داخلَ رغيف، تتسكّع اللانهايةُ، هي أيضاً

*أدونيس

– 1 –

قال الوقت:

منذُ أن ذَبُلَت الوردةُ الأخيرة التي وضعها العاشق على قبر حبيبته،

فوجئ بأنّها اختارَتْ أن تنبعثَ من جديدٍ، وأن تنبتَ في أحشائه.

تعرف أنّها تحتاج إلى ماءٍ مُحِبٍّ لكي تروي عطشها الدّائم

تعرف أيضاً أنّها لا تجد في ينابيع جفونه ما يكفيها.

لكنّها، مع ذلك، تثق بهذا الخيار.

– 2 –

قال الوقت:

في زمن البدء، كانت يدُ الإنسان هي التي تحرّكُ السّيفَ،

واليومَ، في زمن الحضارة، صار السّيف هو الذي يحرّك يدَ الإنسان.

ولئن كان المكانُ لا يَرى بوضوحٍ من أين تجيء الظّلمات،

فكيف يمكن أن يرى بوضوحٍ من أين تجيء الأنوار.

– 3 –

قال الوقت:

أعترفُ الآن أنّ الإنسانَ لا يستطيع أن يفكّر حقّاً، أو حتى

أن يحكم حقّاً، إلّا إذا كان يُتقِن فنّ السِّباحة ضدَّ التيّار.

وأعني ضدّي – أنا الوقت.

ولا بدّ له من أن يسبحَ أحياناً، داخل نفسه، ضدّ نفسه ذاتها.

وبدَهيٌّ أن يكون واثقاً من أنّ الحقيقةَ قد تُغلَبُ، غير أنّها لا تنهزم أبداً.

– 4 –

قال الوقت:

لا يرى الطّاغيةُ من الإنسانِ إلا يديْه وركبتيه:

يديهِ لكي تصفِّقا له،

وركبتيْه لكي ترتعشا جاثيتين أمامَ كرسيّه.

ويعرف الطّاغيةُ جيِّداً أنّ بين الرّعشة والعرْش حروفاً عديدة

مشتركة، كمثل ما بين الصِّحافة والتّصحيف، والإنسان والنسيان،

والغار والعار.

ويعرف الإنسانُ نفسُه أنّ الرّقابة مدرسةٌ عاليةٌ لتعليم الكلِمات

فنّ الصّمتِ أو فنّ الغياب.

ويُدركُ الطّاغيةُ الحاكِمُ كمثل أسيرِه المحكوم أنّ السّماء تعرف كيف تكتب الأرض، وأنّ الأرضَ لا تزالُ تجهلُ كيف تقرأ السّماء.

– 5 –

قال الوقت:

اقرأْ كتاباً دينيّاً،

إن شِئتَ أن تجلبَ الطّمأْنينةَ إلى قلبك وعقلك،

أو أن ترتجف من شدّة الخوف.

واقرأ شِعراً،

إن شئت أن تجلبَ العالمَ كلَّه إلى مخيّلتكَ، أو أن

ترتجف من شدّة الفرح.

وإيّاكَ في هذا كلّه أن «تقتفي آثار العظماء،

فإنّ خطواتهم تبتلعكَ».

– 6 –

قال الوقت:

«الدّفاعُ عن الشعر، لكي يظلَّ قادراً على الهجوم»: ذلك

هو دورُ الشّعر، اليوم، جواباً عن أسئلة الذين يُصِرّون

على «تعيين» الشّعر في وظيفةٍ سياسيّة أو اجتماعيّة، أو غيرهما

من الوظائف.

ولا بدّ من أن ينسى الشّعراء مهابطَ الوحي، كمثل عُكاظٍ وعبقرَ،

والأولمب وغيرها. خصوصاً أنّني، أنا الوقت، لم أسمع مرّةً أنّ

ربّة الشِّعر في هذه المَهابِط أحبّتْ شاعراً واحداً،

أو قرأت قصيدةً واحدة.

وليبْقَ الشاعرُ كما هو، في طبيعته ذاتها:

الشّاعرُ، في الحياة، هو الذي يكتبُ القصيدة،

والقصيدةُ، في الموت، هي التي تكتب الشّاعِر.

– 7 –

قال الوقت:

هنـــــالك حلفٌ مسبَّقٌ بين رجـــــال السّياسةــ جميعـــاً، يقـــوم على اليقين المُشتَرَك بأنّ العالَم لا فائدةَ منه، إلّا إذا كان فاسِداً.

بهذا اليقين تنهض السياسةُ على نموذَجٍ للإنسان يتمثَّلُ في الشّخص

الذي يريد أن يصلَ إلى كلِّ شيء، دون أن يصلَ إلى نفسه.

رفْضاً لهذا اليقين، ربّما كان سجنُك، أيٌّها الإنسان، أجملَ وأعلى جسْرٍ بين التاريخ وخطواتِكَ، وبينك وبين نفسكَ.

– 8 –

قال الوقت:

الحرّيّةُ ليست دائماً حرّة. فهي مقيَّدةٌ بأفق الشّخصِ الذي يُمارسُها.

في هذا الأفق، نفهم مثلاً، كيف أنّ شخصاً قرّر أن يهجرَ بلادَه، بعد أن توقّف الآخرون عن تشجيعه على الهجرة.

ونفهم كيف أنّ العاصفة نفسها تفقد البوصلة، أحياناً،

وكيف أنّ الخوف من حقيقةِ الحريّة يدفع الخائفين إلى قتل أصحابها،

وكيف أنّ الصِّدقَ يتتلمَذُ غالباً على الكذِب،

وكيف أنّ العدوَّ الحقيقيّ كمثل الصّديق الحقيقيّ: لا يتخلّى عنك.

نفهم أخيراً، كيف أنّ العلمَ يتتلمَذُ أحياناً، هو أيضاً، على الجهل.

– 9 –

قال عاشقُ الوقت:

من نافذتي في فندق أنديغو في نيويورك، على بعد خطواتٍ من المطعم شبهِ الأسطوريّ، كاتز، أرى إلى الفضاء كيف يُمسِكُ بطرفكَ الأيسر أيُّها الوقت، وإلى الغيوم كيف تُمسِك بطرفك الأيمن.

أتهَيّأ للعودة.

الهواءُ الذي يسعُل دخاناً فوق الهدسون والإيست ريفر، تواكبُه

نوارِسُ «لا تريد أن يراها أحدٌ «، كما قالت أرواد.

ألوانُ العماراتِ مبقّعَةٌ بدُخانٍ يتصاعَدُ من مداخِنَ غير مرئيّة. وأسمع بين أجنحة الطيور القليلة جدَلاً غامِضاً حول الجسور والتّخوم والحدود وعبور القارّات.

السّماءُ كلُّها تجلس على كرسيٍّ متحرّكٍ كأنّه يلبس الغيم.

يتدلّى إعلانٌ عن السّفر من عنق بنايةٍ قديمـــةٍ تشكو التّعبَ والحاجة. لا أرى أجنحةً إلّا تـــلك التــــي ترَفْرِفُ فــوق سطح كنيسةٍ فتيّةٍ. وهي أجنحةٌ تقول إنّها تنتسب إلى الملائكة.

يختلط هنا كلُّ شيءٍ بالظّنِّ وأمواجه. تظنُّ، مثلاً، أنّ اللانهايةَ تتسكَّع داخِل رغيفٍ، وأنّ الشّارعَ يمسحُ أسنانَه بأُشْنَةٍ يزرعُها النّهار ويحرسُها الليل.

– 10 –

قالَت بيروت:

ما هي، إذاً، أسرارُ الكلمات التي «تختم» شِفاهَ أحبّائي؟

لماذا تصيرُ كلماتُهم ظلالاً، بدلاً من أن تصير قناديل؟

وذلك الفضاءُ الفريدُ الذي ابتكَرْتُه منذ الأبجديّة، لماذا يُواصِلُ

غضبَه عليَّ قائلاً للنِّفايات: انهَضي وكوني أوّلَ الهواء.

– 11 –

قال التّاريخ:

قرَأْتُ هذه الأقوالَ كلَّها، وفي ضوْئها، سأخرج عن سياقها إلى سياقٍ

آخر يُضيئُها:

أن يعِيَ الإنسانُ خطأه، شرطٌ أساسٌ لصحَّة تفكيره، من جهة، ولكيفيّة

إتقانِه طرُقَ التّفكير الصَّحيح، من جهةٍ ثانية.

لكن، ليس هذا الوعْيُ سهلاً، وهو وفقاً للثقـافة العربية، تقاليدَ وموروثاتٍ، ليس متيسِّراً ولا مُيَسَّراً. قلّما يجرؤ العربيّ على الاعتراف

بأنّه يُخطِئ، خصوصاً إذا كان متدَيِّناً. ففي وعْيِه ولاوعيِه أنّه دائماً على حقّ.

والمشكلة هنا لا تنحصِر في فردٍ أو بِضعة أفراد، وإنّما هي أكثرُ تعقيداً وشمولاً: كيف يمكن مثلاً، أن يقتنع «الشعب» بأنه يُخطئ؟ وكيف نحدِّد هنا «الشعب»؟ ومَن له القدرة والجدارة في كلّ ما يتّصل بالإجابة عن هذا السّؤال: مَنِ «الشّعب»؟ وما تكون هنا معاييرُ القدرةِ والجدارة؟

– 12 –

استيقظتُ، اليوم، فرأيتُ الفجرَ عاطلاً من العمل.

– وأنتَ أيضاً أيُّها الفجر؟

______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *