خاص- ثقافات
*مريم لحلو
1? لا أتذكر سوى ذلك الخيط الصوفي الأسود الطويل النابع من طاقية مطرزة ” بلوبان ” تلمع تحت وهج شمس الغروب وهو ،أقصد الخيط، يدور ويدور، ويدور معه رأسي الذي امتلأ عن آخره بجلجلة ” القراقب” وقرع الطبول والأغاني الغريبة. لست أدري كم مر من الوقت عندما انداحت الغيوم عن رأسي فوجدتني محاطة بعيون كثيرة كأنها فوانيس صغيرة حبلى بمعان غير معهودة لدي ،وكأنها أخيرا اقتنعت ومنحتني تأشيرة الدخول إلى عالمها العجيب. ومن دون شك أن إغماءتي اللامتوقعة بقدر ما رفعت درجاتي عندهم فقد فوتت علي الكثير من المشاهد التي تمنيت لو أني شهدتها فقط لأرويها لكم دون زيادة أونقصان.. ومع ذلك حاولت أن أفهم هذا الكثير الذي فاتني كما همست لي إحدى الحاضرات لتزيدني شوقا..آه ما أقسى الإيجاز في مثل هذه المواقف خاصة عندما يكون متعمدا.فمتى كانت النسوة مولعات بالإيجاز وإيجاز الحذف بالذات؟ حاولت أن أجمع رؤوس وأعقاب الجمل لعلها تكوّن لي فكرة يطمئن لها قلبي الصغير..الجدي الأسود ..ذبح في الفراغ..دماء على الجباه..أصوات عالية بلغة غريبة ..العين..الموسوسون.. .. العادة …الدخلة…
حلا لي البقاء في ذلك البرزخ بين الحلم واليقظة يهدهدني صوت الهجهوج، وغيوم الثرثرة ،والضحكات العالية فتلفحني شمس إفريقيا في عز الليل وأرى “ولاد بامبارا” متحلقين حول نارهم المقدسة بلباسهم الفاقع الألوان وأجسادهم النصف عارية يرقصون بجدية من يريد تخليص جسده و روحه من أعبائهما وكأنهم مازالوا،بعد كل هذه العقود ، يعانون من آلام الاغتراب والعبودية .
دون أن يغادر الوقار والجدية وجهه الوضيء يقوم والد صديقتي “قطرة العسل” للرقص يؤدي الحركات بطريقة متماهية مع السنتير ،وتصادم الصناجتين ،والصوت الجهوري لِـ” لَمْمعلم ” وتعليمات “لَمْقدمة” الصارمة التي تقوده بفضل مراسها، وخبرتها إلى عالم سحري تسكنه أرواح خفية لها قدرة عجيبة على تحرير الروح وشفاء الجسد…فهمت وقتها أن “ليلة الملوك ” هذه أقيمت له لفك النحس الذي عصف بتجارته ولحقه إلى أساسات داره …
يزيد من وهج الليلة الأبخرة الإفريقية الغريبة الروائح التي لا أميز منها إلا رائحة ” الجاوي ” المحترق في فناء دارنا أواخر رمضان..أشها بعمق فتأخذ هذه الروائح شكل الريح حين تتموج فوق حقول السفانا فتنحني السنابل في خفرها الأبدي.. تنط صورة جدتي موبخة:
– ماذا تفعلين وسط أولاد وبنات بامبارا؟أنت لست منهم ..أنت ياسمينة … ..أي جنون يقودك إلى هذه الجذور الموغلة في الصحراء ؟
يلح صوتها عندما تظن مني اللامبالاة :
– سيلتهمونك كما التهموا ذلك الجدي في السماء..
طبعا لا أترك نفسي لتصدقها فقد خبرت رقة قلوبهم ..وصرت أحبهم كأنني منهم ويعتريني الخجل بسبب شحوب بشرتي وأنا بينهم …
…………………
2? صفوف طويلة ككتيبة نمل كل صف متجه إلى قسم ما..لا أدري كيف وجدت نفسي في ذلك الصف وحيدة لا يد صغيرة أتمسك بها؟ والحارس الفظ يعلو صوته:
– مثنى مثنى…
يصيبني الهلع .. ألأنني وحيدة أم خوفا من غصن الزيتون الطويل الحارق ؟ دون وعي أجمع ذراعي العاريين ورأسي وأتكور كقنفذ بلا أشواك .. في الصف القريب فتاة أخرى ترتعد مثلي. ننظر إلى بعضهما نكمل بعضنا لنصير ” مثنى مثنى” كما يطلب النظام ثم لا نعرف أينا الأخرى لحد الساعة فقد وحدنا الخوف للأبد … نصير “قطرة عسل” و”بتلة ياسمين” تتأرجح محفظتاهما المدرسية على الجانبين .. يحاول الكثيرون سماع الهمس الدائم بين الرأسين المتعانقين أبدا جيئة وذهابا..يلفتان نظر الشبان، والشيوخ ،وأصحاب الدكاكين وهما لاهيتان عن العالم وعن نظرات التعجب ،والاستفهام وضرب الكف بالكف ،وسخرية العجائز:
– يا سبحان الله قهوة حليب “sepparée”…
…………
3?
– ياسمين ياسمين…جاءت صاحبتك “الكحلا”
أهب في وجه أخي رافضة النعت والصفة وخائفة أكثر من جرح مشاعر صديقتي …يرد بحزم مقنع:
– ولكنها “كحلا” لم ستغضب؟هذا وصف،وصف فقط؟
– قلبها أبيض أما قلبك فأسود..
– القلب لا أبيض ولا أسود..القلب قلب وكفى..
على استحياء تدخل قطرة العسل المرج الأبيض وكف بتلة الياسمين تجرها جرا..ينبهر الأهل لهذا السواد اللامع الصافي ..تقول الجدة بعيدا عن الآذان الصغيرة:
– لم تجد غير هذه العبدة حفيدة “مْشَرَّطْ لَحْناك” لتتخذها صديقة؟ حقا نحن نتساكن في الحي نفسه ،ولكن لكل حدوده…لهم ذكرياتهم في صحاريهم البعيدة ولنا ذكرياتنا في جبالنا وسهولنا وقصورنا الأبعد..
تنظر الجدة إلى الصندوق المزخرف حيث يرقد المفتاح الكبير الصدئ.. تعقب الأم :
– كلنا عبيد الله ..
يقرع الرأس الصغير لفظ “العبد” فتتلاطم الأسئلة به غامضة مرهقة للروح:
– ما الفرق بين عبيد أمي وعبد جدتي ” مْشرّط لَحناكْ”
?4
– صحيح الأنف صار أقنى ،و الشفاه أرق ،وتجعد الشعر وطال.. ولكن اللون الأصيل ضاع مع ما ضاع …صار أغبر بعيدا عن سحر إفريقيا ،و صفاء إفريقيا ..
هكذا تحدث الجدة النقية السواد نفسها بشوق فيل معمر ،وبتحسر لا يقدره إلا من يستطيع سماع صلوات الصحاري الطرية في الأعماق…