رياض الصالح الحسين في “الأعمال الكاملة”: اللحظةُ الراهنة.. قصيدةً

*عماد الدين موسى

في مثل هذه الأيّام الحاسمة من عمر السنة، حيثُ الخريف يُسلّم مفاتيحه بارتباكٍ شديدٍ لألم الشتاء، رحل الشاعر السوري رياض الصالح الحسين (1954- 1982). رياض، الذي لم يعش سوى ثمانية وعشرين عاماً، إلا أنّهُ ترك أثراً جليّاً في جسد القصيدة السوريّة، واعتبرت تجربته الشِعرية القصيرة، جنباً إلى جنب مع تجربة الراحل محمد الماغوط (1934- 2006)، الأكثر شغفاً وقرباً بالنسبة للأجيال الشِعرية اللاحقة وحتى يومنا هذا.

صدر موخراً، عن منشورات المتوسط في إيطاليا، كتاب “الأعمال الكاملة” للشاعر رياض الصالح الحسين، تضمنت قصائد مجموعاته الأربع: “خراب الدورة الدموية (1979)، أساطير يوميّة (1980)، بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس (1982)، ووعل في الغابة (1983)”. بالإضافة إلى مقدمة كتبها الشاعر السوري منذر مصري بعنوان “سيرة موت ناقص”، عدا عن قصائد بخط يد الشاعر، وعدد من الشهادات المهمّة لكل من الشعراء: فرج بيرقدار وهاشم شفيق وعبد الكريم كاصد وعماد النجار، تناولتْ جوانب مختلفة من حياته، مُلقيةً عليها المزيد من الضوء.

شِعر البداهة

تنتمي قصيدة رياض – بحسب الناقد هايل الطالب – لشِعر البداهة، “ذاك الشِعر الذي ينتمي إلى الحياة اليوميّة، بكل تفصيلاتها، وحميمياتها، وهي تلك القصيدة التي تتسلح باللغة الواقعيّة المعيشة، بعيداً عن الترف البلاغي”. ولعلّ ما يُميّز تجربة رياض، رغم قصر عمره الإبداعيّ ورحيله المُبكّر وهو في أوج نشاطه، أنها كانت صلة وصلٍ بين الحداثة الأولى في أواسط القرن الفائت والحداثة التالية والتي بدأت في أواخر السبعينيّات وكان رياض أبرز وجوهها إلى جانب شعراء آخرين كمنذر مصري وبندر عبد الحميد وعادل محمود ومرام المصري، لتخيّم أجواء قصائده على جلّ التجارب الشِعرية اللاحقة ولتتجلّى بشكل بارز لدى التجارب الراهنة، ولا سيما بعد أن غدتْ مجموعاته متاحةً في الشبكة العنكبوتية بجهدٍ شخصيّ من الشاعرة اللبنانيّة سوزان عليوان ومن ثمّ في موقع جدار الثقافي الإلكتروني.

يوتوبيا الحلم

يحتفي رياض في قصائده بالحياة، لا كما هي عليه فحسب، بل كما يريد لها أن تكون وعلى طريقته؛ حياة “فاضلة” يسودها الحبّ والعدالة والحرية، لذا نجده يختزل بحميميّة تلك التفاصيل الجماليّة البسيطة، الهامشيّة والمُهملة في حياتنا داخل قصائده. في قصيدة بعنوان (شارع)، يكتب رياض بهدوئه المعهود وبلغةٍ سرديّةٍ شفيفة عن “يوتوبياه” التي طالما كان يحلم بها، حيثُ يقول: “هذه مدينة مليئة بالشوارع/ شوارع مفتوحة/ تؤدي إلى جميع الجهات/ لكن، اسمعني، أرجوك/ حياتنا مغلقة/ والشارع الوحيد العادل/ ذلك الذي يأخذني إلى قلبك” (من مجموعة: وعل في الغابة).

المفارقةُ لدى رياض، كما في القصيدة السابقة، من شارع يؤدّي إلى جهةٍ أو مكانٍ ما، إلى آخر مجازي يُفضي مُباشرةً إلى القلب، جعلتْ شِعره ذو نكهة خاصة، عدا عن عنصر المفاجأة في نهايات قصائده والذي بدوره أضفى إليها المزيد من الإدهاش.

وفي قصيدة بعنوان (العاشق)، ينحو أكثر نحو شِعريّة الحدث وذلك من خلال استخدامه لتقنية المقطع وبالصيغة اللغوية نفسها، ما يجعل هذه المقاطع متشابهةً إلى حدٍّ ما، بل ومتطابقةً، فيما يأتي المقطع الأخير مغايراً ويحدث ما يشبه الصدمة لدى القارئ، حيثُ يقول: “اعطِ القناص رصاصاً/ وانتظر بضع دقائق/ فسيملأ الشوارع بالجثث/ اعطِ النجار خشبًاً/ وانتظر بضعة أيام/ فسيملأ البئر بالنوافذ/ اعطِ الحداد حديداً/ وانتظر بضعة أشهر/ فسيملأ البراري برجال يشهرون السيوف/ اعطِ البستاني بذاراً/ وانتظر بضع سنوات/ فسيملأ الصحارى بالأشجار/ أما العاشق/ أما العاشق/ فلا تعطه شيئاً/ ففي قلبه ما يكفي الدنيا/ من السيوف والنوافذ/ من الأشجار والجثث”.

البنية الدراميّة في القصيدة السابقة، والانتقال بسلاسةٍ من “حدث/ مقطع” لآخر، أضفت – بدورها – ليونةً على اللغةِ أيضاً، بالرغم من توارد مفرداتٍ غير ناعمةٍ، بل وغايةً في القساوة، من مثل: الصحارى والجثث والسيوف والقناص والحديد والرصاص.

مجدّد القصيدة اليوميّة

صدور كتاب “الأعمال الكاملة” للشاعر رياض الصالح الحسين يُعدّ احتفاءً حقيقيّاً بالقصيدة السورية المعاصرة، كونه أحد أبرز وجوهها النَضِرة، وباعتباره، بحسب الشاعر بشير العاني، “آخر ورثة القصيدة اليومية.. وأوّل مُجدّديها”. عدا عن أنها إعادة اكتشاف لعوالم شِعره وفرصةً لقراءات جديدة ومتجدّدة لهذه الأعمال معاً.
_______
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *