رامبو… «الشمس السوداء»

* هاشم صالح

يبدو أننا لن ننتهي من رامبو. يبدو أننا لن نستطيع التخلص من براثنه. أو بالأحرى كلما انتهينا منها وجدنا أنفسنا مضطرين للعودة إليه من جديد. هذا ما يقوله لنا العدد الخاص الصادر مؤخرا عن جريدة «اللوموند» الفرنسية. ومعلوم أن الجرائد والمجلات الفرنسية الكبرى تصدر من حين لآخر أعدادا خاصة عن كبار المبدعين الفرنسيين من شعراء وفلاسفة وكتاب كبار. ويا ليت الجرائد العربية تقلدها في هذا المضمار. نقلد الغرب في كل ما هب ودب وبالأخص في غثاثاته الرثة وصرعاته السخيفة فلماذا لا نقلده في الأشياء الجميلة ولو لمرة واحدة على الأقل؟ لماذا لا نصدر أعدادا خاصة عن المعري أو المتنبي أو شاعر العراق الأكبر محمد مهدي الجواهري… إلخ؟

هب النسيم وهبت الأشواق

وهفا إليكم قلبه الخفاق

لي في العراق عصابة لولاهم

ما كان محبوبا إليّ عراق

لا دجلة لولاهم وهي التي

عذبت، تروق ولا الفرات يذاق…

يحيا الشعر العربي!

كم تغنيت بهذه الأبيات الخالدة منذ سنوات وسنوات ولا أزال… كم نمت عليها وصحوت؟ كم أشبعت شحناتي الشعرية الجائعة؟ لكن لنعد إلى موضوعنا الأساسي ولنتساءل:

لماذا لا تطالب الجرائد والمجلات العربية الكبرى الكتاب العرب المختصين بالتحدث عن عباقرتنا وإلقاء آخر الأضواء عليهم كما تفعل الجرائد الفرنسية أو الأوروبية عموما؟ فقد أصدروا مؤخرا أعدادا مهمة عن نيتشه وكانط وشوبنهاور إلخ… يقول هذا العدد الجديد ما يلي: لقد كان آرثر رامبو «شمسا سوداء». ولكن على الرغم من سوداويتها فإنها أشعت على الآداب العالمية وأثرت ليس فقط على الشعر الفرنسي وإنما على الحداثة الشعرية كلها. بالمناسبة – وبين قوسين – فإن الحداثة الشعرية العربية مدينة له كثيرا… فهذا الرجل الذي كان «ينتعل الريح» ويخترق البلدان والقارات كما وصفه فيرلين ترك بصماته على كل شيء تقريبا. لقد كان متمردا عاصيا وخلاقا مبدعا وأزعر كبيرا في الوقت نفسه. كان يريد أن يبدع من نقطة الصفر ماحيا كل التأثيرات السابقة عليه. من هنا عبارته الشهيرة: «ينبغي أن نكون حديثين بشكل مطلق». وهذا مشروع جنوني في الواقع، مشروع يتجاوز طاقة العقل البشري. ولكنه ممكن فقط بالنسبة للعباقرة الكبار. ألم يقل المعري في سقط الزند:

وإني وإن كنت الأخير زمانه

لآت بما لم تستطعه الأوائل

عبارة رامبو ترجمة شبه حرفية لبيت المعري الذي لم يطلع عليه بطبيعة الحال. ثم يقول رامبو في «الإشراقات» هذه الكلمات:

«أنا خلاق يستحق الاحترام أكثر بكثير من جميع الذين سبقوني. بل أنا موسيقار عثر على شيء ما يشبه مفتاح الحب».

في هذا العدد الخاص الممتع يقول لنا الكاتب شارل دانتزيغ ما معناه: «رامبو لم يكن رامبو». نقصد بذلك أن هناك مسافة ضخمة بين ما كان عليه حقيقة والصورة التبسيطية أو الأسطورية التي تشكلت عنه لاحقا. لا ريب في أن ذلك يحصل لجميع الكتاب الذين تحولوا إلى أسطورة بعد رحيلهم. ولكن أسطورة فيكتور هوغو مثلا لها علاقة بمؤلفاته وكتاباته وحياته على الرغم من كل شيء. أما الأسطورة التي شكلوها عن رامبو فلا علاقة لها به. ينبغي أن نعترف بالحقيقة: رامبو لم يكن إنسانا لطيفا ولا حتى محترما، ولكنه كان كاتبا رائعا يستحق الإعجاب. وبالتالي فينبغي أن نحب رامبو لما كتبه بالفعل لا لما كانه بصفته شخصا. وما كتبه شيء فريد من نوعه وكثيف جدا. لقد فهم رامبو أن أهم شيء هو أن نخترع شكلا شعريا جديدا. وعبر عن ذلك في رسالة «الرائي» الشهيرة؛ إذ قال:

«اختراع المجهول يتطلب صياغات جديدة». بمعنى: الشكل أولا وليس المضمون. الشكل هو الذي يخلق المضمون وليس العكس. بمعنى أيضا: لا مضمون جديدا من دون شكل لغوي جديد. وهذا ما فهمه شعراء الحداثة العربية في الواقع. لقد أدركوا منذ الخمسينات أو الستينات أن الشكل الموزون المقفى للشعر العربي، على عظمته وإيقاعه الذي لا يضاهى، استنفد طاقته وإمكانياته. ثم أدركوا بشكل خاص الحقيقة المهمة التالية: وهي أنهم لن يصلوا إلى مستوى المتنبي وبدوي الجبل مهما حاولوا، إذا ما أصروا على هذا الشكل القديم الذي يخترق الشعرية العربية منذ امرئ القيس وحتى نزار قباني. وبالتالي فالحل الوحيد الذي تبقى لهم هو أن يهجروه كليا وينصرفوا عنه ويديروا ظهرهم لهم حتى ولو كلفهم ذلك تجرع السم الزعاف. فقد كان عزيزا هذا الشكل وأي عزيز! بل لقد كان مقدسا معصوما. ولكن لا بد مما ليس منه بد. لا بد من إحداث القطيعة المرة معه واختراع شكل جديد للشعر العربي. وهذا ما حصل. وبالتالي فالشكل بهذا المعنى أهم من المضمون فيما يخص الكتابة الشعرية. أو قل إن الشكل هو الذي يخلق المضمون.

على أي حال ينبغي أن يقرأ رامبو أولئك الذين جرحتهم الحياة أو أولئك الذين لا يستطيعون التأقلم مع الحياة. هناك مسافة، هوة سحيقة، تفصل بينهم وبين الحياة. لهؤلاء، ولهم وحدهم، كتب رامبو. ألم يقل: نحن لسنا في العالم؟ ينتج عن ذلك الشعار التالي: ينبغي تغيير الحياة. وربما اضطرنا ذلك إلى الانخراط في مغامرات مجنونة ودروب هائلة تتكسر عليها أقدامنا كما حصل له هو شخصيا. بمعنى أن الشعر، أو الفكر، مغامرة خطرة قد تكلفك حياتك. ألم يمت المتنبي مقتولا؟ لماذا تبدو حياة العباقرة دائما في خطر؟

في فصل في «الجحيم» كتب رامبو: «كنت أكتب فراغات الصمت، والليالي، كنت أسجل ما لا يُسجل، كنت أثبت الدخان». هكذا نلاحظ أن «سارق النار» كان يريد تغيير خريطة الشعر الفرنسي وتضاريسه. وقد غيره. كان يريد القضاء على تلك الأشكال العتيقة البالية، تلك الأشكال المهترئة، التي كبحت جماح الطاقة الشعرية الهائلة حتى عند شاعر ضخم كبودلير. ومعروف عن رامبو مدى إعجابه بصاحب «أزهار الشر». يقول عنه هذه الكلمات الخالدة:

«بودلير هو الرائي الأول، ملك الشعراء».

لكنه سرعان ما يضيف هذا التحفظ الهائل:

«لقد عاش في وسط متحذلق فنيا وشعريا أكثر من اللزوم. ولذا فصياغاته الشعرية التي طالما مدحوها هي مسكينة وتافهة في الواقع. ذلك أن إبداعات المجهول تتطلب أشكالا شعرية جديدة».

بمعنى آخر: لا يمكن التعبير عن الحياة الحديثة بصياغات شعرية قديمة. لقد تغير العالم فليتغير الشعر أيضا.

بمعنى أيضا: من يرد أن يسبر أغوار المجهول، من يرد أن يكتب قصيدة لم تُكتب بعد، فليخترع أشكالا أخرى للكتابة الشعرية.

المقابلة الوحيدة التي يحتويها هذا العدد المكرس لرامبو كانت مع البروفسور أندريه غويو. وهو أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة باريس السوربون. فهناك يشرف على مركز البحوث عن الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر. وهو الذي أشرف على تحقيق أعمال رامبو الكاملة وطباعتها في سلسلة «لا بلياد» الشهيرة الصادرة عن غاليمار. وبالتالي فهو يعرف عم يتحدث بالضبط. إنه من أكبر الاختصاصيين في حياة رامبو وشعره. يقول هذا الأكاديمي الضليع ما معناه:

عدم الرضا عن الوضع القائم أحد سمات شعر رامبو وشخصيته. إنه يحلم بوضع آخر ومكان آخر باستمرار. ويتجلى ذلك في هيئة الحنين إلى شيء مبهم غامض أو زمن مضى ولن يعود. بل إنه يحن إلى طفولته وهو لما يتجاوز العشرين عاما.

ثم يردف هذا الباحث الجليل قائلا:

لقد أصبح رامبو مستعملا في كل الاتجاهات ولدعم كل التيارات. والموضة الرائجة الآن في فرنسا أنهم جعلوا منه مناضلا حزبيا أو حركيا سياسيا في حين أنه كان أبعد ما يكون عن ذلك. لم يكن يستطيع الانغلاق داخل أي حزب أو تجمع سياسي كائنا ما كان. كان مبهورا فقط بما يدعوه: «الحرية الحرة». لقد عاش رامبو حياة انفلاشية إلى أقصى حدود الانفلاش. وهذا ما يدعى الآن بالفوضى الخلاقة. كان يبحث دائما عن أفق جديد. وكلما وصل إليه تجلى له أفق آخر فراح يركض وراءه، وهكذا دواليك… فلا الآفاق تنتهي ولا عشق الدروب اللانهائية.

_________

*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *