*عبد الدائم السلامي
إنّما أنا قارِئٌ. أقرأ نصوصًا فلا أُنهيها لأنّها مكتوبةٌ بأيادي الموتى؛ باردةٌ، مُصْطنَعةٌ وخرقاءُ، لا رغبة عندها في تثوير لحظتِها وتحريرِ قُرّائها من رِبْقةِ أنظمةِ الرقابة اليومية.
وأقرأ أخرى فأعْلَقُ بها؛ أُقبِلُ عليها إقبالَ الرّاغِبِ، وأتفرّغُ لها تفرُّغَ الرَّاهِبِ. أنْ أقرأ روايةً يعني أنْ أحْشُدَ كلَّ طاقاتي المعرفيةِ، واستعداداتي النفسيةِ وأترحَّل إلى عالَمها المتخيَّل، أحُلُّ بها، وأتشابكُ مع كائناتها بجسدي ووعيي، أُذيبُها فيَّ لتُذيبَني فيها، ويُشِعُّ جسدي بها لتخفقَ هي بحرارةِ جسدي. الأجسادُ تحيا بالحكايات، أجسادُنا روائيّةٌ في أصلِها الأوّلِ. ولن تبلُغَ قراءةُ الرواية غايتَها إلاّ متى تسلّح القارئُ بخيالٍ روائيٍّ، بخيالٍ مَرِنٍ وغيرِ حسابيٍّ. وإنه لا يُفيدُ الروايةَ كثيرًا خيالُ ناقدٍ مكتظٍّ بصدى مقولات السَّرد ونظرياته، خيالٌ «رَكيكُ البلاغةِ في وصفِ البلاغةِ» على حدِّ عبارة التوحيدي، لا يرى صاحبُه في الروايةِ إلا جثّةً تَقْبَل القسمةَ والقيسَ والانتهاكَ.
إنّ عدمَ اطمئناني لمقولاتِ السّرد لا يعود إلى إيماني بكونها عاجزةً – لأسبابها الثقافية- عن قراءة نصوصنا الأدبية، وهو أمرٌ فصّلتُ فيه القولَ ضمن مقالاتٍ سابقةٍ، وإنّما يعود إلى خشيتي من أنّ تقديسَ نقّادِنا لها في كتاباتهم، ودعوتَهم الملحّةَ إلى اتِّبعاها سبيلاً وحيدةً إلى القراءة، قد يجعلانها قادرةً على إخضاع نصوصِنا لأحْكامِها، تحت مُسمَّى «القراءة العلمية» (كلّ ما قيل عن القراءة العلمية لا يستطيع أن يُحيط بعِلْمِ لحظةٍ قرائيّةٍ واحدةٍ). وهو أمرٌ أجدُ له صورةً جليّةً في أغلبِ كُتُبِنا النقديةِ التي لم يعِ أصحابُها بعدُ أنّ في احتكامهم لتلك المقولات تضييقًا منهم على متخيَّلِنا الحكائيِّ المحليِّ، وإجهازًا عليه بتمكينِ ثابتٍ من الآراء ليتحكّمَ في مُتحرِّكٍ حَيٍّ من دَلالاتِ النُّصوصِ. وعليّ في هذا الشأن أنْ أُشيرَ إلى أنّ الطاغي على قراءاتنا النقدية للرواية هو، ما يكتُبه نقّاد لا يقرؤون الرواية، فإذا قرأوها كتبوا عنها كلامًا يقف عند شكلِها ومكوّناتها، هو كلامٌ لا يزيد عن كونه تطبيقاتٍ مدرسيةً مُتلعثمةً لمناهج غربية، بل قُلْ: إنه تطبيقاتٌ ساذجةٌ يتفنّن هؤلاء في إعلاء شأنها وفرضها على الناس وَصْفاتٍ صالحةً لقراءة أيّ نصّ، دونما تَنبُّهٍ منهم إلى شخصية النصِّ الثقافية وغاياته الفنية والاجتماعية والقِيَمِية. ولعلّ من أجلى صُوَرِ ذلك كتاباتُ صلاح فضل وجابر عصفور وسعيد يقطين وصبري حافظ وغيرهم.
كلّ قارئ إنما هو شخصيةٌ من شخصيات الرواية التي يَقْرأُ، هو شخصيتُها المُتخيَّلةُ خارجَ اللغة، شخصيتُها التي تنتظر «خروج» تلك الرواية لتدخلَها، لتتحرّكَ فيها وتَجْعلَها تترحَّلُ من حَيِّزها الرمزيّ صوبَ أُفُقٍ واقعيٍّ. القارئُ هو الشخصيةُ التي لا يكتبها الروائيُّ، وإنّما ينتظر منها أن تكتُبَ حياةَ روايته: أيْ أنْ تُنزِّلَها منازِلَ في الواقع أدبيةً (فنيّةً وقِيَميةً)، وهي منازلُ تحيا بها الروايةُ بين الناس، وتُحيي مراغبَهم في الدفاع عن حقّهم في حياة جَذْلَى. وإذا أردتُ الاستفادة من خزائن استعارات الصوفيّين قلتُ: تظلّ الروايةُ في وَرَقِها عالَمًا حيًّا بالمجاز إلى أنْ تُقْرَأَ، وحينذاك تصيرُ في القارئ عالَمًا حيًّا بالحقيقةِ. وعليه، فإنّي لا أُسمّي الروايةَ روايةً إلاّ متى قُرِئتْ، ومن ثَمَّ تكون القراءةُ عنصرًا من عناصِرِ تكوُّنِها، أو قُلْ: القراءةُ مُنْتَهَى مَراحلِ تَكْوِينِ الروايةِ.
كان الجاحظ حكّاءً بليغًا، كان ابنَ وَقْتِه بامتيازٍ، سلّط فكرَه على مجموعته البشريّة فاحصًا أنظمتَها ناصحًا، فاكتشف فيها عيوبَها، ثمّ صبَّ تلك العيوبَ – هجاءً وسخريةً- في إهابِ كياناتٍ مَحْمولةٍ في نماذجَ بشريّةٍ مُتخيَّلةٍ، أو حقيقيةٍ مازالت تتحرّك في ذاكرتنا الثقافية (ومتى خَلا واقعُنا الراهنُ من شخصيات الجاحظ؟)، منها نموذج «أحمد بن عبد الوهاب» في رسالة «التربيع والتدوير»، حيث جمعَ فيه صفات الإنسان المتزلِّفِ، فاسدِ الخِلْقة والخُلُق، الذي خالف منطِق الهندسةِ فبدا مُربَّعًا ومُدوَّرًا في الآن ذاته، و»كان ادعاؤه لأصناف العِلْم على قَدْرِ جَهْلِه بها، وتَكلُّفَه للإبانة عنها على قَدْر غباوتِه فيها»، ومنها نموذج «مُعاذة العنبرية» التي تُحيلُ حكايتُها في كتاب «البخلاء» على الإنسان المفرِط في البُخلِ والمُقنِعِ به غيرَه، إقناعًا يخرج بصفةِ البُخلِ من مرتبة المذمومِ إلى مرتبةِ حُسْنِ التَّدْبيرِ والحِكمةِ فيه، من ذلك قولها: «ولَستُ أخافُ مِن تَضييعِ القَليلِ إلا أنَّهُ يَجُرُّ إلى تضييعِ الكثيرِ». وإنّ في النَّمذجةِ الجاحظيّةِ ما يمثّل أرضيّةً مفيدةً وخصبةً لقراءة روايتنا العربية، ذلك أّنّ الروائيّ لا يكتب نصّه لعِبًا (قد يسخر، وقد يهجو، ولكنه لا يلعب) وإنّما يكتبه وفي نفسه فكرةٌ يرغب في تبليغِها القارئَ، يكتبه ليقترحَ أسلوبًا فنيًا في تجديد فنّ السّرد أو ليكشفَ عن عَطَبٍ في واقع الناس، ويتخيّر لذلك كيانًا حاملاً فكرتَه، هو النموذج الذي يتحرّك في الرواية، وما على القارئ إلا أنْ يَبْحث عن تلك الفكرةِ، عن ذاك النَّموذجِ، ويُخْرِجُه للناس، أيْ يكتبه.
قراءة الرواية، أعني الروايةَ التي هي روايةٌ، حدثُ حُبٍّ يحتاج إلى مُداعبةٍ ومُلاعبَةٍ، يحتاجُ إلى مَديحٍ ناعِمٍ يسهِّلُ التحامَ جسديْ القارئ والرواية التحامًا لا مكانَ فيه لثالثٍ بينهما، يمارس وظيفةَ المراقبة والزّجرِ والتوجيه. وفي خلال ذاك الالتحام تتكشّفُ منهما أحوالٌ، وتهيجُ بينهما مباهجُ ودَلالاتٌ، لا تحتاج إلى تَكَلُّفِ نظرياتٍ ومناهجَ لتَأْوِيلِها، وإنّما تحتاج إلى طَبْعٍ قرائيٍّ ذي خِطابٍ شخصيٍّ يستكشفُ أدبيةَ المقروء (فنًّا وغايةً) ويكتبها بأدبٍ. وبالتلخيص أقول: إنّه لَمِنَ المفيدِ للقارئِ أنْ يُقبِلَ على الروايةِ بقلبِه، وعَقْلِه، ثم يديْه، بلا شوكةِ المناهج أو سِكّينِ النظريّات، وألاّ يترك مسافةً بينه وبينها، لأنّ كلّ مسافةٍ إنّما هي فضاءٌ يحتلُّه الآخرُ (أنظمةً وقوانينَ) ليفرض فيه وصاياه عليهما. الروايةُ – أعني الروايةَ التي هي روايةٌ- تستأهل المديحَ لأنها تحميني من موتِ الإنسانيِّ فيَّ، وتحميني من عُنفِ الخارجِ، وتحميني من مجّانية زمني.
_______
*القدس العربي
مرتبط
إقرأ أيضاً
من المطبخ*بسمة النسورقد يتفق معي معظم الزميلات والزملاء، من كتاب الزوايا اليومية والأسبوعية، وبلا أدنى تردد،…
-
-