*علي جواد وتوت
عزيزي علي الوردي… لو تدري ماذا حلّ بـ «الشخصية العراقية»! | ربما لا تخلو مكتبة أي قارئ عراقي اليوم من كتاب لشيخنا الجليل علي الوردي. هذا على الأقل ظاهراً. في مقابل ذلك، فإن السوسيولوجيا (علم الاجتماع) في العراق، إذا جاز توصيف هذا العلم جغرافياً، تبدو وقد توقفت بعد الوردي، والناس من المهتمين والقراء بشكل عام يسألون المختصين فيها سؤالاً محدداً: ما الذي تم إنجازه بعد الوردي؟
وربما أسقط في أيدي المشتغلين في السوسيولوجيا أنهم لم يقدموا ما يشفع لهم عند هؤلاء الناس. فهل شكّل الوردي ظاهرة على المستوى المعرفي؟ أو لنحاول صياغة السؤال بشكل أكثر دقة: تنتج السوسيولوجيا في العراق سنوياً مئات الرسائل وعشرات الأطروحات، بل إنّ بعض المشتغلين في السوسيولوجيا، أنتج عشرات الكتب في ظرف عقود قليلة، لا يُذكَر منها شيء اليوم، ومقارنة بما أنجزه الدكتور الوردي لا يعرف الناس عن هذه الكتب سوى ما اتخّذ ذريعةً لنقد أدلجة المعرفة (2). فلماذا لا يوازي الإنتاج السوسيولوجي العراقي ما فعلته كتابات الوردي؟ مثلما لا يمكن تفسير الفجوة بين العامة والمنتج الأكاديمي السوسيولوجي، تلك المساحة التي استطاع الوردي ملئها بشكل قلّ نظيره. فما الذي يمكننا قوله إزاء منجز علي الوردي؟ وهل يحق لنا الحديث بشكل سوسيولوجي وقد أصبح الوردي حديث العامة؟ أم أنّ الوردي ومنجزه صارا عقبةً كأداء تواجه المشتغلين في السوسيولوجيا؟
اتفاقاً، وجب علينا الإشارة إلى أن معظم الباحثين والمختصين في السوسيولوجيا (علم الاجتماع) العراقية من الأجيال التي لحقت بالجيل الأول، جيل الكبار(3)، خرجوا جميعاً من معطف الوردي. بل قُلْ إن السوسيولوجيا العراقية نفسها خرجت إلى العلن والذيوع بجهود هذا المفكر الكبير.
إنّ «السوسيولوجيا معرفة تتطلع إلى الفهم في البدء والختام» كما أشار فيبر، فالمشتغلون بها إنما ينشدون «الفهم»، وهُم وفقاً لهذه الرؤية يبدون مزعجين حقاً للمنتفعين من بقاء المظاهر السلبية من دون كشف. وهنا علينا أن نعي لماذا ما زال السلاطين ووعاظهم يكرهون الوردي، والسياسيون يكرهونه، مثلما يكرهه رجال الدين والطائفيون، بأصواتهم المنفرة، بل إننا صرنا نسمع عدداً من الباحثين ممن يحاولون تشويه ما قدم هذا المفكر الكبير، ربما حسداً لجهوده الكبيرة التي لم يستطيعوا أن يقدموا ما يوازيها.
كل هذا البغض للوردي متأتٍ (وببساطة) من نجاحه في فضح وتعرية المجتمع في العراق (4) وشخصيات أفراده بملامحها العامة. نجح في فضح الشخصية العراقية أمام نفسها وأمام الآخرين… بسلبياتها الواضحة… لكن المسكوت عنها.
