جيم هاريسون يكتب ديوان الطبيعة

*أنطوان جوكي

«أبداً لن تكون الحياة بسيطة إن لم تكن الروح بسيطةً أيضاً»، يقول الشاعر والروائي الأميركي جيم هاريسون (1937-2016) في واحدة من قصائده المجموعة داخل أنطولوجيا صدرت حديثاً في باريس باللغتين الإنكليزية والفرنسية بعنوان «كسوف قمري في دافينبورت وقصائد أخرى». قولٌ يلخّص على أفضل وجه هذه النصوص التي تضجّ بنسغٍ أخضر وتعكس شاعراً لم يَسْعَ سوى إلى إسقاط أفكاره الأكثر حميمية والانطباعات التي كانت تعتريه من دون الاكتراث إلى النظريات الشعرية الحداثوية التي يجهد الكثير من الشعراء اليوم في الالتزام بها، غالباً على حساب الشعر نفسه.

وفعلاً، يصعب العثور على شعرٍ بهذا الحد من البساطة الذي يميّز شعر هاريسون. شعرٌ لا تنبثق إشراقاته والتأملات الوجودية المسيّرة فيه من جهدٍ ذهني، بل من وصفٍ بسيط لجمال الطبيعة، لشهوة الإمساك بسمكة، لنظرة ذ ئبٍ وهو «يتبوّل/ هناك على طرف الصخرة»، للشعور الذي ينتابنا أمام امرأةٍ رقيقة، لانعكاسات ضوء القمر على نهر الميسيسيبي، أو لتلك التي تتصاعد من كأسٍ قرب فتيات لم يعدن ينتبهن لشاعرٍ أضحى عجوزاً. وصفٌ بكلمات قليلة وغنائية مشدودة على ذاتها يمسك هاريسون بفضلها بأصغر الأشياء وأكثرها زهداً وتواضعاً، وأيضاً بتحولات المناخ وعنف البشر، مقطّراً في طريقه كآبةِ نهاية عالمٍ يشعر داخله بأنه هرم إلى حد لم يعد قادراً فيه على عيش تقلّباته.

الموضوع الأول لهذه القصائد، ولشعر صاحبها بشكلٍ عام، هو الطبيعة الغنية لأميركا، بسهولها وفضاءاتها الشاسعة وغاباتها وأنهارها وبحيراتها. ولا عجب في ذلك، فهاريسون الذي غادرنا العام الماضي كان يكتب على وقع نزهاته الطويلة ورحلات الصيد التي كان يقوم بها في أرجاء هذه الطبيعة، حيث كان يفاجئ الحيوانات خلال نشاطها، سواء تعلّق الأمر بدبٍّ أو بنمرٍ أميركي (puma) أو بذئبٍ أو بمختلف أنواع الطيور: «في الطبيعة البرّية، أشعر بأنني أقرب من الحياة الحُلُمية»، قال مرةً في أحد حواراته، كما أكّد أكثر من مرّة أن مهمة القصيدة إيقاظ الآلهة النائمين وردّ السحر والفتنة للعالم. أما غايته الشعرية فهي بلوغ قلب الأشياء واستشعار نبض العالم: «أرواحنا تضجّ مثل النحل/ لكن أرواح النحل لا تضجّ/ ليست سوى أجنحة/ تتوجّه نحو زهرةٍ أخرى».

واللافت أنّ علاقة هاريسون بالطبيعة لم تكن معسولة، بل تكتفي هذه الأخيرة في قصائده بأن تكون «عادلة وصائبة»، وبتذكير الإنسان بأنه ليس مركز الكون ولا كلّي القدرة: «كم من مرّةٍ أفسدتُ ضوء القمر». طبيعة تسمح لنا برؤية سقطاتنا وبقياسها بدقّة، كما يسمح امتحانها لنا بالعثور على مكاننا الذي أضعناه منذ زمنٍ بعيد بسعينا المسعور إلى التحضّر والتمدّن. وفي هذا السياق تحضر مختلف الكائنات في نصوصه القصيرة التي غالباً ما تأخذ شكل أقوالٍ مأثورة أو «أفوريزمات» تبجّل عالمنا وتسعى في الوقت نفسه إلى التعبير عن اللغز الكامن فيه: «الأسماك لم تخلق الماء/ ولا الطيور خلقت الهواء».

وحتى البُعد السياسي الذي نستشّفه في بعض قصائد هاريسون يرتكز على هاجس إيكولوجي، كما حين يصف «الجروح البليغة على وجه الأرض» التي يسببها الإنسان داخل بيئته الجغرافية، أو حين يعيد إحياء ذاكرة الهنود الحمر الذين كانوا يعيشون في حالة تناغمٍ مع الطبيعة قبل أن تتم إبادة معظمهم في بلده. بُعدٌ لم يمنعه من الاحتفاء بالحاضر: «أعرف هذه الأشياء المثيرة للفضول لأنني جيم، في المكان المناسب، في اللحظة المناسبة»، أو من التلاعب بالزمن عبر ابتكاره شهوراً من ثلاثة أيام لأن «كل ما تبقّى هو فضاءٌ/ كي لا يشعر الليل والنهار بضيقٍ/ في محدوديتي الخاصة».

وكما في كلّ رواياته، يحضر حسّه الدعابي العالي في العديد من قصائده، كما في تلك التي تتحدّث عن رجلٍ حكيم يمضي ليلته في التأمّل داخل مقبرة، بين الذئاب، قبل أن يقف عند الفجر ليتبوّل ويتناول فطوره. يحضر أيضاً سعي هاريسون الدؤوب إلى تحديد تلك العلاقة التي توحّده بالمكان: «لطالما/ حلمتُ نفسي/ في المكان/ الذي أنا فيه». وإذ تنزلق بعض التفاهات أو الأشياء الفظّة تحت قلمه، من حينٍ إلى آخر، فلأن الشاعر، مثل كلابه التي بقي وفياً لها حتى النهاية، كان يطوف في كل مكان ويشتمّ بأنفه جميع حقائق عالمنا.

وسواء توقّف عند مناظر مسقط رأسه الطبيعية في ولاية ميشيغان، أو تناول ذكريات طفولته، أو استحضر جلسات سكره، ثمة خيط خفي يعبر جميع نصوصه ويوحّدها، ونقصد تلك البصيرة الحادّة لشاعرٍ لم يحاول قط خداع نفسه باحتمال انتصارٍ على الزمن أو بإمكان ديمومة ممكنة بعد الموت، ليقينه منذ صباه أننا «ننتهي في المكان ذاته الذي بدأنا فيه». وبالتالي، لا محاولة لإرضاء الذات أو مسايرتها أو تلطيف قلقها في هذه النصوص، بل ارتفاع صراخ غربان وحلول ليالٍ كالحة تتنبّأ بما هو محتم، بمرارةٍ صريحة.

باختصار، قصائد على شكل بورتريهات أو مشاهد حميمية يأخذ فيها جمالُ العالم اللامبالي بُعداً أسطورياً وملحمياً تحت «سماءٍ ليليةٍ ثملةٍ بنقاطِ نجومها»، حيث «ينقر (الشاعر) على أوتار جروحه»، ثم يغلق عينيه مثل فتاة قصيدته التي «اغتصُبت وبقيت ممدَّدة عاريةً طوال الليل/ تحت المطر البارد».

يبقى أن نشير إلى أن نقلِ قصائد الأنطولوجيا إلى الفرنسية، الذي اضطلع به الفرنسي جان لوك بينانغر، لم يكن دائماً موفّقاً أو وفياً لأسلوب هاريسون الشعري. فبدلاً من الالتزام ببساطة لغة الشاعر، سعى أحياناً إلى تنميقها أو إلى التلاعب بطريقة تركيب جُمَلها من دون مبرّر لغوي أو جمالي، حين لم يقع، بسبب ذلك، بعيداً عن الحقل الدلالي لبعض الكلمات. ملاحظات يستنتجها القارئ المتمكّن من اللغتين فور مقارنته النصوص الأصلية بالترجمة المقترحة لها.
________

*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *