انـتـفـاضـة

خاص- ثقافات

*أحمد غانم عبد الجليل

مثل مراهق خرج أهله تركوه وحده في البيت، قد يخرج علبة سجائره المخبأة ليدخن منها مايشاء دون خوف من رائحتها التي تأبى الانزياح عن الغرفة، يعب بانتشاءٍ من زجاجات الخمر التي اشتراها تحضيرا لهذه الفسحة الزمنية النادرة، يرفع صوت المسجلة إلى أعلى ما يمكن، يتعرى من ملابسه، ما عدا لباسه التحتاني، أو قد ينزعه هو الآخر، بعد إسدال الستائر، يتجول في أنحاء البيت، تداعب أصابعه الراقصة الأرض مداعباتٍ شرسة على أنغام الموسيقا العاتية، يستعرض فحولته بتباهٍ أمام كل المرايا حتى تأتي رفيقته الخبيرة بتفجير طاقات لا سلطان لأحدٍ عليها، يسابق معها أجرأ الأفلام التي يحضرها ويشاهدها خفية بين الحين والآخر، يوالي البحث عن أكثر المشاهد إثارة متمعناً في تفاصيلها عند كل مشاهدة، تستحلبها مخيلته في عتو هيجان شبقه.
)كن عاقلاً ولا تتحامق) لفظتها بضحكةٍ مداعبة استمرت مع التفاتتها جهة الباب الذي أفسح للصمت مكاناً في فضاء البيت.
كن عاقلاً… كن عاقلاً… كن عاااااااقلاً… صرت بلا وعي أغنيها، بصوت عالٍ وسخرية تمقت كل مرة سمعتها فيها، بنبرات وتعبيرات وجوه مختلفة، تحتد صرامتها في ذاكرتي عاماً تلو الآخر، وفي كل مكان. فجأة وجدتني أقهقه في مكاني من شطحاتي الهاذية، وكأني سكرت ولم تندلق في فمي قطرة خمر واحدة، عاهدتها أن أكف عن الشرب، أن أقلل من تأخري في السهر مع أصحابي، فوفيت بعهدي، ألا أفكر بإمرأةٍ سواها، وإن فعلت فستعلم بمَلَكة الأنثى والعاشقة داخلها، كما هجستْ منذ البداية أن رأسي لم يتخذ غير صدرها الحاني موطئا من قبل، وما نهلت سوى من كأس شفتيها رحيقاً، هاهنا؛ كنا نتأكد من استكمال لوازم البيت قبل أسبوعٍ بالتمام من ليلة العرس، سبعة أيام كانت تفصلني عن فتح مصراعيّ باب جنتها، تقت إلى دخولها منذ المرة الأولى التي رأيتها فيها، وقد كانت فوارة الأنوثة في كل حركة ٍ وسكنة تأتيها، لم أود الضغط عليها، وكشافات الخشية والقلق تطلق إنذاراتها من جوف ليل عينيها، رغم أن تملصاتها من بين ذراعي كانت تغريني أكثر بمراوغة حمامتي خفاقة الجناحين في محاولة للتخلص من  قبضات ولعي، فأعطيتها الفرصة لذلك، تركض من أمامي كطفلة تلعب الاستغماءة، بتحفزٍ شديد، تتحصن وراء أول باب يواجهها، ولم يلجه مفتاح، وما حاجتنا إلى المفاتيح ولن يسكن الدار سوانا.
ـ معكِ أريد أن يكون كل شيء مشَرعاً، دون أي نوع من القيود، يكفي ما وجدنا أنفسنا عليه من تكبيل.
ـ كن عاقلاً.
أول مرة كنت أسمعها بصيغة الترجي اللاهث تلك، تخفي فرحتها في حياءٍ وخفر، فأعطيها الأمان للخروج بفتحي باب الدار ووقوفي على عتبته من الخارج.
ـ لن آتي معك وحدي إلى هنا أبدا إلا بعد العرس.
قربت وجهي من رأسها المطأطأة والمغرية بمعاودة احتضانها: تقصدين بعد شهر العسل، شهر الجنون، يا جنوني الذي تقت إليه منذ أمد بعيد.
كن عاقلاً. لا تأتِ بحركة أثناء الدرس. كن هادئاً حتى أثناء لعبك مع أصدقائك. كن مجتهداً حتى يشتري لك أبوك الدراجة الهوائية التي وعدك بها عند نجاحك بتفوق. كن مطيعاً حتى يعلمك السياقة ويسمح لك بقيادة سيارته في الفروع إلى أن تحصل على الإجازة، حتى يوافق ويساعدك في زواجك بمجرد إنهائك الخدمة العسكرية، كن رهن إشارتهم حتى تتجنب ما استطعت من عقاب.
كن، كن، كن…
عادت إليّ خواطر ذلك الشاب المراهق النزق، لا حد لرعونته واستهتاره، وددت بالفعل أن أجرب شيئاً، أي شيء خارج نطاق العقل والمسؤولية التي فرحت بها في سنٍ مبكرة. هناك ممن في عمري لم يتزوجوا بعد، لا أقول إني نادم على ذلك، على العكس، فلو لم أتزوج حبيبتي لعشت عمري كله مسمراً بأشواك حرمان أمسى غريباً عني منذ الليلة الأولى، ولحد الآن، كل ليلة تجمعنا بمثابة الليلة الأولى بالنسبة لي، ولها أيضا كما يبدو عليها، وإن تسلط علينا شيءٌ من رتابة التعود، نحاول تبديده قدر المستطاع، لديها القدرة على جعلي في حالة ارتواء دائم، وكذلك حالة لوعة واشتياق دائمين. كلٌ منا صار يعرف ما يريده الآخر وفي أي وقت دون أن ننبس بكلمة، رغم مرور سنوات ورغم زخم الحياة، فما الذي يحصل لي؟ أي مارد يريد الخروج من مكمنه، يحضني على الإتيان بما أدرك أنه سوف يسلبني القدرة على الاستغراق في بؤبؤ عينيها. أي جنون هذا الذي يحفر عقلي، أي جنون!!.
استلقيت على الكنبة التي اضطجعتُ عليها منذ حين، لا أنتبه لعدد ما أشعله من سجائر ذات النوع الخفيف جداً، حفاظاً على صحتي كما صارت تنصحني بطريقة لجوجة، كل شيء فيَ مثار، حتى سمعت صوت إشارة تصدر عن الفاكس، فتذكرت أوراق المشروع التي كنت أنتظرها منذ ساعات بصبرٍ قلق، أعددت قدحاَ من القهوة علّه ينتشلتي من حبائل هذيان اجتاحني على حين غفلة. وضعت نظارتي الطبية فوق عينيّ وعدت إلى جلستي أمام المكتب الصغير الذي يحتل ركناً معزولاً عن الصالة بسلايد معدني فاجأتني بالاتفاق على وضعه لأنال أكبر قدر من التركيز في عملي الذي لا يلتزم بميعاد محدد، على عكس ما كنت أتمنى في بداية زواجنا الفردوسي، كما أحببت أن أسميه بلغة شاعر هجر قصائده المتواضعة منذ زمن.
انشغلت بالعمل، ما بين القراءة ومراجعة الشروط  والمهاتفات المستعجلة، والمنفعلة في بعض الأحيان، وما إلى ذلك لمدة ساعتين تقريبا مما سبب لي صداعاً شديداً في رأسي. عدت إلى الاستلقاء مجهداً على الكنبة، أغمضتُ عينيّ لوهلة علّي أحظى بغفوةٍ قصيرة، تنغزني السخرية من وضعي مع تلك العاهرة التي جابت خيالي وأنا في أوج هيجاني ونشوة الخمر تطوح برأسي. اشتياق عارم هو الذي ضغط على أزرار الهاتف، رغم علمي بانشغالها مع أهلها في التحضير لزفاف أختها الصغرى بعد أسبوع، ستضطر إلى قضائه هناك.
ـ كيف حالك؟
ضحكت: لم أتركك سوى ساعات يا طفلي الشقي.
ـ مشتاق إليكِ جداً جدا.
ـ وكأننا في أيام الخطوبة، ما الذي جرى لك؟.
ثم أردفت وقد أحست بتوهج نبرات صوتي المألوفة لديها، فقالت بذات اللهفة تقريباً: وأنا أيضاً.
هممت من فرط انفعالي والعرق البارد يتصبب من جبيني أن أطلب منها العودة ولو لساعتين ومن ثم ترجع إلى بيت أهلها، ولكني كنت أعلم جيداً بما ستأتي من رد فألجمت لساني.
ـ حسنا، سلمي لي على الولدين وقولي لهما ألا يزعجا جدهما، وأن يكونا عاقلين.
_________
*كاتب عراقي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *