الرجل البومة

خاص- ثقافات

*ميمون حرش

 

يا له من مسكين!.. ما له بتأليف قلوب أهله يدان..

ما أكثر المفسدين، والمرجـفين في بلدته !..

أوغروا صدره ضد بلدته، فتركها غير آسف ، ويوم غادرها ذات شتاء أقسم أن ينضاف للائحة “خرج ولم يعد”؛ ضرب في أرض الناس، تطوح في بلدانهم مشرداً،طريداً.. بات جائعاً،التحف العراء.. واشتغل حمالا، ينوء تحت ثقل كل من يطلب خدماته، كان كبغل يلبي دون أن يحتج.. سمع ممن حمل أثقالهم كلاماً جارحاً، ونابياً،  وكان كل  مرة يُـسرّي وقاحتهم بتحسس جيوبه وهو يسمع ما لا يرضيه، تلك طريقته في الحفاظ على أعصابه باردة؛ كان يقول : ” لا بأس.. تركت أهلي من أجل المال، فلا مندوحة لي عن الصبر إذاً “..

 اليوم يعود من سفرته وفي نفسه بعض من أمل من أن يجد دنيا الأمكنة التي تركها قد تغيرت وسكنها الأمل ، وأن ساكنيها قد تلطفت نفوسهم..

   حز في قلبه فقط أن أخته لم تكن هناك، سأل عنها، قيل له بأنها يوم غادر البلدة أصابتها حمى، أقعدتها الفراش أياماً، ظلت تهذي باسمه، ولما توسم الجيران فيها أمارات الشفاء،لم يعثروا لها على أثر،  وآخرون زعموا بأنهم رأوها في قبة ولي صالح رافضة عرض العودة.. وقليلون منهم  قالوا له بدون فلسفة : ” خرجتْ ولم تعد..”

 سمع من هؤلاء كل التفاصيل، وازداد اقتناعا بأن لعنة الرحيل آلة حاصدة لا تني، اقتلعت من الجذر أباه الذي هجر أمه وتركها أرملة دون أن يرى ولديْه التوأم أبدا..وأمه ماتت( والموت آلة أخرى) بعد أن شب هو وأخته عن الطوق.. وما من شيء سيوقف هذا الزحف أبا عن جد..الأهل سيغادرون..اليوم أو غدا..لا بد من ذلك.. لا يهم إلى أين، إنما الأساس في ربيدة العائلة هو التيه..

 أخته راحلة إذاً،تعقبت القارظيْن (الأب والأم)، كيف تجرؤ وتغيب، وأي سبب قوي حملها على مغادرة البلدة؟  كيف تغيب عنها وهي المؤمنة بأن رائحة الأرض مثل ما يدفن فيها، محفوظ محفوظ.. ياللسخربة!

هو يوم عزم على الرحيل،أبت أن تودعه، لكنها غنتْ له :

” يا الرايح وين أمسافــر..

تروح تعيا وتولي..

أشحال من عباد الغافلين ندمو قبلك اٌقبلي..”

البيت خالٍ اليوم إلا من شجرة لبلاب  لم تكمل التفافها من محْل وهجران ، صارت الدار خربة، وأول ليلة يقضيها داخلها آنسته بومة كانت تأوي إليه كل يوم، ويقول الجيران إنهم تعودوا، مجبرين، على نعيبها، لكنها، يوم رجع صاحب البيت، نعبت مرة ثم ارعـوت كأنها تحتج على وجوده..  ومع مرور الأيام سيألف كلاهما الآخر في النهاية..

في الأول لم يعرف كيف يتأقلم في بيت ولد فيه دون أخته التوأم، لكن البومة كانت له سكنا، والطقس الذي تغير هو أنهما تبادلا الأدوار.. هو من أصبح “ينعب” ويصرخ بالليل لا البومة، فيما هي تظل الليل ترقبه..

بالنهار يظل يسرح ماشيا كمن يكتشف البلدة لأول مرة.. شيء ما ليس عاديا فيها، لكنها لم تتغير مع ذلك البتة إلا من صبية صغار، يتكاثرون يوما عن يوم، يملأون فيها الزوايا، ينطون ، يرتعون، وحين يمر بهم يكره لا براءتهم إنما النزق الذي في داخلهم.. يتحولون إلى ما يشبه الفرقعات حين يرونه، يصرخون مشيرين إليه:

” إنه الرجل البومة “..

في البداية كره منهم ذلك لكنه سيألفه منهم، لكن ما أمضه كثيرا هو كيف ينظر إليه الكبار لا صغارهم،حتى في بيت الله لا يسلم من حبائل  نظراتهم، وبسبب البومة قاطعوه، قالوا إنه منحوس، يجلب الشر والبلية، وكثيرا ما اتفقت “الجماعة” على التفكير في طريقة لنفيه، لعلهم يجتثون اللعنة برحيله عن البلدة، لذلك أرصدوه، مرات عدة، شَرَكا لصيد بومته، وكل مرة يعود وفي حبائله لا بومة واحدة بل الكثير منها..حاول أن يتقرب من كل دار، ِوهادها قبل قُننها  دون جدوى..ولم تزل نفسه في خطب ود أهل بلدته مستشرية حتى اهتدى إلى  أن يتألف قلوبهم عن طريق مصاهرتهم، وليضمن قَبوله كعريس اختار أن يخطب ابنة إمام البلدة..

ورغم أن عرف البلدة يعتبر أن من يخطب لوحده دون أهله لا يعني ما يقول أبدا، ويعدون تصرفه طيشاً.. رغم كل ذلك طرق باب الفقيه ( هذا ما أكدته الجماعة فيما بعد).. استقبله الفقيه يومها خارج البيت، ولم يدم حديثهما سوى لحظات..

قال له :

  • أنت تحفظ كلام الله ،وتقي ورع، فهل تقبلني أنا اليتيم زوجاً لابنتك المصون..؟

الفقيه، أو آخر كان سيفرح لخِطب كهذا في زمن كف الناس فيه عن الزواج، لكن رده أذهله :

  • “الجماعة” تقول إنك تزوجت البومة، فما حاجتك بالزواج إذاً، ثم بالنسبة لك، في مثل حالك،ويل خير من ويليْن “..

وبسبب البومة ظل بدون زوج.. الأيام من حوله دولاب.. وخط الشيب رأسه، واهتصرت السنون ظهره،كما أمالت أغصان شجرة اللبلاب.. وكلما ازداد شيبه جفت ورقة من الشجرة، وامتلأ البيت بالبوم، ولأنها كثيرة لم يستطع أن يجاريها في النعيب ليلا.. تغلبت عليه وصمت مضطرا..

 يا له من مسكين!.. ما له بتأليف قلوب أهله يدان ، لذلك فكر في الرحيل مرة أخرى دون نية العودة هذه المرة، ولقطع هذا الأمل عليه عزم على بيع بيته.. لكن هيهات.. لا أحد من المشترين رغب في بيته رغم زهد ثمنه.. لا أحد يفكر أن يهب نفسه للشر بيديه، من يجرؤ على اقتحام النحس..

ليلة الرحيل، بدت البوم، كما لو تغير شكلها، الرائي لها قد يجزم أنها تشبه أي شيء سوى شكل الطير.. بدت كما لو نفقت، كفت عن النعيب، وهو من جهته وجدها فرصة سانحة لأن يصرخ بكلام أخير كما لو كان يترك وصية..ظل الليل يردد والدمع يرفض من جفنيه :

“يا أهل الخرافات،

ويا صناع العاهات..

أنحس بومة أفضل من رؤوسكم مجتمعة…”

أضعتموني إذ قرنتم اسمي بنحس

مع أن أشرفكم مجرد نِكس…”

في اليوم الموالي، بعد صلاة العصر، عقد الأهالي العزم على طرد” الرجل البومة” من البلدة مهما كان الثمن..

 كان الرجل قد غلس….

قصدوا بيته، في الطريق بدوا كأنهم يشيعون ميتاً، كانوا يرددون ” لا إله إلا الله، محمد رسول الله”..

تجمهروا حيث يسكن، شكلوا دائرة حول البيت، حاصروه.. ارتفعت أصوات نشاز مصحوبة بمد أذرع طويلة، بدت كمعاول تتناطح في الهواء.. الناس يتطاير الشرر من عيونهم، متأهبون لتغيير المنكر..  بحت الحناجر، ونفذ صبر الجميع.. ولم يفضل غير اقتحام البيت ..يتقدم كبيرهم في محاولة لتكسير الباب، غير أنه يتراجع فجأة.. صمت رهيب أعقب ذلك..انفتح الباب، وإذا بامرأة( على الأرجح هي أخت الرجل المطلوب).. مشيحة بلباس أبيض تستقبلهم، وتقول لهم :

” كعادتكم.. لقد تأخرتم كثيراً..”

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *