*محمد عويس
كيف تُصنع الأفلام؟ كيف تُسرد قصصها؟ كيف تؤثر فينا وتجعلنا نفكر؟ يحاول كتاب «أفلام مشاهدة بدقة: مدخل إلى فن تقنية السرد السينمائي» (تأليف مارلين فيب وترجمة: محمد هاشم عبدالسلام -المركز القومي للترجمة) البرهنة على أن التحليل لقطة بلقطة هو أفضل طريقة بالنسبة لطلاب ودارسي السينما لتعلم وإدراك فنون المخرجين ومهاراتهم. إذ إنه بعد تدريس دراسات السينما لسنوات عدة، تعلمت مارلين فيب أن المشاهدين الذين تدربوا على التحليل الدقيق لتسلسلات فيلم ما بمفردهم قادرون بصورة أفضل على رؤية وإدراك الثراء البصري والتعقيد السمــعـي للــوسيط السينمائي. يكشف التحليل الدقيق الأسرار المتعلقة بكيفية أن يكون لصور الفيلم، بالإضافة إلى الصوت، مثل هذا الأثر العميق في عقولنا وعواطفنا. عبر اختبارات فاحصة ومُفصلة لأحداث من أفلام كلاسيكية وشبه كلاسيكية.
يركز الكتاب على أعمال نموذجية لأربعة عشر مُخرجاً تغطي مسيرتهم الفنية، جنباً إلى جنب، تاريخ السينما السردية، بداية من دى. دبليو. جريفث وانتهاء بـمايك فيجيس. وبدلاً من مناقشة أفلام كثيرة بطريقة عامة، ناقش الكتاب أفلاماً قليلة على نحو تفصيلي، من خلال إلقاء الضوء بصفة خاصة على نحو أفضل سواء ما هو خاص ومميز أو مهم في أسلوب المُخرج أو تساعد على توضيح مغزى نظري أو إجمالي على قدر من الأهمية.
بدأت مارلين في دراسة المُخرجين الذين عملوا قبل قدوم التزامن الصوتي إلى الشاشة، مُركزة في الفصول الأولى (الأول حتى الثالث)، على أفلام نموذجية لـ دى. دبليو. جريفث، وسيرجي ايزنشتاين، واف.دبليو. مورناو، وشارلي شابلن، لأنه لم يكن لدى مخرجي الأفلام في العصر الصامت خيار استخدام الكلمة المنطوقة للتعبير عن أفكارهم، فكان عليهم أن ينقلوا أفكارهم عبر الصور. ونتيجة لذلك فالمخرجون المعاصرون لا يزالون متأثرين حتى الآن بالثراء البصري والقوة العاطفية لأفلامهم.ولأن مخرجي السينما الصامتة كانوا يعملون في ظل سوابق قليلة، فإن أعمالهم تنقل تجربة «القيام بها للمرة الأولى» تلك التجربة الحيوية والخصبة تشجعنا على التطلع إلى تقنيات السينما وتفحصها من جديد وبصورة مغايرة، فمعرفة أن نوعاً مُعيناً من حركة الكاميرا، أو لقطة وجهة النظر، أو طريقة تقابل بين لقطتين كانت مستخدمة بطريقة مُبتكرة يساعد الطلبة على التفكير والإدراك بصورة أفضل للمؤثرات المرتبطة بالعناصر الشكلية أو المنهجية للفن السينمائي.
ويبدو تحليل تسلسل قصير من فيلم «مُولد أمة» لجريفث بمثابة دورة مكثفة في أُسس فن السرد السينمائي، يهيئ أو يقدم للقُراء بطريقة محددة وواضحة جميع الأسس الخاصة بتقنيات السرد الرئيسية التي نشاهدها في الأفلام السائدة اليوم. وقد اختارت مارلين هذا الفيلم المثير للجدل عن عمد لتبدأ به هذا الكتاب لأن محتواه العنصري يوضح أن طريقة أو أسلوب تقنية السرد السينمائي لم تكن حيادية أو بريئة قط: «كل تفاوت أو اختلاف طفيف في سرد فيلمي يمكن أن ينقل أيديولوجية». كما أن التحليل الدقيق لتسلسلات من كلاسيكيات الأفلام الصامتة، علاوة على ذلك، يتيح إمكانية توضيح واختبار الأفكار النظرية الخاصة بالوسيط السينمائي التي لمُنظري السينما البارزين أصحاب الأفكار المؤثرة حتى يومنا هذا. مثال آخر تفحص تسلسلات قليلة في فيلم «المدرعة بوتمكين» لسيرجي ايزنشتاين يوضح لماذا اعتقد المخرجون السوفيات البارزون أن المونتاج كان الأساس لفن السينما. أيضاً تحليل لقطة واحدة فقط من فيلم «المغامر» لشارلي شابلن يمد الدارسين بــمــــعــــانــي أو أدوات جلية وملموسة تعدهم لاستيعــاب تنــظــيرات المُنــظر الســـينمائي الفرنسي أندريه بازان عن جماليات الواقع.
وفي الفصل الرابع تبين منــاقشة فيلم «سكــرتــيرتـه» لهاورد هوكس 1940 الذي تم تنفيذه بعد 13 سنة من إنتاج الأفلام الناطقة، للقراء تأثير التزامن الصوتي على فن السينما، بينما يقدم الفصل الخـــامس، والفصلان الســــادس والســـابـــع سلسلة من الإنجازات التي تحققت في السرد السينمائي في الأربعينات والخمسينات.
وتشير مارلين فيب مؤلفة الكتاب إلى أنه لا يوجد نص تمهيدي عن فن السرد السينمائي يكتمل من دون إعداد فصل عن الفريد هيتشكوك لذلك جاء الفصل الثامن بتحليل أسلوبي وموضوعي لفيلم «سيئة السمعة» (1946) لهيتشكوك موضحاً لماذا اعتبروه فناناً جاداً، وليس مجرد أستاذ إثارة وتشويق وذلك رداً على ادعاء أو زعم أصحاب نظرية سينما المؤلف بأن المخرجين العظماء يعتمدون دائماً على الموضوعات والهواجس الشخصية ليسموا أعمالهم بأسلوب سينمائي مميز، بغض النظر عن النوع السينمائي الذي يعملون في إطاره. حتى عندما يقتبسون مادة كتبت من قبل شخص في (الفصل التاسع) تقدم المؤلفة للقارئ فن السينما الأوروبي من طريق أعمال الإيطالي فلليني الذي جلب الأشكال السردية المعقدة والتأمل الذاتي في الأدب الحداثي إلى السينما، بينما يناقش (الفصل العاشر) الأفلام الفنية الأميركية لوودي آلان، والتي، على عكس الكثير من الأفلام لا يشرح أحد معناها أو يساعد الجمهور على متابعة الحبكة.
وفي النهاية يعمل كتاب «أفلام مشاهدة بدقة» على إرشاد القراء في التجوال خلال الأعمال الكبيرة المُهمة في فن السرد السينمائي ويقدم لهم آراء نظرية عن كيفية خلق التقنيات السينمائية وإبرازها للآثار السينمائية السردية، والأيديولوجية والعاطفية. ويشير اسم الكتاب إلى «قطارات مراقبة بدقة» الفيلم الشهير للمخرج التشيكي يوري منزل، وهو أيضاً اسم كتاب مُكرس للسينما التشيكية لأنتونين ليهم، وقد اختارت مارلين هذا الاسم كذلك لأنه يعبر تماماً عن حماستها الشديدة لتعليم الطلبة كيفية القيام بتحليل الأفلام عن كثب وبدقة، لقطة بلقطة، وبهذا تنفتح عيونهم أكثر على فهم مُدرك ومُطلع على الفن والتجريب في السينما.
________
*الحياة