خاص- ثقافات
محيي الدين كانون *
بعد غيابٍ طويلٍ جداً ، جاءني مستفسراً مُلحاً ، يسأل عن حالي وأحوالي ، عجبتُ في البداية لهذا الزَّنيم الآبق، كيْف يخْتفي طوال هذه السنين ، وعندما يلقاني صدفةً في الطريق ، يُحيِّني بتلويحةٍ من يده اليمنى، ويزْورُّ كأنه يقول لي مع ألف سلامة . رأيْتُ في هذه الزيارةِ ، أنّه مِنْ الحِكْمةِ أن أتناسى هذا الجحود، وأخذت مقامَ التشجيعِ في جمع ما انفرط بيننا من عقد التواصل، فلا يجوز أنْ نفرطَ في حبّات الذكرى، وننثرها تحت الأقدام ، ندوس عليها ، ونحجب لمعان ما فات منها أيام عهد الصبا ؛ ذكريات التلمذة ودروس الفصل، وفناء ملعبنا، وباب مدرستنا الكبير، وكيف لنا أن ننس شرائح الخبز المحشوّة يوماً بالمربى ويوماً بالتن وعيوننا الصغيرة متلهفة على أيام الخبز بالتن، ذلك ما لا يجوز محّوه من ذاكرة براءة الطفولة الطرية، ثم كيف سلكت بنا الحياة فيما بعد، في دروبها المستقيمة ودروبها الملتوية، في حظوظها ومقاديرها .
لم أردْ له العِتاب على هذا الغِياب العمْدي ، فكثرة العتب مفسدة للود ، ولأنّي ما زلْتُ أحْمل في نفْسي ألواناً زاهيةً براقةً منْ شقاوةِ التلمذةِ، وتحفُّزها في استظهار الدروسِ فوق صدر القلب الصغير, فكيْف لي أنْ أنس أوْل درس في هدايةِ الناشئينَ، أن نهشَّ ونبشَّ في وجه قاصدنا الذي يطرق بابنا .
كان طوال الجلسة في مكتبي متبسطاً في الحديث ملوحاً بكفيه على طريقته المعهودةٍ ، يتمايل ذات اليمين وذات الشمال، كأنه في حالة من الجذب الصوفي ، ولا يكف عن إرسال تنهيدة طويلة بين الحين والآخر، تعقبها ابتسامة عذبة ، تكشف عن أسنان ينفذ بين جيوبها صفير يخالط كلماته التي تنزلني موضعاً أتعالى فيه قليلا عن تملقه لي بشعورٍ صعبٍ بين الرضا والسكوت أوالرفض والاستنكار خاصّة عند الموضع الذي ينعتني فيه بالفيلسوف الحزين . لكن في الحقيقة ، كم أطربني هذا الشعور المُركب الذي تحدثه كلماته من خلف بؤبؤ عينيه اللامعتين في ظل شبح ابتسامة عريضة حتى صحوت في نهاية الزيارة بفرقعة من كلماتٍ ، لم أكن أتوقعها منه أبداً ، ونحن في مشهد تجديد الذكرى ، وصهر ما أُجترحها من وخز الأيام ، لم أكن أتوقع أنّه يطلب ، ولا يلتمس من الفيلسوف الحزين مبلغاً من المال ، ليس هيناً ، ليكفلَ علاجاً لزوجته التي أصابها مرض عضالٍ ، في البداية لم يقله صراحة ، ثُمَّ بعد تردد مربكٍ ، قال إنه سرطان الثدي ، كان في البداية ، يلازمها على خفر حتى ظهر وكشّر عن أنيابه الساطعة . قال بصوت قاطع أنّ أساطين الطب في البلاد ع أوصوه على عجلٍ بضرورة إجراء عملية استئصال وإلا تتفاقم الحالة إلى ما لا يُحْمدَ عُقْباه .
دخْتُ في البدايةِ من الخبر الفاجع سبعُ دُخاتٍ ، وكأن ضربةً باغتتني على رأسي فجأةً ، تعثرتْ الكلماتُ في حلْقى ، وعمّ صمتُ رهيبُ فلمْ أحرْ جواباً . كانت عيناه سهمين من الفولاذ مسلطة على كاهلي أو هكذا كان يُخيّل لي المشهد ، وهو يتفرس في وجهي منتظرا رَدّي كقطٍ يتأهّبُ إلى شريحة من الّلحم المشّوي … صِرتُ كالخَشَبة المسْندة لا حياةً فيها، انعقد لساني حول الذكرى اللعينة التي تُحْيى أياماً من عِطر الصِّبا يوم كان المرءُ حراً من أعباء البيتِ ، ومن إعالة أُسْرة ، وقد رأى بعينيه المترقبتين مدى حيْرتي، لكنّه لم يستطعْ أن يقرأ جيبي ، وقفر رصيدي من النقد المأزوم في هذه الأيام ، النقدُ الذي يرفع أقواما ، ويهبط أقواما في أُرْجوحةِ الزمن والسوق المتقلب …
عجيبُ أمرُ هذه الدُّنيا ، فمنذ لحظاتٍ كنت أنتشي بخمر كلماته كالأبله يسكبها في صدري تنفخ رئتي بالزهو والارتخاء بعد أن جف معينها من الهواء المنعش منذ سنين حتى كاد قلبي أن يتحول الى قفل حديدي صلب ، فقد بدأنا نفقد تبادل نجوى الكلمات الحلوة الرقيقة الخالية من أثر الصفقات والمقدمات التمهيدية المشبوهة ، قلت له كالأطرش في زفة :
– أمرك مجاب، وفي المساء أتدبر لك المبلغ ….
لم يكترث لكلمة : ( أتدبر ) … مرّتْ قاطعة من الصمت ثُمَّ أردفت بصوت جهوري يشتعل حماسةً :
– وأملي كبير في إجراء العملية وشفاء زوجك، وعودة ابتسامتك الصافية وذلك الفضول الغريب من عينيك ….
ضحك في إثر هذه الكلمات مقهقهاً ، وشُغلت عن ضحْكه، إذ كيف أُدبرُ هذا المبلغ لهذا الزَنيم الآبق الذي يخْتفي سنين ثم يظهر فجأة ينفث عطرا سقيما من حولك ، ولم يمض من ساتر ليلة البارحة إلا وقتا كافيا ترددت فيه بطلب دينٍ لي قديم العهدِ ، لكنِّي أحجمتُ عنه بسبب من نقص السيولة وعُسْر الحال العام ، ولم يهل ضحى اليوم حتى وعدت صديق الصبا وباعث ذكرياتها خيراً على طريقة الشهامة التقليدية ، والآن لا بد من التدبير… فالأصيل لا يرد من يطرق بابه خائبا ، وقد طرقني اليوم بطرقاته العنيفة وخنقني بحبل الذكرى – وأنا بين الطرق والصدى كالخَشَبة المُسْندةٍ ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم .
خميرة النخوة تكفّلت بالباقي ، وقد أُبرمتْ الكلمةُ ، سعد كثيرا صديق الطفولة والصبا ، لم يخفِ دهْشتَه من سُّرعةِ التنفيذِ والاحساس بنجدته بهذه السُّرعة ، ولولا أن المبلغ جاءه سريعا ، يطيرعلى جناحين ليدخلَ الفرحةَ لشقته بالدور الثالث بشارع (عمر بن عبد العزيز) و لولا تلك الحقائق المتتالية التي جعلت المبلغ بين يديه ، لكذّب نفسه ، وحواسه قبل أنْ يُكذّبَ صديقه ، شكره بسرعة ولم يكلف نفسه حتى ضيافته على وجه السرعة ، خاصة أنها أول زيارة لصديق ما يزال عطر الطفولة والصبا ينعش الروح ويعبق عطرها نحو جمال الحاضر وجسر مستقبل أبهي وأزكى عطرا .
مرّت شهور وشهور ، لا خبر ولا خطر ، من صديق الطفولة والصبا وبخّتُ نفسي على تقصيري في حق صديق قديم ، ، خاصّة أنّ رفيقة حياته تكابد الأمرّين بين خوف ورجاء ، ومن حقه السؤال عن صحتها والاطمئنان …. وحين أقبل المساءُ ، هاتفته عاجلا ما يربو عن ثلاثة أرقام تخصه دون جدوى ، حدس فجائي كنزغ الدبوس ، أن يكون مكروها فد حدث له أو لزوجته ، غشاوة من التأنيب الذاتي تنفث في صدري ، إذ لا يمكن أن يكون غياب صديق الصبا طبيعيا طوال هذا المُدَّة ، وقد وعد بالاتصال ، زاد قلقي عليه أكثر ، إنِّي أذنبتُ في حقه لا محاله ، صعدت للطابق الثاني لاهثا يكاد نفسي أن ينقطع ، بعصبية دسّتُ على الجرس ، وفُتح الباب على عجل ، و أتفأجأ بأحد مرؤوسي في العمل يفتح الباب ، ارتبك أكثر وسط دهشتي ، ولأزيل الغموض ، بادرته بالسؤال عن قاطن الشقة قبله ، فكان الرد :
– لا أعرف …!
ثم سألته بحسم أين يمكن أن أجده لأمر عاجل :
– لا أعرف …!
سألته بهدوء وفي ثقةٍ :
– تُرى كيف صحة زوجته المسكينة ؟!
ضحك منّي متعجباً :
– إنه ليس متزوجاً !
– ماذا ؟!
– كما سَمعْتَ !
-
أديب من ليبيا