لكن الوردي لم يتحدث بلغة سوسيولوجية، «فانتقد طرق البحث العلمي الحديثة وفي مقدمتها المسح الاجتماعي عبر استمارة الاستبيان متعللاً بأُميّة غالبية أفراد المجتمع وتحفظّهم، مما يحول دون الوصول الى نتائج يمكن الوثوق بها»، بل حاول أن يسرد بشكل قريب من وعي القارئ العادي، فلم يلجأ إلى الأرقام – إلا ما ندر- لأنه كان يعلم جيداً أن العراق كان وما زال، بلداً دون عدّاد، وأن الأرقام فيه يمكن أن تكون خادعة، وقد تضع الباحث في أزمة حقيقية.
دأب الأستاذ الكبير علي الوردي على طرح تنظيراته التي تكاد تقترب من أن تكون نظريات راسخة عن المجتمع في العراق: ففي «لمحاتـه» (5) الكبيرة الذائعة، أو في دراسته عن «طبيعة المجتمع» (6)، ظل «الصراع بين البداوة والحضارة» في مجتمع العراق، هو الهاجس الأكبر لمؤسس السوسيولوجيا العراقية. وفي رأيه أن الصراع المذكور هو ما قاد إلى نشوء ظاهرتين تتسببان في انكسارات المجتمع وانجراحاته، وهما: «ازدواج الشخصية» و«التناشز الاجتماعي»، أكمل بهما الثلاثية النظرية لأطروحته حول المجتمع.
إن هذه القضايا ليست بالسهولة التي قد يتصورها بعضهم. فالأفراد في كل مكانٍ من مجتمعات الشرق المسلمة، ومنها المجتمع في العراق، يتقبّلون التقانة الحديثة والأشياء المادية بسهولة ويسرٍ كبيرين، في حين لا يتقبّلون القيم الثقافية المتزامنة معها بالسهولة نفسها!
عليه يمكن قراءة الوردي من هذا المنظور، على أنه محاولة الانتقال بالثقافة العراقية إلى التحضر والحداثة في دولة المؤسسات ومجتمع القانون… هذه الثقافة الجديدة التي تفترض قيماً متحضرة تتمثل في الإيمان بحقوق الإنسان، والصدق والإخلاص وتقبل الآخر والتسامح والشفافية في مقابل انتهاك حقوق الإنسان، لا سيما المرأة والطفل، وقيم الغش والنفاق والكذب والخداع والواحدية ومصادرة الآخر و… ما إلى ذلك من القيم الشائعة في الثقافة التقليدية.
غير أن تنظيرات الوردي فيما يخص فرضيته في نشأة الدولة في البيئات الحضرية، والتي تبدو صحيحة في زمنها، كتفسير علمي للمعطيات التاريخية والاجتماعية المتواجدة آنذاك، تفتقد لبعض الدقة، وهي بحاجة إلى نقاش أكاديمي عميق لبلورتها وما يتناسب مع واقع الاجتماع العراقي اليوم، وهو ما لا يتسع المقام لذكره.* باحث أكاديمي في السوسيولوجيا
إنّ «السوسيولوجيا معرفة تتطلع إلى الفهم في البدء والختام» كما أشار فيبر، فالمشتغلون بها إنما ينشدون «الفهم»، وهُم وفقاً لهذه الرؤية يبدون مزعجين حقاً للمنتفعين من بقاء المظاهر السلبية من دون كشف. وهنا علينا أن نعي لماذا ما زال السلاطين ووعاظهم يكرهون الوردي، والسياسيون يكرهونه، مثلما يكرهه رجال الدين والطائفيون، بأصواتهم المنفرة، بل إننا صرنا نسمع عدداً من الباحثين ممن يحاولون تشويه ما قدم هذا المفكر الكبير، ربما حسداً لجهوده الكبيرة التي لم يستطيعوا أن يقدموا ما يوازيها.
كل هذا البغض للوردي متأتٍ (وببساطة) من نجاحه في فضح وتعرية المجتمع في العراق (4) وشخصيات أفراده بملامحها العامة. نجح في فضح الشخصية العراقية أمام نفسها وأمام الآخرين… بسلبياتها الواضحة… لكن المسكوت عنها.
لكن الوردي لم يتحدث بلغة سوسيولوجية، «فانتقد طرق البحث العلمي الحديثة وفي مقدمتها المسح الاجتماعي عبر استمارة الاستبيان متعللاً بأُميّة غالبية أفراد المجتمع وتحفظّهم، مما يحول دون الوصول الى نتائج يمكن الوثوق بها»، بل حاول أن يسرد بشكل قريب من وعي القارئ العادي، فلم يلجأ إلى الأرقام – إلا ما ندر- لأنه كان يعلم جيداً أن العراق كان وما زال، بلداً دون عدّاد، وأن الأرقام فيه يمكن أن تكون خادعة، وقد تضع الباحث في أزمة حقيقية.
دأب الأستاذ الكبير علي الوردي على طرح تنظيراته التي تكاد تقترب من أن تكون نظريات راسخة عن المجتمع في العراق: ففي «لمحاتـه» (5) الكبيرة الذائعة، أو في دراسته عن «طبيعة المجتمع» (6)، ظل «الصراع بين البداوة والحضارة» في مجتمع العراق، هو الهاجس الأكبر لمؤسس السوسيولوجيا العراقية. وفي رأيه أن الصراع المذكور هو ما قاد إلى نشوء ظاهرتين تتسببان في انكسارات المجتمع وانجراحاته، وهما: «ازدواج الشخصية» و«التناشز الاجتماعي»، أكمل بهما الثلاثية النظرية لأطروحته حول المجتمع.
إن هذه القضايا ليست بالسهولة التي قد يتصورها بعضهم. فالأفراد في كل مكانٍ من مجتمعات الشرق المسلمة، ومنها المجتمع في العراق، يتقبّلون التقانة الحديثة والأشياء المادية بسهولة ويسرٍ كبيرين، في حين لا يتقبّلون القيم الثقافية المتزامنة معها بالسهولة نفسها!
عليه يمكن قراءة الوردي من هذا المنظور، على أنه محاولة الانتقال بالثقافة العراقية إلى التحضر والحداثة في دولة المؤسسات ومجتمع القانون… هذه الثقافة الجديدة التي تفترض قيماً متحضرة تتمثل في الإيمان بحقوق الإنسان، والصدق والإخلاص وتقبل الآخر والتسامح والشفافية في مقابل انتهاك حقوق الإنسان، لا سيما المرأة والطفل، وقيم الغش والنفاق والكذب والخداع والواحدية ومصادرة الآخر و… ما إلى ذلك من القيم الشائعة في الثقافة التقليدية.
غير أن تنظيرات الوردي فيما يخص فرضيته في نشأة الدولة في البيئات الحضرية، والتي تبدو صحيحة في زمنها، كتفسير علمي للمعطيات التاريخية والاجتماعية المتواجدة آنذاك، تفتقد لبعض الدقة، وهي بحاجة إلى نقاش أكاديمي عميق لبلورتها وما يتناسب مع واقع الاجتماع العراقي اليوم، وهو ما لا يتسع المقام لذكره.* باحث أكاديمي في السوسيولوجيا
الهوامش
1: من دراسة موسعة يعدّها الباحث حول تراث الدكتور علي الوردي ومنجزه.
2 : كمثل عن ذلك يراجع ما كتبه أحد المشتغلين في السوسيولوجيا بعنوان «الأنبياء عراقيون» (الباحث).
3 : ونقصد به فضلاً عن الأستاذ د. الوردي، كل من الأساتذة: د. عبد الجليل الطاهر، ود. حاتم الكعبي ود. شاكر مصطفى سليم (الباحث).
4 : يفضل الباحث استخدام هذا المصطلح بدلاً عن مصطلح «المجتمع العراقي».
5: المقصود بها دراسته الموسومة «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» التي صدرت في بغداد بـ 6 أجزاء في سبعينيات القرن الماضي.
6 : المقصود بها دراسته الموسومة «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي» التي صدرت في بغداد عام 1969.
_____