العبد التكنولوجي: الشاشة الكونية لإنسان ما بعد الحقيقة

*نوري الجراح

ها نحن على أرض التكنولوجيا السحرية في عالم مابعد الصناعة، حيث كل شيء يلمسه الناس عرضة للتبدل والاختلاف والتغير بأسرع من لمح البصر. إذن، كيف ينبغي لنا أن نفكر بأنفسنا نحن العرب الخارجين مرة من “كتاب القومية العربية” وأخرى من “كتاب ألف ليلة وليلة”، وقد جزنا الأرض تحت سماء طبيعتنا الأولى وبلغنا أرض المابعد، في ظل عالم باتت لخرائطه ملامح غير مسبوقة، فسقطت العلامات وسقطت معها تصورات خلناها خالدة، ونهضت على أنقاضها تصوّرات مختلفة أخذت تطرق أبواب العقل، وترجّ المعتقدات كلها، بل وتهدمها كما لو كانت ديناً جديداً مقبلاً لا يقاوم. إنه عالم مابعد الأيديولوجيا، مابعد اليمين واليسار، والشرق والغرب، بل ومابعد الحقيقة نفسها، فنحن في لحظة التكنولوجيا التي ترتقي الذروة إلى عالم ما فوق الجغرافيا، حيث ترتطم أقدار البشر في الشرق بأقدارهم في الغرب ويتحول الكوكب إلى كرة ملتهبة تتدحرج في مدار من اللامعقول نحو مستقبل مجهول.

***

كيف يمكن لنا في عالم كهذا أن نقرأ الصراع البشري، بينما القوى المتصارعة نفسها باتت لها طبيعة معقدة وزائغة، تحتاج إلى استكشاف وقراءة وتوصيف، ومن ثم إلى لغة ومصطلحات جديدة تعرّفها. وإذا كان السؤال الجوهري، الآن، هو: إلى أين يمضي العالم. فإن السؤال الأكثر جوهرية بالنسبة إلينا هو: كيف يمكن للعرب أن يتفكروا في حاضرهم ومستقبلهم بينما هم ينظرون الأحاجي تتشكل وتعيد تشكيل نفسها على اللوح العملاق لتكنولوجيا العالم، فما تظهر وتتلاشى إلا لتظهر من ثم في صور جديدة على تلك الشاشة الكونية، وقد بات كل ما يعمّر كوكب الأرض، بما في ذلك أكثر الأشياء واقعية، لغزاً تستغلق معه حقائق الأشياء ويجعل من الطبيعة الإنسانية وجوداً يتخبط في فراغ ضاعت معه العلامات وانعدمت الأوزان، وصارت الحقائق شظايا أوهام في رؤوس بشر تسكنهم الكوابيس.

***

العالم في لحظة خلل كبرى، ما من شك في هذا، ولذلك أسباب وأسباب، منها ما هو أيديولوجي؛ فالأيديولوجيات الخلاصية أرضية ودينية سقطت لكنها لم تمت، كما خيّل للبعض، فأشباحها ما تزال تشوش الأذهان. ومن الأسباب ما يتصل بجشع الأسواق الكبرى، والاقتصاديات العابرة للجغرافيات والمجتمعات، وهيمنة منطق القوة (إلى درجة البلطجة) اقتصادياً وعسكرياً ورجحانها على قوة الأخلاق والنزعات الإنسانية في الفكر والعمل والعلاقات بين الدول وفي داخل المجتمعات كبيرة وصغيرة، وهو ما تسبّب بانفلات غير مسبوق لقوى الشرّ الكامنة في منطق القوة، وانهيار مجتمعات بأكملها، واحتراق جغرافيات بدت حتى وقت قريب آمنة من الشرور.

*******

حدث ما حدث وهو مستمر في الحدوث في ظل برهة عالمية تصدعت فيها فكرة اليمين واليسار، وبدا أن العالم يحتاج إلى أفكار جديدة تجيب عن أسئلة مستقبلية توالدت من أسئلة تهرّأت. وبدلا من أن تظهر هذه الأفكار إذا بلحظة التكنولوجيا الموازية تفتح الباب لوحش العنصرية والفاشية ليطل برأسه من جديد، مهدداً العالم، ربما، بأسوأ مما هدده به من قبل، لا سيما في النصف الأول من القرن الماضي وقد طحنت حربان عظميان عشرات ملايين البشر.

***

ها هو لوح التكنولوجيا العظيم يخاطبنا بغوايات خاطفة للأبصار. شكليا، لا شيء في خطابه يستدعي فظاظة “الأخ الأكبر” في كتاب أورويل، لكنه يملك مخططه نفسه وكثيراً من تقنياته الغريبة. والسؤال، الآن، هل نحن إلا أسرى نموذجيين لتطور تكنولوجي مهول، مذهل في سرعته وصوره المدهشة، بحيث لا يترك لمنتجيه ولا لمستهلكيه فرصة للتأمل في ما يمكن أن يخسره الإنسان جراء هذه الاندفاعة المخيفة في العوالم الموازية وقد استلبت الإنسان وتسلطت عليه، ولسوف تقوده بعيداً عن سجيّته، بل ربما استنسخته على الشاكلة التي تعوزها هذه الاندفاعة الجهنمية لتوليد “إنسان المابعد”؛ العبد التكنولوجي بامتياز؟

والسؤال، الآن، أيضاً، هل نحن في تقهقر قيمي يعود بإنسان الكوكب إلى الماقبل، أم أننا في برهة مُلْزِمة لا محيد عنها يسبق فيها الوعي حاضره ليبلغ بإنسانه مساحات مفتوحة من فضاء المابعد؟

كل شيء مشوّش اليوم، بما في ذلك الأسئلة الكبرى التي شكلت الوعي الحضاري ونجمت عنه. فنحن في برهة الفشل، فشل كل ما اعتنقنا من أفكار، وقد أنتجت مهاد الـ”مابعد” مابعد اليمين ومابعد اليسار، مابعد “الشرق” ومابعد “الغرب”. تهاوت الأفكار الشمولية أرضية وسماوية وتركت موضعها فراغات كبرى. تهاوت مقولات ومعها تهاوت نقائضها. وها هو العالم الحائر بنفسه يعود، كما كان من قبل، لغزا عصياً ويحتاج من سكان هذا الكوكب المعذب إلى فكر جديد يفك هذا اللغز.

***

فلنتّفق، إذن، على أن العالم في مخاض عسير، ولا بد من مخرج للإنسان، التكنولوجيا وحدها لا تملك الجواب، فالأمر ليس مرهونا بالتطور العلمي وحسب، ولا بالقوى الكبرى دون سوها، ولكن حتى بالأمم التي اضطهدت وهمّشت، وهذا ينطبق علينا نحن العرب كأمّة لها ماض عريق وتليد وحاضر يستضعفها ويجعلها إما أن تحترق بنيران التخلف والاستبداد، أو أن تهيم في عراء العالم. جغرافية العرب عظيمة الأهمية ومصادر ثروتهم كبيرة، وهذا أحد مصادر اللعنة التي حلّت بهم في العصور الحديثة، لكن ذلك لا يكفي، فهم لا بد لهم أن يتخلّوا عن أوهام الماضي، ويستقيظوا من غفلتهم، وقد طالت، ليحافظوا على وجودهم ويسهموا في صناعة المستقبل.

***

ما يجري في العالم من صراعات وحروب لا يبدو بعيداً أبداً عن النتائج الكارثية للجمود الفكري الذي تعاني منه البشرية كلها. أمّا ما يجري في مجتمعاتنا العربية، لا سيما في المشرق العربي، إنّما يتحمل مسؤوليته إلى جانب المستبدين تلك النخب المثقفة التي لم تملك الجرأة الفكرية والأخلاقية لمواجهة استحقاقات الواقع، في ظل نزاع غير متكافئ ما بين قوى الماضي وقوى المستقبل. نحن ندفع اليوم ثم أخطاء متراكمة ارتكبتها القوى المجتمعية في بلدان خضعت نخبها الحاكمة ومعها النخب المعارضة للخطوط التي رسمتها لها القوى الكبرى إبّان مرحلة الحرب الباردة التي مازلنا نطحن بمطاحنها. وما لم نمتلك إرادة التفكير الحرّ، والعمل الخلاق أفرادا وجماعات، إلى جانب إيمان إنساننا بأهمية الحفاظ على الميزات الخاصة المرتبطة بسجيّته الشرقية المنفتحة على جهات العالم الأربع وثقافاته التي لا تعد، لن تكون لدينا مجتمعات يمكن أن تحيا تحت شمس العصر، وتقف كأمة جديرة بتراثها إلى جانب (وفي مواجهة) الأمم الأخرى ذات الطموحات الحضارية.

***

مصطلح اليسار واليمين له تاريخ معلوم عربياً وعالمياً. عربيا هو مصطلح مسقط على الثقافة الفكرية من خارج، ولذلك بقي مصطلحا قلقاً؛ تقريبياً، ومرات فضفاضا وبلا معنى يمكن للواقع أن يترجمه. في كل الأحوال لا بد لنا من الاعتراف بأن هذا المصطلح أصابه الاهتراء، ولعله هلك نهائيا. فلا اليسار في العالم العربي يساراً، ولا اليمين بدوره يمينا. لا بد، حقاً، من تعريف جديد للمصطلحات والمفاهيم حتى يخرج الناس من التيه والفوضى اللذين أصابا الخطابين السياسي والفكري في اللحظة الحاضرة.

يساراً ويميناً انتهت صيغ هذين المصطلحين. ولقد رأينا كيف ظهرت زعامات عالمية تنتمي إلى حركات وأحزاب اليسار وسلكت في الصراع العالمي مسلكا كان حكراً على اليمين، فبدت أكثر يمينية ووحشية منه كما هو حال نموذج توني بلير في بريطانيا. وعرفنا زعامات انتمت إلى حركات يمينية كالزعيمة الألمانية ميركل، لكنها تصرفت على نحو فيه الكثير من الاعتدال بل وفيه شيء من الإنسانية إن في الصراعات العالمية أو بإزاء الكوارث التي حلّت بالبشر، لا سيما في منطقة المشرق العربي وتحديدا سلوكها بإزاء قضية اللاجئين الهاربين من الحروب.

هذان مثالان لا غير. لكن الوقائع العالمية المختلفة تشير إلى موت مصطلح اليسار ومعه موت مصطلح اليمين. وعليه لا بد من تعريف جديد للمفهومات التي مثلها هذان المصطلحان.

*****

العالم في مرحلة قلق كبرى، فكريا وروحيا، ولن يجد البشر أنفسهم، حقاً، لا فرديا ولا جماعيا، ما لم يردموا تلك الفجوة المرعبة بين الفكر والضمير، فالفكر اليوم يقف عاجزاً عن الإجابة عن أسئلة الضمير، مادام إنسان عصرنا متورطاً، على نحو وسواه، بمغريات القوة والجشع والأنانية التي فرضها مجتمع الاستهلاك. الضمير هو المرآة. لكن المسألة تحتاج إلى تربية روحية جديدة، وإلى وعي بقيم الحضارة، ومنها قيم التعارف والتشارك في كوكب لا يملك الإنسان سواه، ومع ذلك فهناك بين البشر من يسهم في تدمير هذا الكوكب.

نعم العالم ليس مثاليا، والقوى الكبرى لا ترضخ أمام كلمات الحكمة، لكن ذلك لا يجب أن يمنعنا نحن المفكّرين والمثقفين والمتعلّمين من مواصلة التفكير والبحث والعمل لأجل كبح الشرور في الأرض، أيّا كان مصدرها. ومادمنا خلصنا إلى اعتبار الزمن التكنولوجي ديانة جديدة بديلة من الأيديولوجيات التي سقطت، وتريد أن تحتل مقاعد الأديان، فإن هذه الديانة ستسقط هي الأخرى (إنما بأيّ ثمن!)، ولن يبق في الأرض إلا ما ينفع الناس.

ما من حكمة في أن نعادي التطور فالتطور سنّة، بل لا يبدو منطقياً أبداً أن نتخيل العلم مؤمناً وكافراً فالعلم هو العلم أيّا كان مصدره، وعلينا أن نقتدي بتلك الإشارة العظيمة في ثقافتنا العربية “اطلبوا العلم ولو في الصين”. ولمّا كانت الحكمة علما والفكر علم، فإن الحكمة أيضا يمكن أن تؤتى من أبعد بعيد.

***

فكر جديد في ظل عالم متحول، باستمرار. هل يبدو هذا طلباً واقعياً؟ أم أن وهم المابعد سوف يستولد أيضاً من المابعدية: مابعد الواقع، ومابعد الإنسان.
______
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *