الرجل المُسْتَعْمَل


*صبري الرحموني

(ثقافات) 

أرمي حصاةً تلوَ حصاةٍ في نهرٍ، أُخربِشُ أسناني بأليافِ العشبِ على ضفَّتِهِ ، أتحسَّسُ الماء بمنقاري كصغيرِ البطِّ..
ستقولُ أنتَ ــــ كالعادةِ ـــــ حكاية النهرِ هذهِ لا أساسَ لها من الصِّحةِ.. 
شابكًا عشري على قفايَ أتمدَّدُ برفقٍ كبقعةِ زيتٍ على ضفَّتهِ ، منتظِرًا فاكسًا يدلَّني على ثكنتي الجديدة.كنت دائما أكثرُ حظًّا مما ينبغي وهذا ما جعل دنيايَ عسيرةً، وفرةٌ في الحظِ جعلت مني نقطةَ إلتقاءٍ بين مستقيمين داخلَ شبكةٍ 
لا أتحركُ إلا بتحرك أحد المستقيمين وهذا يتطلبُ تعديلا كاملا على الشبكةِ للحفاظِ على التوازن ـ ببساطةٍ يتطلبُ الأمرُ .. فاكس
حاول أن تضعَ أذنك على صخرةٍ بعدَ أن تنظف جوفكَ من الأدرانِ كمن يمسحُ القطران من باطنِ جرَّةٍ بإسفنجةٍ مبللةٍ، حاول أن تسمعَ غصَّتها ، أن تربِّتَ عليها بحنانٍ يضاعفُ ذاك الذي تصرِّفهُ عندَ ركبتي أمكَ ، أن تنظُرَ إليها نظرةً هشّة بإعتبارها جزءً منكَ وبإعتباركَ جزءً منها .. حاول وحاول وحاول ، قد يحتاجُ الأمرُ لحظةً أو أبدًا كي تمدَّ إليكَ ذراعيها متداعيةً كأرملةٍ في الظّلمة.. ” يا للوحشةِ يا أخي…”
حاول أن تتلمَّسَ أن نظرةَ جائعٍ إلى الأفق تفعلُ ببهجةِ العالمِ ما لا تفعله حربٌ عالميةٌ.. وخاصةً حاول أن تتعمَّقَ في فهمِ الجدوى من ولادةِ غزالةٍ مادامَ في الغابةِ ذئبٌ.
لم أكنْ يوما ملْكًا لنفسي، كنتُ دائما أوفرَ حظًا من هذا، إنعكاسَ عقدةٍ من شبكةٍ على السطحِ ، عضوا سرِّيا في تنظيمٍ غامضٍ
ٱعترف أني كنتُ وغدا أحيانا كثيرةً وأني لم أشعر بالعار بسبب هذا .. تلذذتُ بقضمِ تفاحةٍ على حافةِ بئرٍ وأنا أشاهدُ عجوزا تغرقُ . ولكنَّ الجزء الأكثر وطأةً في هذه الحادثة هو أنني أنا من ركلها من الخلف .. عانقتُ شخصا فتح لي بابه و منحني طعامه و فراشه ليلا ، و في الصباحِ دسستُ له سمًّا..
في المقابلِ لم أفتخر ولو لحظةً ولم أشعر بالشرفِ حين كنتُ السيد المسيح للكثيرين.. وكائنا من أكونُ ؛ قطنةً أو إبرةً في خاصرة أو علكةً في وسادةٍ عليكَ أن تتفهمَ أنَّ هذه هي وظيفتي وأنَّ كل الصفاتِ التي تصادفها عني كطيبٍ أو منحط أو مجنونٍ ليست إلا مجرد غبارٍ تعلقَ بشعري
” الرجلُ المستَعْمَل ” هذا إسمي . صوتٌ أجشُّ تبعني بقرقعةِ حذائه على قاع الكلسِ المبللِ في زقاقٍ مظلمٍ كما لو كانت نقراتٍ على صفيحةِ نحاسٍ رقيقةٍ في قبوٍ . أتوقفُ فيتوقفُ ، أمشي فيتواصلُ النَّقْرُ ، وفي اللّحظةِ التي تصلُ الظّلمةَ بالضّوءِ ربَّتَ على كتفي و أعلمني بهذا. أقصدُ أعلمني بإسمي . 
إخوتي في التنظيم السريِ همسوا لي ليلةَ حفلِ إلتقاء مستقيم بآخر و ضفرِ عقدةٍ جديدةٍ في الشبكةِ أنَّ هذا الصوتَ ليسَ إلا أنا في ضفَّةٍ أخرى ..
إذن.. أنا من عاد من الضّفة الأخرى و غادر هذه الضفة ، البخار الناتجُ عن تفاعل ضدّين ، اللحظة التي تصلُ الضّوء بالظّلمةِ . كان النعاسُ يغازل جفني بطريقةٍ لا تقاوم كهراشٍ شبقيٍّ أسفل البطن. و أنا موسِدٌ رأسي وكتفي اليمنى على جدار صخريٍ في ثكنتي، حين إكتشفتُ أنَّ الصّخرةَ أشدُ هشاشةً من وسادتي حين أكون في حاجةٍ قصوى للرحيل.. إذن هذا ما يفككُ الشيفرة التي سافرتْ عبر حقباتٍ كصندوقٍ غامضٍ ومريب حتى وصلت إلي. ” الصخرةُ أشدُ هشاشةً..” أدخلُ هذه الجملة في قفلِ الصندوق فينفتحُ ببطءٍ . 
يبدو الأمرُ واضحا الآن ; سبب ألمِ الحلاج حين رجمهُ الجنيد بوردةٍ مثلا . وردةٌ كانت سهما في مقتل أما الحجارة فكانت تنهال عليه كمجرد قشٍّ. جعلني هذا الإكتشافُ الغامض صغيرَ قردٍ في جيبِ معطفِ الله الداخلي محروسا ومهددا ( محروسا من الضغينةِ و مهددا بالحب ). أطلُّ مذعورا بنصفِ عينٍ من أعلى صدريتهِ على حشودٍ بشريةٍ مخيفة . فيدعكُ أذنيَّ دعكا ناعما حتى أفيض طمأنينةً في جيبه الداخلي كأسبيرينةٍ في كأس.
بقيتُ هناك إلى أن إصطدمتُ بتصلبِ مخلوقٍ عجيبٍ من جسدي ، وكان هذا أيضا فاكسا يأمرني بالمغادرة.
” ما الشعر؟!! لطالما كان هذا السؤال يثير الجميع ، أما أنا فيثيرني سؤال آخر ؛ كيف إستطاع الشعرُ البقاء إلى الآن؟ لماذا لم ينقرض مع كل من إنقرضوا ؟!! ” 
هذا ما تلقيته أيضا من عقدةٍ سبقتني إلى الشبكةِ و أنا ألمعُ شعري للخروج مع الخارجين . كانت كل كلمةٍ يلمُّها بصري أسمعُ على وقعها دوران مفتاحٍ حديديٍ في قفل قديم ، وما أن أكمل جهاز الإستقبال طنينهُ و المفتاحُ دوراته حتى كنت رسميّا سجينا في قبوٍ وأكثرَ وحشةً من مناديل باهتةٍ تلوح للجنود الذاهبين في قطار الحرب. 
ماذا يعني هذا ؟! ما الحاجة لهذا ؟! كيف إستطاع البقاء إلى الآن ؟ لماذا لم ينقرض ؟! 
تورمت قدماي من المشي 7420 كلم دون توقف على القاع المتجمد كي أتمكن من رفع درجة حرارتي إلى المنسوب الأقصى للإنتباه إلى صلة هذا بالجدوى من ولادة غزالة مادام في الغابة ذئبٌ.
أنا الرّجل المسْتَعْمَل، أتلقى الفاكس تلو الفاكس و أنتقل مهرولا من ثكنةٍ إلى ثكنةٍ حاملا في حقيبة الظهر زجاجةَ سمٍّ ، كيسَ سيروم ، سكينا و لفائفَ قطنٍ . أُوفِرُ مرورا آمنًا لسربٍ من النملِ وأقتلُ مشروع فراشةٍ في جلد الدويدة.. في جيبي خبزٌ يشاركني فيه الطير وعلى صدري شرفٌ واحد ؛ أن أكون وحيدًا و كئيبا لأنه لا معنى لمن هو مثلي أن يكون مسرورا و تافها
ولهذا و لذاك و لذلك من الطبيعي أن تكون وظيفتك أنتَ كتابة الشعر أما أنا فوظيفتي حفظ التوازن بحمايةِ هذا الفيروس من الإنقراض…
_______
* شاعر من تونس / نشرت في العدد الثاني من كتاب “الشاعر”.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *