*رحمن خضير عباس
( ثقافات )
أدركتُ فداحة البرد من خلال الجليد الذي تراكم على الحواشي الخارجية لزجاج النافذة . الشوارع مقفرة سوى السيارات التي تعبر الطريق دون ضوضاء . أزحت قليلا ستار النافذة ، لأتأمل الأشجار العارية والغارقة في كتلة ثلجية تمتد بعيدا في أعماق البارك الكبير المقابل لبيتنا . شهر آيار يأتي ثقيلا حاملا عواصفه الثلجية التي تغطي كل شيء ، أسقف المنازل المخروطية وأسوار البيوت ، وحافات الشوارع والأرصفة ، والحدائق العامة وساحات المدارس والدروب والأشجار والحقول . ثلج يهيمن على المشهد اليومي ، نألفه ونهابه ونخشاه او نستمتع به ..الثلج يتكوم هشا لامعا كسحابة بيضاء عابرة، أوقاسيا كأحجار كونكريتية . ضوء الشمس الذي يأتي رشاشاً خافتا لايخفف حدة البرد كما كنت أتوقع ، بل يزيده صلابة ، لاسيما إذا كان مصحوبا بريح قطبية .
– لأذهب الى المسبح اليوم . قلت لنفسي وكأني أمارس لعبة التحدي . المركّب الرياضي لايبعد كثيرا عن بيتنا . وهو مجمع كبير ، يحتوي على احواض سباحة وقاعات مختلفة لممارسة أنواع مختلفة من التمارين الرياضية ، إضافة الى ساحة للعب الهوكي ، والسكواتش ،ورفع الأثقال . سخّنت سيارتي المتوقفة في الممر ،ريثما اكمل تهيئة الملابس الملائمة . كنت متثاقلا، وكأن السباحة واجب ثقيل أقوم بحمله مرتين كل أسبوع ، استجابة لأرشادات الطبيب الذي حذرني بإسلوب يشبه التهديد ، وكأنه حريص على جسدي أكثر مني .ذالك الجسد الهش والذي تحول الى أرض يباب ، قاحلة ، بفعل نزف السنين التي تتساقط من قطار العمر . وبفعل الغربة التي اصبحت قدرا يرافقني الى مالانهاية ” الدهون الثلاثية ، والسكري ، ونبضات القلب المتسارعة ” . ضحكت وانا أعدُ طبيبي بالمثابرة على الرياضة ، وخصوصا السباحة والمشي .
وضعت في حقيبتي كل شيء يلزمني هناك . وتذكرت ان السيارة اشتغلت بصعوبة ،على غير عادتها ، وقد عللتُ ذالك بشدة البرد الذي يؤثر سلبا على كفاءة البطارية . ولكنني عرفت – بحكم التجربة – أنها تستعيد قوتها حالما تسير السيارة بعض الوقت .
وكالعادة في الأيام الشتوية الباردة يكون المسبح غير مزدحم . إنغمرتُ في زرقة الماء وانا أعوم في المسبح المغطى ، احسب الوقت من خلال الساحة الرقمية المثبتة على الحائط . وأعدّ مرات الوصول الى بداية الحوض ذهابا وإيابا ،متلهفا لأنتهاء التمارين وأنا أرمق الدقائق الرقمية وهي تتصاعد ، وكأنني في سخرة عمل مجبر على أدائه . زرقة الحوض ورقته والمويجات التي تنحدر بصمت تحت الأضواء اللاهثة الممزوجة بموسيقى عذبة تتسرب عبر الماء المتموج ، والرسوم الجدارية التي توهم السابحين بالدفيء ، وكأنهم على شواطيء البحر حيث الأشرعة ومظلات الشمس والسحب . كل ذالك لم يجعلني أنسى أنه واجب مفروض وممل . تذكرت الطفولة حيث كنا مفتونين بالسباحة . نتدحرج في النهر عند الظهيرة ، مستغلين قيلولة أهلنا الذين يمنعوننا من خطيئة السباحة ! ،ويحذروننا من الغرق . ولكننا نهمل نصائحهم المبالغ فيها ، وننسى كل شيء، حالما نذوب في مجرى النهر وبين مويجاته ، راكضين على الجرف المعشوشب ، وقافزين في لجة الماء الممزوج بطمى الغرين التي تحيل النهر الى لون غامق . وحالما ننتهي من حفلة الفرح الطفولي حتى نتسلل الى بيوتنا خلْسة ، خوفا من العقوبة . ومن ملامة لالزوم لها . ولكن للأهل حساباتهم التي لم ندرك جوهرها حتى بلغنا من العمر عتيّا . أما الآن فقد كبرنا ، وصار النهر ذكرى شاحبة ، وتضائلت الرغبات الطائشة ، ولم يبق امامنا سوى الذكريات التائهة التي إستعضنا عنها بلذة الصمت .تهفو أنفسنا الى ثرثرة أصحاب غادرناهم ذات مساء ، دون أنْ ندري بأننا لانلتقي أبدا ، ونحنٌّ الى حكاياتهم
تذكرت استاذنا الجامعي وهو يتحدث عن عصارة تجربته الحياتية . في مناسبة لاأتذكر تفاصيلها بدقة – اسمعوا يا أولادي.
أصغنا السمع مؤجلين الطيش الذي يلازمنا عادة .
“كل المتع زائلة … وتبقى متعة الحديث ..”
في ذالك الوقت سخرنا منه وقلنا ان الرجل اصبح خَرفاً . ما معنى ان يكون تجاذب أطراف الحديث متعة ؟ وها أنا ذا اصل الى ذالك الإستنتاج المر،بعد هذه الرحلة المتعبة التي تجعلني أتحايل على نفسي وانا الوك بعبارة سمعتها ذات يوم ” نحن لانتوقف عن اللعب لأننا كبرنا ، ولكننا نكبر لأننا توقفنا عن اللعب ” . هل كنت أمارس لعبة التحايل على الزمن وانا اخرج في هذا النهار القطبي ؟
حالما انتهيت من دورة السباحة التي أرغمت نفسي عليها . خمس مرات ذهابا الى نهاية الحوض الأزرق ومايعادلها إيابا . وحالما اكملت العد حتى هرعت الى غرفة البخار . وهي غرفة مقفلة يتصاعد منها بخار ساخن . انغمرت في ذالك الفضاء المضمخ برائحة الأجساد البشرية التي تسعى للأسترخاء . تذكرت حماماتنا الشعبية التي إنقرضت منذ سنين . والتي كانت فضاءا محببا لإنعتاق الجسد . كنا نذهب في لجة حرارة بخارية ، نستأجر من يزيح تراكم الأوساخ على جلودنا ، ياتي رجال كبار السن يطلقون على أنفسهم ( المدلكجية )، ويحاولون ان يحركوا العضلات الرخوة والمفاصل الكسولة في ظل طقوس صامتة ومحببة ، وقد يحلو للبعض ان يمارس رياضة الزورخانة . والبعض الآخر يمنح لنفسه حرية الغناء . بعد ذالك نتدثر بمنشفات ثقيلة ونستلقي على أرائك الإستراحة ونحن نحتسي شاي القرفة الساخن الذي يمنحنا بعض الدفيء .
إنسحبت من فحيح الذكريات القديمة وأنا اخرج من الباب الرئيسي للمركّب الرياضي . كان الجو كعادته باردا .. السيارة في المرأب الكبير . كانت باردة ايضا . أدرتُ مفتاح ألتشغيل ، ولكن المحرك كان اشبه بالميت ، لم اسمع حتى صوت صريره او حشرجته ، لاشك ان البطارية قد ماتت وليس ثمة حل الا بشحنها من بطارية سيارة أخرى . هذا ما اعرفه من خلال التجربة . فتحت غطاء السيارة الأمامي ،هيئت( الكيبل) الذي من خلاله انقل شحنة كهربائية من بطارية سيارة أخرى الى بطارية سيارتي . كانت الريح تصفع وجهي وتجمد أطراف أصابعي رغم الكفوف الشتوية. وقفت امام سيارتي ، أستجدي المساعدة . ومع أنّ المرأب غاص بالسيارات، لكن لاأحد يمشي على قدميه . فجأة رايت رجلا . يخرج من الباب الرئيسي . شعرت بالإرتياح ، لاسيما وانني ادركت أنه من الذين يمارسون السباحة معي . وحينما مرّ على مقربة مني . ظننت انه سيبادر الى مساعدتي من تلقاء نفسه . ولكنه تجاهلني . هل كان متعمدا ؟ قلت في نفسي ربما لم يلحظني فتعقبته الى سيارته . كانت حمراء من نوع روندروفر ذات الدفع الرباعي ، تبدو من الموديلات الحديثة . تعقبت خطواته وحالما أدار محرك التشغيل حتى بادرته بلباقة مغلفة بذل السؤال .وبدون ان يعتذرأو يبرر، بدرت من وجهه إشارة رفض لم أتوقعها أبدا . خُيّل لي أنه ذو ملامح غريبة .
كنتُ أتتبع حركة وجهه الرافضة وكأنها حجر يهشم زجاج ضعفي .احسست ببركان من حرارة تتدفق عبر جسدي فتخترق الملابس الثقيلة التي ألبسها . هل هو الخجل من نفسي أو الخجل من فحوى مواقف غير طبيعية ؟.
لقد أدركت أنّ هذا المناخ الجارف في برودته أكثر ألفة من هذه الملامح القاحلة التي يحملها هذا الرجل ، لاسيما انني تذكرت أنّه يشاركني المسبح كل يوم إربعاء من الأسبوع . تذكرت جيدا تجهم وجهه حينما نلتقي احيانا على أروقة المسبح أو في غرفة البخار . كانت الغرفة تتسع لعشرة سابحين . وكان ينزوي في احدى الزوايا . لايتبادل الكلام مع الآخرين . هل كان حالما او متعاليا او مهموما ؟ لاأدري ولكنني كنت احدس بعض الوجوه ، أرمقها خلسة ، وارسم لها بورتريتا يؤطر ماهيتها . قد اكون مخطئا في تصوراتي او محقا . ولكنني لم استطع أن أتخيل تركيبته الشخصية، بهشاشة ألوانها اوبنصاعتها .
عامان مرّا ، ومازلت أتذكر تلك اللحظة المتحجرة التي جعلتني أجعل هذا الرجل هدفا لأهتمامي . أحيانا أحاول ان انسى ولكن ما أنْ يدخل ( الرجل الآلي ) كما اطلقت عليه بيني وبين نفسي ، مقوس الظهر ، متجهم الملامح ، لايلقي التحية على احد وهو يحمل نظّارة السباحة وحالما ينغمر في الحوض حتى يضعها على عينية ثم سرعان ما يضيع بين الزرقة الشفافة وانعكاسات الأضواء المسلطة من السقف العالي ، والتي تتسرب في زرقة الماء وتحوله الى لون سماوي تتراقص قطراته وتتسرب عبر شلالات الضوء .
اصبح هذا الشخص هدفا لمراقبة غير مقصودة . أتفحص خطواته ، أرمق حركاته بطرف عيني . حينما تخبط يداه الماء ، أميل ان اخبط الماء بقوة مماثلة كي أشعر ببعض الرضا في كوني أحسن منه ، ورغم انه يعوم في حيز المتقدمين وانا في الحيز المتوسط ولكنني كنت اقنع نفسي باني أُجيد السباحة بشكل افضل منه . كما ان الأنتقال من حيز الى آخر يعتمد على الرضا عن ألأداء في السباحة ، ورغم انني كنت أتذكر بانني تعلمت السباحة في سن مبكرة من صباي ، وعلى الضد من رغبات اهلي الذين كانوا يخيفوننا من الغرق . ولكننا كنا نتحدى لعبة الثقة بالنفس ، التي فقدناها الى الأبد في ظل تربية شرقية دمرت القدرة فينا على التواصل والإندماج .
بعد ان اشتريت بطارية جديدة . كنت اجوب المرأب- أحيانا- أمنّي نفسي بأن سيارة الرجل الآلي تحتاج المساعدة فامر عليه كالمنتصر ، ثم أنزل من سيارتي واقول له هل تحتاج الى مساعدة . فيجيبني بإنكسار نعم ، فاقوم بما ينبغي ان اقوم به واحقق انتصاري في انني قد لقنته درسا في الأخلاق العامة .
إبتسمت بمرارة وانا انتشل نفسي من وهم طائش يجتاحني ، فاحاول استعادة توازني متناسيا ما فعله لي ، معللا ذالك باختلافات العادات والتقاليد والأعراف والتي تشكل الخلفية الثقافية لكلينا . قد يعتبررفضه مساعدتي مسألة طبيعية جدا ، بل تدخل ضمن الحقوق الشخصية في مجتمع تتحقق له الخدمات بدقة ، وفق آلية الخدمات التي تأتيك بسهولة لقاء دفع مالي . فليس هناك مجال للنخوة الشرقية التي ألفتها وابتْ ان تفارقني ،رغم الفجوة الزمنية التي عشتها في الغربة .
في غرفة البخار (ستيم روم) كنت مسترخيا متأملا ، والبخاريتصاعد من الفجوات الخشبية ليرتطم بالسقف ، بينما يتضبب كل شيء ، الجدران التي تتكون من مربعات السيراميك الصغيرة والتي تعلو الى السقف وحتى النافذة الزجاجية . جعلت ساقيي متعاقبتين واستندت على الحائط . أسبلت يديّ وارخيتهما ، أغمضتُ عينيّ كي أذوب في لعبة ألصمت التي تعلمتها من دروس اليوغا ، ولكن دخول الرجل الالي الى غرفة البخار أطاح بلحظة الصفاء التي كنت أسعى اليها ، حينما تخليتُ عن لحظات الإسترخاء ، وبقيت ارمقه بين الفينة والأخرى بنظرة عدائية اجهزت على الصفاء الروحي الذي كنت أسعى اليه.
ذهبتُ الى رشاشات الماء كي أغتسل وبينما كان الشامبو يغمر وجهي ، رأيت الرجل الآلي يذهب الى غرفة الملابس أيضا ، وكأنه على عجلة من أمره ..أغتسل بسرعة ، وقد علق نظارات سباحته على المشجب ، ثم ذهب الى خزانة ملابسه المقفلة ، اخرج المنشفة ، ثم إرتدى ملابسه ، بينما كنت أتعمد التأخر . وضع جاكيته الشتوي السميك وخرج من غرفة التغيير الى الباب الرئيسي دون أن يلحظ بانه نسي تلك النظارات معلقة على المشجب . ابتسمت بخبث وشماتة ، لأني اعلم بأنه لايستغني عنهما في السباحة . كنت على وشك ان انتهي من لبس كامل ملابسي . حتى تبادرت لي فكرة شيطانية . قلت لنفسي هامسا :
– سألتقط هذه النظارات واقذف بهما في صندوق القمامة .
وعلى مهل ذهبت الى قاعة المرافق الصحية . كنت وحيدا ، وبحركات متآمرة مشبوهة ، فتحت غطاء الصندوق الذي كان شبه فارغ سوى بعض الأوراق وقطع الكلنكس ..اخرجت النظارة وهممت برميها في قاع الصندوق ، عنذاك لايجدها ذالك الرجل الذي كرهته – ربما من طرف واحد – . وفي خضم اللحظة وجدت وجهي يتراقص في المرآة القائمة امام المغاسل . كان وجهي متجهما . تسيل منه ألوانُ من الكراهيّة والتخلف والوضاعة . كان وجهي يتقمص قناع الرجل الآلي . ولكن يدي المتشنجة بقيت متصلبة .. عنذاك تراجعت الى الخلف . والنظارة تتأرجح في يدي بينما كنت أتحرى ملامحي الحائرة في المرآة المنتصبة . أقلعت عن رمي هذه النظارات في القمامة ، ولم أكتف بذالك فقد حرصت على أخذها الى موظفة المركب الرياضي .
– شخص ما ، نسي هذه النظارات على المشجب .
شكرتني الموظفة وهي تضع النظارات في صندوق المفقودات .
وكأن اسفنجة غسيل مسحت كل اللحظات التي كانت ترهقني طيلة عامين ، مسحتُ صورة الرجل الآلي من ذاكرتي ، بعد أنْ أسدلتُ ستارا بيني وبين الهواجس الصغيرة التي سممت الكثير من لحظات الصفاء التي كنت بامسّ الحاجة اليها .
لقد نسيته وتوقفت عن تسميته بالرجل الآلي .