مارلين مونرو… الجمال لا يكفي لتكون سعيدا

*جابر طاحون

في واحدة من أشهر صورها تظهر مارلين مونرو ممسكةً برواية «عوليس» لجيمس جويس وتقرأ فيها. الرواية التي عتاة القراءة والنقاد حول العالم لم يتمكنوا من إكمالها، هي قرأتها واستوعبتها بصورة كبيرة.
كانت مارلين مونرو ذكية وقارئة ومثقفة- كانت تكتب الشعر أيضًا- لقاؤها الشهير مع جيل دولوز، لم يكن لقاء الفنانة الجميلة مع الفيلسوف، كانت قد قرأته وكانت تناقش أفكاره. جمالها وقسوة ظروفها، وربما أيضا رضوخها، حصرها في قالب الأنثى الفاتنة اللعوب. كانت لا تحمل معها إلا البيانو والكتب. وكانت تقرأ حتى في الاستراحات أثناء تصوير أفلامها. لم تنجح- أو تحاول- في استثمار ذلك، ولم يستثمره أحد، كان الأسهل ان تكون جميلة فقط.
تناول العديد من الكتب حياة مارلين مونرو، أشهرها: «مارلين مونرو» الذي كتبه إيف أرنولد، «الشقراء» كتبته جويس كارول أوتس، «موسيقي الحرباء» كتبه ترومان كابوت، «مارلين مونرو» كتبه باربرا ليامنيج، والأهم والأشهر التي حررته صاحبة الشأن هو «قصتي مارلين مونرو». (قصتي مارلين مونرو. ترجمة باسم محمود دار المدى 2017). الكتاب حررته في ذروة شهرتها ولم ينشر إلا بعد وفاتها بحوالي عقد من الزمن. كان المفروض أن يظهر في 1954، لكنه لم يظهر بسبب مشاكل مع الوكيل الأدبي. الكتاب كان في حيازة ميلتون غرين، كانت – كما يقول- قد أهدته مارلين إياه كانت تريد أن يبقى معه: «إفعل ما هو الأصلح بشأنه». توفيت مارلين عام 1962، وظهر الكتاب في عام 1974.
مارلين مونرو أو نورما جين – اسمها الحقيقي- تحكي قصتها. قصة النشأة بالأخص، اليتيمة غير المرغوبة، تربيتها وتنقلها من منزل حاضن إلى آخر، وقصة ذهابها إلى هوليوود وإلى الشهرة. مارلين التي لم تعرف والدها أبدًا، مات قبل أن تراه. والدتها لم تكن تقدر على رعايتها، وكانت تقدم خمسة دولارات لساعي البريد ليوفر لها مسكنا. دائمًا ما كانت تخاف زيارتها، وتقضي معظم الوقت مختبئة في خزانة الملابس، «لا تصدري الكثير من الضوضاء يا نورما»، حتى تقليب صفحات الكتاب كان يزعجها.
كل مرة تزورها كانت هناك صورة على الحائط تأسرها، وتنظر إليها باختلاس، خشية أن تأمرها أمها أن تتوقف عن النظر إليها. رفعتها أمها لكي تراها بوضوح: «هذا أبوكِ»، « لقد قُتل في حادث سيارة في مدينة نيويورك». أحست بحماس شديد، بدا لها الأمر باعثًا على السعادة أن يكون لها أب. رغم أنها كانت تصدق كل ما يُقال لها، إلا أنها لم تُصدق أن أبوها قد دُهس، فكرة أن لديها أبا كانت الشيء المبهج بالنسبة لها في ذلك الوقت.
عملت أمها فترتين في اليوم من أجل أن توفر لها بيتًا، كان بيتًا أبيض بالكامل، واشترت لها بيانو لتتعلم عليه. قالت أمها لها ستعزفين عليه وستكون هناك أرائك تتسع لشخصين يستمعان إليك. الأرائك التي تتسع لشخصين لم تُوجد أبدًا؛ أمها، أُخذت بعيدًا، إلى مستشفى «نوروك» للأمراض العقلية. وانتقلت مارلين للعيش مع العمة غراس التي اعتنت بها وبأمها رغم ضيق حالها «لا تقلقي يا نورما جين. ستصيرين فتاة جميلة حين تكبرين. دونما سبب، أستشعر ذلك سوف يحدث».
فيم تكبر مارلين كانت تدرك أنها مختلفة عن الأطفال الآخرين، لم تكن تواعد أحدا، دومًا ما كانت تشعر بأنها وحيدة وأنها تريد أن تموت. كانت تعزي نفسها بأحلام اليقظة. لم تحلم بأن يحبها أحد، كانت تحسب ذلك كثيرًا عليها وبعيدا. حلمت بأن تجذب انتباه أحد، فقط أن يتحدث أحد عنها «نزوتي أن أظهر عارية وأحلامي عن ذلك لم تتضمن أي شعور بالخزي أو الذنب. الحلم بالناس يتطلعون إليّ جعلني أشعر بأنني أقل وحدة. أظن أني أٌردت أني يروني عارية لأني كنت أخجل من ملابسي التي كنت أرتديها – فستان الفقر الأزرق الباهت الذي لا يتغير». مسؤوليات العمة غراس كانت تتزايد، وحذّرها الناس من تبني مارلين، لأن عائلتها كلها تُصاب بأمراض عقلية. لم تعرف معنى الأمراض العقلية، لكنها كانت ترتعب من الفكرة. وفيما يزداد الضيق على العمة غراس اضطرت لإيداعها في ملجأ للأيتام.
عاشت في ملجأ الأيتام على فترات متقطعة، معظم الوقت كانت تًودع مع عائلة مقابل خمسة دولارات. وكل فترة كان الملجأ يرسل مفتش ليرى كيف تعيش. يأتي المفتش ويتفحص حذاءها، إذا ما كان غير مثقوب، يكتب في تقريره أنها تعيش في رخاء. قضت حياتها على تلك الحال حتى بلغت السن القانونية التي لم تعد فيها يتيمة.
المرة الأولى التي خرجت مع شاب، وذهبت إلى البحر- مرتديةً زيه- أحست نفسها عارية، أغلقت عينيها، وقفت ساكنة، وحولها صافرات الإعجاب من الشبان، ونظرات الاستهجان من النساء. غمرها شعور غريب، كما لو كانت شخصين؛ نورما جين فتاة الميتم التي لا تنتمي لأحد، والآخر: شخص لا تعرفه، لكن عرفت إلى أي مكان تنتمي،» كانت تنتمي إلى العالم وإلى السماء وإلى العالم بأسره». كانت تكبر وتزداد تشوشًا، واقترحت العمة غراس حلًا لمشاكلها: الزواج. تزوجت، في سن الخامسة عشرة، جيم دوغرتي. « كان الأمر أشبه بأن تُحال للتقاعد وتعيش في حديقة حيوان». كان زواجهما نوعًا من صداقة ما مصحوبًا بامتيازات جنسية. لم يجلب لها الزواج السعادة أو التعاسة – هي وزوجها- نادرًا ما كانا يتحدثا إلى بعضهما بعضا، لم يكونا يمتلكان شيئًا ليقولاه. وما حفظ استمرار الزواج كان تورطه في الصمت. امتنانها الوحيد لتلك المسألة كان أن زواجها أنهى وضعها كيتيمة إلى الأبد. التحق جيم بأسطول البحرية التجاري في عام 1944، وذهبت مارلين للعمل في مصنع لتصنيع المظلات. بعد انتهاء الحرب، عاد، لم يكن ينغص زواجها إلا شيء واحد: طفل. جيم دوغرتي كان يريد طفلًا وهي كانت ترتعب من تلك الفكرة، كانت ترى أن أي طفل سيأتي سيكون نورما جين أخرى، لذا انفصلت عن جيم وذهبت إلى هوليوود في سن التاسعة عشرة، لتعيش وحدها، لتكتشف ذاتها.
غريزتها قادتها نحو استوديوهات المصورين، عملت كموديل للإعلانات والتصميمات. هوليوود التي عرفتها كانت هوليوود الفشل تقريبًا؛ الزيف هو السائد، كل شخص يعاني من سوء المسكن أو المأكل أو لديه ميل للانتحار. كانت هوليوود مكانًا بشريًا صرف، لا فردوسًا كما انتظرت أن تكون. وكانت، مارلين، لأجل خمسين دولارا، على استعداد لفعل أي شيء حتى لو كان القفز من فوق سطح المنزل بسبب قلة المال. كانت تنفق رواتبها على دروس التمثيل والرقص والغناء، واشترت كتبا لتقرأها، وفيما كانت تختلس السيناريوهات لتقرأها في مواجهة المرآة، حدث شيء غريب؛ لقد وقعت في حب نفسها، ليس ماهيتها، بل ما ستكونه. كانت قد اعتادت أن تقول لنفسها: «بحق الشيطان، أي شيء تمتلكينه يا مارلين مونرو كي تختالي به؟» وكانت تجيب:» كل شيء.. كل شيء».
النجاح أتى بعد الفشل عدة مرات، فاجأ حتى أصحاب الأعمال والأفلام الصغيرة التي شاركت فيها، جميع مجلات السينما والصحف بدأت تطبع صورها، وتكتب عنها المقالات. اعتادت أن تقول الأكاذيب بخصوص أبيها وأمها؛ أمها ماتت وأبوها يعيش في مكان ما في أوروبا. كانت تخجل من القول إن أمها في مصح عقلي.
مارلين هنا وهناك، الكل يتحدث عن الفاتنة مارلين، آلاف الرسائل تصلها، مطلوبة للترويج والدعاية في كل مكان. شاركت في العديد من الأفلام، حاضرةً فيها كبطلة بعد أن كان ذلك بعيدًا عنها. مثلت في العديد من الأفلام مثل: «كيف تتزوجين مليونيرا» (1953)، «الرجال يفضلون الشقراوات» (1953)، «نهر بلا عودة» (1954)، «حكاية السنة السابعة (1955)، «موقف الأوتوبيس» (1956)، «الأمير وفتاة الاستعراض» (1957) «البعض يفضلونها ساخنة» (1959)، «اللامنتمون» (1961). وحازت جائزة الغولدن غلوب لأفضل ممثلة. قابلت في إحدى السهرات لاعب البيسبول الشهير جو ديماجو، وتزوجته ولم يدم زواجهما لأكثر من عام. رغم كل ذلك، لم تكن سعيدة بكل النجاح الذي وصلت إليه، كانت تكبر وتزداد تشوشًا واكتئابًا، بدت حياتها غير مكتملة وغير محتملة ولا تلائمها، مثل أيام يأسها الأولى. حاولت أن تسعد نفسها، مارلين، لكن، نورما جين كانت حاضرةً دائمًا، أحست بأنها تحاول إشباع رغبة شاذة، أن تهب المتعة لنورما جين، فهل نجحت؟ لا.. الكل كان أمامها تافهين وشاحبين. الكتاب لم تسجل فيه حياتها بأكملها، المخطوط الذي أعطته لميلتون غرين. ينتهي المخطوط عند علاقتها بجو ديماجو، لم يضم الكتاب أي شيء عن علاقتها بآرثر ميللر أو أيامها الأخيرة. سجلت في الكتاب خطيئتها الأولى والشوارع الموحشة، حبها الأول، الكتب التي قرأتها، الشخصيات التي أحبتها، هوليوود، النساء، الرجال، ووصفتها الخاصة من أجل الشهرة.
أيامها الأخيرة بعد فشل ارتباطها بآرثر ميللر ودخولها مصحا نفسيا، تحدثت عن أثرها في رسائلها إلى طبيبها النفسي «شعرت بأنني أقبع في سجن لجريمة لم أرتكبها» هكذا كتبت إلى طبيبها تحدثه عن وجودها في المستشفى. «كل شيء كان مغلقاً بالضبة والمفتاح، أشياء مثل المصابيح الكهربائية، الأدراج، والحمامات، والحجرات، حواجز على النوافذ – الأبواب كانت بها نوافذ لكي يكون المرضى مرئيين في كل وقت، حتى علامات العنف لا تزال على الجدران من المرضى السابقين».
بعد رسالة – عُثر عليها لاحقًا- من صفحات كتبتها إلى طبيبها النفسي الدكتور رالف جرينسون، انتحرت مارلين مونرو لأنها لم تعد قادرة على البقاء. في صباح الخامس من أغسطس/آب عام 1962، استيقظ العالم على خبر رحيلها، بزعم تناولها جرعة زائدة من الباربتيوريت، الذي كان الطبيب قد وصفه لها ليساعدها على اصطياد النوم. لا أحد يعرف الملابسات بالضبط، وتراوحت الشكوك ما بين الاغتيال أو الانتحار. لكن تعاستها واكتئابها في الأيام الأخيرة كانا واضحين وكافيين كأسباب للانتحار.
الشاعر الإنكليزي جون ميلتون كتب مرة: «السعداء لم يولدوا قط». السعداء لم يولدوا قط والجمال – حتى إن كنت فاتنًا- وحده لا يكفي لتكون سعيدًا.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *