الحيوان الناجي

خاص- ثقافات

*مريم لحلو

ليست صدفة ولا يمكن أن تكون ..هي حسابات كونية دقيقة رهيبة..صوتها الناعم ..تفاصيل جسدها التي تنحت الفراغ نحتا بديعا.. تدفق العصير تحت قلادتها.. توهج وجهها ..أكاد أحس حرارة نظرة جليسها.. هاهو يكرر على نحو مقيت مافعله أبناء آدم منذ حلولهم على وجه الأرض ..وهاهي ترد بتكرار لا يقل إملالا مثل بنات حواء جميعهن..وها أنذي أتأكد أنني قادمة لا محالة ..الخلود الذي أوهمت نفسي به ستعصف به لحظة ضعف آدمية تكررت ملايين بل بلايين المرات دون فتور ليظل هذا الكوكب عامرا إلى النهاية..بيد أنني الآن ،والآن فقط صرت أفكر في خلاصي الذاتي ..لا أريد المشاركة في لعبة التكرار ..لعبة الهواء والماء ..  لعبة الأرض والنجوم ..لعبة الأشجار والظلال  ..أريد أن أبقى هنا بلا أرض ..بلا سماء.. بلا بداية ..بلا نهاية..
حقا،لم أكن أنوي الدخول معها في جدل أو حوار لولا هذا المستجد ..كانت سعيدة بحياتها وقد جاوزت العقد الثالث بقليل ،وكنت سعيدة بحياتي الخالدة في قرار مكين ..أسمعني أقول لها :
– عزمتِ أمرك إذن ؟ ستقترنين بذاك الرجل القميء؟لا… لا أرجوك لا تفعلي ذلك بي..انظري إليه جيدا..تأمليه قليلا ..غير صالح لنا البتة ..أبعد كل هذا العمر وهذا الصيام تفطرين على …؟؟
– ويلك!! لا تقل هذا عن الشخص الذي سأتخذه أبا لك !!
(لاحظوا كيف أنها تخاطبني بضمير المذكر)
تتنهد وتضيف في شبه استجداء:
– لقد كبرتُ ،وتعبت وأصبح هامش الاختيار ضئيلا.. فلأتنازل عن متطباتي الكثيرة لعل عيني تكتحل بمرآك وإلا ستبقى عدَما..أنت .. أنا.. نحن.. بحاجة إلى “حيوان” ليجعلك حقيقة ألمسها،ألثمها،ألقمها ثديي ..
هذا الكلام الفائق الحنان يثير أعصابي فأحتج :
– حتى وإن كنتُ البويضة الأخيرة في رحمك  فإني أرفض بشدة أن يكون ذلك الشيء البغيض ،الكريه الرائحة أبا لي.. أنت التي طالما دافعت عن حقوق المستضعفين ،وانحزت للطبقات الدنيا تقبلين به وقد خالطت أنفاسه رائحة المكر والارتشاء والتعالي؟؟ ثم إلى أين سآتي؟ إلى جحيمكم الأرضي ؟ أفضل أن أبقى هنا. على الأقل سأحظى بميتة شريفة …
تضع يدها أسفل بطنها مهدئة من روعي وأسمع حديثها الداخلي المتعجب: هذا وهو لم يصل رحمي بعد يتحدث بكل هذه الحكمة … تتابع كلامها الدنيوي المقزز:
– حقا أريدك أن تأتي أنت بالذات لتحميني وتؤانسني ..أما الرجال فلم أعد أثق بأحد..
أجاريها في حديثها الأرضي الذي تعيه أكثر من سواه:
– لاحظي أنك تريدينني لمصلحتك الشخصية  ..ولكني ،بعد بضع سنين ستكون لي حياتي الخاصة وأتركك وحيدة وأكثر كبرا. وبمجرد ما يند عني أمر لا يعجبك ستشرعين في عد أفضالك علي وأنك فعلت من أجلي كيت وكيت .. وتتجاهلين أنك أنت من رغب بي لا أنا..
تنزع يدها من فوق بطنها وتهدد:
– انتبه.. لم يتبق على موعد دورتي الشهرية إلا أسبوعان ..إن لم أقبل به.. ستموت .. ولن تنال حتى دفنا لائقا..سأجدك غريقا في فوطتي الصحية..
-آه يا أمي!! واهمة أنت إن كنت ترين،كما علمكم علماء عصركم،أنني أحيا أياما فقط بعدد أيام دورتك الشهرية وسأموت.. هل ترين هذا منطقيا؟ كيف صدقته وأنت على ما أنت عليه من علم وعمق تفكير؟ لقد عشت آلاف السنين..وتقلبت في أماكن شتى..والتقيت وصادقت بويضات بعدد شعر رأسك الجميل.. مثلا البويضة التي صارت فيما بعد ابن رشد ،والأخرى التي صارت الحطيئة والتي صارت هتلر  وغيرها وغيرها من البويضات المخلقة وغير المخلقة ممن تعرفين ولا تعرفين ..والحق كل تلك البويضات ندمن على ذلك المصير التي آلت إليه حياتهن الرغيدة بسبب ذلك “الحيوان”…
تقاطعني  :
– ذلك الحيوان الناجي من بين ملايين الحيوانات هو الذي سيرفع من شأنك ،وتصير إن اكتملت خلقتك صبيا رائعا أو طفلة فاتنة الجمال…
-صبيا رائعا أو طفلة فائقة الجمال!!
تكرر البويضة الجملة في استهزاء ثم تفجر نفسها ..نقط دقيقة جدا من الدماء تتدفق في مكان بعيد..

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *