لقاءات مصرية (1) : توفيق الحكيم في طائرة عسكرية!

*بدر الدين عرودكي

لم يخطر في مخيلتي يوماً أن ألتقي ذات يوم مَنْ كان أحد كبار كتاب العالم العربي طوال عقود وعقود من القرن الماضي. كان واحداً من ثلاثة ملأوا دنيا مصر والعالم العربي من حولها وكانوا شغلهما الشاغل طوال ما ينيف عن نصف قرن. تركوا وراءهم تراثاً فكرياً وأدبيّاً لا يمكن لأي بلد إلا أن يزهو به: طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم.

لكن المفكر والكاتب، الصديق أنور عبد الملك، الذي ربطتني به صداقة حميمة منذ أن قمت بإعداد وترجمة كتاب له نشرته دار الآداب عام 1974 “الفكر العربي في معركة النهضة“،  يهتف لي صباح ذلك اليوم من الربيع الباريسي عام 1975، كي يدعوني إلى المجيء إلى بيته عند الساعة الرابعة بعد الظهر كي ألتقي توفيق الحكيم الذي وصل إلى باريس، وسوف يأتي لزيارته عند تلك الساعة.

اختلطت السعادة التي غمرتني لحظة إغلاق الهاتف بقلق شديد. ما الذي يسعني أن أقوله لتوفيق الحكيم بعد ساعات عدة من الآن؟ فجأة، غاب في أعماق الذاكرة كل ما قرأته له. كنت قد التهمت قبل سنوات عديدة من ذلك اليوم ثلاثاً من رواياته: عودة الروح، وعصفور من الشرق، ويوميات نائب في الأرياف، وقرأت عددا كبيراً من مسرحياته، ولا سيما كتابه الضخم المسرح الاجتماعي. لكن تلك كانت قراءات المراهق الطموح. ستار أسود في الذاكرة كان يحول بيني وبين ما قرأت. حاولت في ما تبقّى لي من الوقت أن أستعيد ما استوقفني في عودة الروح وكذلك في عصفور من الشرق.. بدا لي أن ذلك هو الحل. هكذا أخذ القلق الذي انتابني بالتلاشي شيئاً فشيئاً، وأمكنني أن أتسلح بسؤاليْن حول روايتيْه، وربما بحجتيْن أيضاً يدعمانهما. سنرى.

**  **  **  **

كنت شديد الاهتمام بالثلاثي الذي ذكرت، ومن ثم فقد كنت طوال سنوات مراهقتي أتابع ما كان كلٌّ منهم يكتبه في الصحف، من يوميات العقاد في صحيفة الأخبار القاهرية، إلى طه حسين في صحيفة الجمهورية، إلى توفيق الحكيم في الأهرام. وكان أكثر ما يحزّ في نفسي آنئذ أنني لم أشهد أية مسرحية كتبها توفيق الحكيم على المسرح، كما كان لا بد من انتظار وقت طويل قبل أن يفكر أحد السينمائيين في إخراج أحد مبدعاته الروائية أو المسرحية سينمائياً.

**   **   **   **

هو ذا أمامي. كما كنت أراه في الصور التي كانت الصحافة المصرية تنشرها. البيريه على الرأس، والقامة التي بدأت تميل إلى الانحناء قليلاً.. وهن الجسد مع مرور السنين.. لكن العينيْن كانتا تشعان حيوية ومرحاً، والوجه تزينه ابتسامة لا تفارقه.

يقدمني أنور عبد الملك إليه بكرم شديد. وأبادره بما لم يكن، كما بدا لي، ينتظره: “كانت روايتك عودة الروح أول عمل أقرؤه لك حين كنت في الخامسة عشرة من عمري. لكن ما صدمني فيها أنك وأنت تذكر أسماء الشعوب التي غزت مصر قديماً، تذكر العرب! فهل كان العرب في نظرك إذن غزاة لمصر؟ صديقك عباس محمود العقاد أكد في بحث له أن العرب سكنوا مصر منذ آلاف السنين وأن المصريين، بفعل ذلك، عرب أقحاح!”.

سرعان ما يجيب توفيق الحكيم بلهجة فيها من الدعابة بقدر ما فيها من السخرية: “لا والله! أنا عربي خالص!” ثم يضيف:

“أنت لا تعلم حكايتي مع العروبة وما عانيته من أجلها. ذات يوم من شهر إبريل 1946، اتصل بي رئيس تحرير الأهرام يعلمني بأن هيئة التحرير أجمعت على اختياري كي أمثل الصحافة المصرية في الاحتفال بعيد الجلاء في سورية الحبيبة.

“كنتُ شديد السعادة. ذلك أنني لم أكن أعرف دمشق. وها هي فرصة تتاح لي لزيارتها. ولا سيما أنها فرصة لزيارة لبنان وسورية في الوقت نفسه، ما دمت سأسافر من الإسكندرية إلى بيروت ومنها إلى دمشق ذهاباً وإياباً.

“كنتُ أعِدُّ نفسي إذن لرحلة طويلة.

“لكن مدير الإدارة يعلمني عشية يوم الرحلة أن عليَّ أن أستعد. فالرحلة غداً، وستكون بالطائرة.

لم أكن أعرف الطائرة. ولا أحبها. بل وأخافها. كما لم يسبق لي أن اخترتها وسيلة للانتقال في كل رحلاتي لا من قبل ولا من بعد. لم يكن بوسعي الاعتذار. فكان علي أن أتوكل على الله، وأن أقرأ الفاتحة، وأن أقول: حاضر يا فندم..

ويسألني وهو يواجهني بنظراته الفاحصة:

ــ وكل ذلك في سبيل ماذا؟

هكذا أجدني أقبل القدر وما قدّره لي في هذه الرحلة. لكني فوجئتُ بأحدهم، قبل ساعة من موعد الطائرة، وفي الطريق إلى المطار، يخبرني أنني لن أسافر بطائرة مدنية، بل بطائرة عسكرية. بل وبإحدى الطائرتيْن اللتين ستشاركان في احتفالات الجلاء في سورية الحبيبة.

لم يكن بيدي حيلة. ولم تكن كل مخاوفي التي ارتسمت على ملامح وجهي مجدية في دفع أحدهم إلى إعفائي من هذه المهمة. فرئيس التحرير الذي قرر إرسالي، لم يكن في القاهرة، والذين كانوا من حولي لم تكن لهم أية صلة بمهمتي، ولم تكن لهم حيلة في الأمر.

هكذا أرغِمتُ على قبول قدري، مدارياً نفسي بأنها ستكون ولا شك تجربة فريدة في حياتي..

ويكرر وهو ينظر إليَّ بعينيه الفاحصتين ثانية:

ــ وكل ذلك في سبيل ماذا؟

سأعفيكَ من تفاصيل وصف الرحلة: جالساً على كرسي شديد الضيق، في طائرة تهتز كل ثانية كما لو أنها على وشك السقوط. مطبّات هوائية تتوالى على الطريق. كانت أحشائي تنقلب رأساً على عقب في كل رجّة كانت تنتاب الطائرة حين تجتاز الفراغات الهوائية. ولم يكن هناك أحد من حولي يمكن أن يسعفني بكأس ماء. من حسن حظي أنني لم أتناول الفطور صباح ذلك اليوم، وإلا ..

وأتساءل في سرّي عن ذنب اقترفته حتى أجدني ألقى كلَّ هذا العذاب.

“لكن الأنكى من كل ذلك، أن قائد الطائرة وهو يطمئنني أننا على وشك الوصول، أعلن لي أنه لن يتمكن من الهبوط بطائرته في المطار قبل المشاركة في العرض العسكري الذي يحضره رئيس الجمهورية ورجال حكومة الاستقلال. لأنه لو هبط بالطائرة في المطار العسكري من أجلي فلن يستطيع الإقلاع من جديد قبل إجراء الرقابة المعتادة على الطائرة، مما سيؤدي إلى التأخر في المشاركة التي أرسلت الطائرتان خصيصاً من أجلها.

“عندما أنهى قائد الطائرة تفسيره، كان قد صار في سماء دمشق. وطلب إلي أن أتأكد من ربط الحزام، وأن أتمسك جيداً بالكرسي، لأنه سيقوم ببعض الحركات البهلوانية تحية لسورية المستقلة في عيد تحررها. هكذا وجدتني على حين فجأة: رأسي إلى الأسفل وقدماي إلى الأعلى، ثم ينعكس الأمر كي تعود الطائرة إلى وضعها الطبيعي طوال ثوانٍ عدة ما تلبث بعدها أن تعيد تكرار الحركة مرّات بدت لي وكأنها عذاب الأبدية!

لا تسألني عما حلّ بي. حين خرجت من باب الطائرة وقد حطّت أخيراً على أرض مطار المزة العسكري، تلقفني جندي وحملني حين رأى وجهي المصفر وعينيَّ الجاحظتين رعباً.

ــ وتحمّلت ذلك كله في سبيل ماذا يا أستاذ؟ ألا ترى أنه كان في سبيل الأخوة العربية وسورية الحبيبة؟

وتأتي لتقول لي إنني ضد الوحدة العربية؟

**  **  **  **

أقول له ضاحكاً: الحمد لله على سلامتك!

فيلتفت إلى أنور عبد الملك ليبادره: “أنا سعيد أخيراً بلقائك. مضى زمن لم أركَ..”. ثم يلتفت إلي: “هل تعلم كيف عرفت أنور؟

“في بداية الستينيات، ذات يوم في مكتبي بالأهرام، قيل لي إن فتاة أجنبية تريد أن تراني وأنها تحمل رسالة لي من صديق مصري مقيم في باريس.

“دخلت المكتب فتاة في العشرينات من عمرها، ذات جمال نادراً ما صادفته في حياتي. لاحظت من لكنتها وهي تحدثني بالفرنسية، أنها ليست فرنسية الأصل. أعلمتني أنها بولونية لكنها تعيش في فرنسا منذ عشرة أعوام. وأنها تعد رسالة دكتوراه عن المسرح في مصر. وهو ما دفعها إلى لقائي.

“قرأت الرسالة التي وضعتها بين يدي. رسالة من شخص سمعت به لكني لم أكن قد التقيته. أنور عبد الملك. سألتها إن كان أستاذها أو زميلها في الجامعة. لم أستكمل سؤالي حين رأيت عينيْها تغرورقان بالدموع.

“لم أفهم سبب البكاء. وشعرت بالحرج حين دخل القهوجي يسأل ماذا نريد من شراب. رآها تبكي، فنظر إلي يسألني بعينيه: ماذا فعلتَ لها! طلبتُ إليه أن يأتيها بكوب عصير جوافة. لا أدري لماذا اخترت لها الجوافة بدلآ من البرتقال أو المانجا مثلاً!

“وبسرعة غير مسبوقة عاد حاملاً كوب الجوافة، مع وردة حمراء! هدأ روع الفتاة وطفقت تعتذر عن بكائها.

“سألتها عن السبب. ترددت قليلاً. لكنها ما لبثت أن أعلمتني أنها تحب أنور وأن أنور تركها وتخلى عنها، وأنها مع ذلك لا تزال تحبه..

“حين رأيت أن هذه الفتاة باهرة الجمال تبكي حرقة على حبها الضائع.. قلت في نفسي: لا بد أن يكون هذا الأنور كائناً استثنائياً.. ولو لم يكن كذلك، فما الذي يجعل مثل هذه الفتاة الرقيقة، نادرة الجمال، تحبه؟

“أعترف. ذلك اليوم عقدت عزمي على أن ألتقي بهذا الكائن الذي يحرق، غير مبال، قلوب الفتيات الجميلات!”

سألته بعد سماعي القصة عن روايته “عصفور من الشرق”: هل كان سيكتبها اليوم كما كتبها قبل ثلاثين عاماً، أي استحالة اللقاء بين الغرب والشرق؟

لكنه بعد حكايته عن أنور والفتاة البولونية أجابني: “ألا ترى؟ أهو ده الجواب..!”

_________

*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *