريع النفطي ؛ اشد ما يكون الارتباط؛ بل ان تأثير الريع النفطي في سلوك الناس ؛ يصل الى درجة ان اغلب ما تشهده الحياة السياسية الليبية والإعلامية هو انعكاس مباشر لهذه الوفرة النفطية دون عمل؛وهذا يعني ان حقل الفكر والثقافة والنظر كبير ومتسع في بلد كفرنسا؛ بحيث انه قد يمنع الى حد ما الرؤية المباشرة ؛لانعكاس الاوضاع الاقتصادية في المشهد السياسي؛ بينما يكاد هذا الحقل يضمر و يختفي في ليبيا؛ حتى انك لا تكاد تستطيع الافلات من القول بالية الانعكاس ومباشريته.
النقطة الثانية التي ألاحظ الخلاف فيها مع بورديو هي: ان بورديو يعتبر وجود الطبقات مسالة نظرية؛ ولا يجب تعقبه في الواقع ؛ إلا كأثر بعيد ؛ كشكل مرسوم بالنقط(6 )؛وهو امر اقبله كموضوعة ضرورية للبحث؛ لأجل الحصول على مسافة كافية لإجراء البحث؛ لا يتم فيها الربط الالي بين الحقل نفسه ؛وأدوات مقاربته؛ ولكن ثمة اعتراض اساسي؛ ارى فيه اهمية لازمة لهذه الدراسة؛ وهو انه ثمة وجود واقعي للطبقات؛ لان الملاحظة الطويلة للمجتمع الليبي؛ وهو بلد يقع في اطراف العالم الرأسمالي؛ بل يقع في اطراف اطرافه؛ ومن انطلاقة تعتد برفض منطق الطبقات وصلت الى نتيجة معاكسة تماما !!؛ فلقد اضطررت اما وقائع وأحداث العام 2011 الى الاعتراف بوجود الطبقات؛ وإلا لما وجدت أي تفسير للأحداث الليبية في ذلك العام ؛ فلقد ارتسمت امامي ثورة البرجوازية المدينية (في طور التكوين) وخلفها اعلى الطبقات الوسطى المتسعة؛ وفرضت نفسها سواء في الاحداث المباشرة او مقارباتها النظرية ؛ وكل تجاهل لهذا المعطى الثابت ؛ سيبوء من وجهة نظري بالفشل؛ اذا في ليبيا البلد البعيد عن امتصاص النموذج الاوربي الخالص وجدت الطبقات؛ وجدت كمؤثر في الاحداث الحية وليس فقط كمجرد فرض نظري؛ بل لقد وجدت قبل حتى ان تنضج القوى السياسية المعبرة عنها !!؛ وصحيح ان وجود الطبقات سوف يتحول لاحقا الى معطى ظاهر وقوي اذا وجدت القوى السياسية المعبرة عن المصالح المختلفة للطبقات المختلفة ؛ لكن هذا يحدث فقط في تلك البلدان التي مرت بقرون من التطور الاقتصادي نتيجة مراكمة العمل؛ او مراكمة الرأسمال بالحرب والفتح؛ أي بلدان المركز الرأسمالي؛ اما البلدان في اطراف المركز؛ فقد يشتد ساعد الطبقات وتعبر عن نفسها بقوة ؛ دون ان توجد قوى سياسية تقودها؛ او على الاقل هذا ما حدث في الحالة الليبية؛ وتقترب منها الى حد كبير ؛ الحالتان المصرية والتونسية.
3.يقارب بورديو موضوعاته؛ ضمن معطى غريب ؛ لا اجد له مرجعا في مراجع المنهج العلمي؛ وازعم ان مرجعيته قائمة في السلوك الشخصي لبورديو نفسه؛ يعتبر بورديو ان المعرفة العلمية يجب ان تجري خارج الجدل !!؛فوقه او بعيدا عنه؛ اذ يقول: (( ان وجود الطبقات؛ كما يعرف كل فرد بالخبرة؛ في النظرية وعلى الاخص في الواقع؛كان دائما موضوعا للصراعات وهنا تكمن العقبة الرئيسية امام معرفة علمية للواقع الاجتماعي )) ( 7)؛و الحقيقة انني لا ادري من اين جاء بورديو بهكذا تقدير؛ فكل معرفة تنتج؛ تكون عرضة للجدل؛ بل والإنكار ايضا ؛بل يصل الامر ان الحقول المصنفة في كلاسيكيات المعرفة بكونها اكثر الحقول ضبطا هي اليوم عرضة لاحتدام الجدل (8)؛اذن فنحن لا نرى إلا ان العلوم الانسانية بالذات هي علوم تختص بالجدل؛ولا نرى امكانية هذا التراجع غير المبرر الذي يقدمه بورديو هكذا مجانا لخصوم فكرته؛ فعند كل صياغة لفرضيات اساسية سوف يحدث جدل؛ ومعلوم ان اختيارات الباحث الاساسية ؛ فرضيات منظومته الاكسيومية هي نتاج الاختيار الحر؛ مع مراعاة شروط التجربة(9)؛والحقيقة ان مرض وضعف بورديو هذا؛ هو مرض كل المثقفين الكبار؛ الميل للتنازل مجانا؛ خوفا من الجدل.
* العمل:
سوف يكون علينا فحص مختلف جهات الظاهرة (الاعلام خاصة الفضائيات)؛عبر فحص عناصر نموذج ياكبسون للاتصال اثناء ادائها لوظائفها لنفهم كيف يتم انجاز الخطاب الاعلامي وشروط انتاجه وقواعده العامة.