الترجمة.. إعادة إنتاج الحضارة

*محمد الأسعد

تتعدد دلالاتُ النص الحيّ، لأنه يحتوي على إمكانيات معنى متعددة. فلنترك لعددٍ من الأشخاص متفاوتي المستوى الثقافي أن ينقلوا إلينا نصاً سمعوه، أو قرؤوه، ولنقارن بين الأصل والنسخ المنقولة، كتابة أو شفاهة، سنجد بين أيدينا عدداً من النصوص بعدد هؤلاء الناقلين، مختلفة باختلاف مستوياتهم، ويزداد التباين بين النسخ والأصل كلما كان الأصل إبداعياً، أي حيّاً. بينما لا يكاد يظهر التعدد، أو ينعدم، إذا كان النص موضع النقل ميّتاً، أي فاقداً لأي سمة إبداعية.

تصادفنا هذه الواقعة كثيراً، ولكن من النادر أن ندقق في معناها. نسمي بعض المنقولاتِ، إن وجدنا اختلافاً عن الأصل، تحريفاً، أو نسميها إساءة فهم، بينما هي مشكلة من أهم مشكلات الحضارة واللغة نجدها تتجسد حين نقارب نصاً إبداعياً.

لغة النص الإبداعي ذات تماسك داخلي. بنية تحتفظ بمرجعيتها في داخلها، وما يترجم منها عادة خلال لغة شخص آخر غير مبدعها هو دلالاتها. وهذه الأخيرة هي ما يخضع لمستوى الناقل أو المترجم وهو يعيد إنتاجها، سواء كان الأمر ترجمة داخلية لنص في لغته نفسها، أو ترجمة خارجية ينتقل فيها النص إلى لغة أخرى.

حدث هذا حين ترجم عربي كلمة «تراجيديا» وكلمة «كوميديا» اليونانيتين، فنقلهما إلى هذين المصطلحين: «المديح» و«الهجاء». لأن التجربة التراجيدية (المأساوية) لم تكن نتاج ثقافته، ولذا احتاج للإبانة عنها إلى مدلول من ثقافته. وعلى هذا النحو تم احتواء الكلمتين، التراجيديا والكوميديا، دلالة ومدلولاً في ثقافتنا قديماً.
ما حدث هنا لم يكن ترجمة، بل إعادة إنتاج نص من حضارة ما، خفّضَ التوتر الدلالي العالي الذي تحمله هذه الحضارة إلى مستوى توتر دلالي تحمله حضارة أخرى. وبهذا التخفيض، أي باستخدام مصطلحي المديح والهجاء، أصيبت التراجيديا والكوميديا بالشلل في ثقافتنا دلالة ومدلولاً، أي لم تنتج عنهما فاعلية من أي نوع.
المتلقي الذي ترجم هذين المصطلحين، والقارئ الذي اتصل بهذه الترجمة، لم يتغيّرا أمام النص الأجنبي، إنما تغيّر النصُ الأجنبي. معنى هذا أنه ما كان للمترجم، أو الناقل، أن يتوصل إلى دلالة التراجيديا والكوميديا من دون أن يتوفر في ثقافته المستوى المعرفي الذي توفر في الثقافة اليونانية. أي الحقل الدلالي الكامل الذي منح هاتين الكلمتين دلالتهما، الشعر الملحمي والمسرحي والغنائي، مضافاً إلى ذلك الفلسفة وجملة السياق الاجتماعي والتاريخي. أي المستوى الحضاري.

* * *

إذا انتقلنا إلى مستوى القارئ، في محاولته استيعاب نص من النصوص، نجد أن استيعاب نص يقتضي امتلاك حقله الدلالي، التجربة التي أنتجته. وفي حالة غياب مثل هذا الامتلاك، تصاب دلالات النص بالكساح والضمور، فإما أن تمثلُ شاخصة بلا معنى، أو تتحوّل بفعل السكون والضمور وتتخذ طابعاً ذا دلالة مختلفة كلياً عن دلالتها في مصدرها، نابعة من ثقافة هذا القارئ نفسه.

شعوب أمريكا الأصلية، حين غزاها الأوروبيون، أطلقت على الطائرة تسمية «الطائر الحديدي»، فاستخدمت بهذا الفعل لفظاً مستمداً من تجربتها ومستواها الحضاري لتدل على هذا «الشيء» الجديد، ولم تستمده من التجربة الحضارية التي أنتجت الطائرة. وبهذا عبّر«الطائر الحديدي» عن الفارق بين حضارتين، وكان الاستيعاب الدقيق لدلالة الطائرة يقتضي أن تمرّ هذه الشعوب بالثورة العلمية والصناعية التي أنتجت هذه المنتج، أي المرور بعناصر زمن، وطبيعة، وفكر تضافرت لإنتاج الطائرة، وخلقت جديداً لا يمت للطائر بصلة إلا على السطح: إنها «تحلق في الفضاء» مثله.

بالنسبة لعربٍ فاجأتهم أضواء العصور الحديثة من دون إعداد مسبق، كان القطارُ للوهلة الأولى يعني «الحصان الحديدي»، أو «حصان إبليس» في نظر بعضهم. ولم يكن هذا التخفيض لدلالة القطار مصادفة، بل كان تعبيراً عن وضعية تفتقر إلى الدورة الزمنية والإنسانية التي أنتجت الثورة الصناعية، الدورة التي أعطت القطار بالضرورة دلالته الحضارية الكاملة.

هنا نبدأ بمواجهة مشكلة الدلالة والدال والمدلول معاً، مشكلة المعنى والعلامة التي تقود إليه وما هو موجود واقعياً في هذا العالم. فحين نتخلى عن تعابير مثل «الطائر الحديدي» أو«الحصان الحديدي» بوصفها علامات لا تحمل دلالات دقيقة على موجودات واقعية، ونستعير اللفظة الدالة نفسها، الطائرة والقطار، هل معنى هذا أن المشكلة انتهت؟

استعارة اللفظ لا تعني استيعاباً للحظة الحضارية، أي للعناصر الثلاثة المشار إليهما آنفاً، وإنما هي فعل شكلي لا يغير شيئاً من الأرضية الأخفض توتراً، أرضية التجربة التي لا تزال تحكم تصوراتنا، مرجعنا الذي نحيل إليه الأشياء والأفكار ضئيلة ومحجمة لتتلاءم مع درجتها المنخفضة. وشاهد هذا أن لحظتنا لاتتقدم لا باستعارة الألفاظ، ولا باستعارة المنتجات نفسها. وهو ما يُعبر عنه عادة في شتى ضروب الفكر والسلوك بمعاملة المنتج التقاني المعاصر، كما تُعامل منتجات الطبيعة الخام، الخيول والخراف والجمال والأشجار.. إلخ.

لفظ المنتج ودلالته لا انفصام بينهما. يمكن أن يشيع الأول ويتحول في مختلف اللغات واللهجات التي تستخدمه، ولكن الدلالة القارة في سياق التاريخ الحضاري الذي أنتجها (تعامل الإنسان مع المادة عبر الزمن) تستعصي على الشيوع والتحول. ولهذا نظل بحاجة مبدئية إلى استثارة هذه الفعالية السياقية ودفعها في مسار التاريخ مجدداً لحل مشكلة اللفظ والمعنى، أو العلامة والدلالة.

* * *

الإبداع في اللغة يعني إعادة صلتها بالجسد، باللحظة الحضارية الراهنة. ولا يكون هذا إلا بإحداث جراح عميقة تصيب اللفظ والدلالة. أي تصيب تماماً جغرافية الأراضي المنخفضة وروحها، لتنتج دلالاتها الخاصة، ولو على حساب اللغة القديمة، وحساب اللغات الأخرى التي يستعير «الحداثيون» لهجاتها وقشورها لتدعيم ما يسمى تفجيراتهم، أو هلوساتهم إذا أردنا الدقة.

هذه قضية تتعلق ببنية النص ككل: بطرائق استخدام اللغة، وتكوين الصورة، وإيقاع اللغة. عناصر ثلاثة دالة على نسق رؤية واتجاه نظر. وبما أن الرؤية اتجاه نحو الأشياء والموضوعات والناس والعلاقات، يتداخل فيها الخاص بالعام، لا تحتفظ الدلالة باستقلاليتها. هي في علاقة، ولذا لا يمكن إدراكها إلا في وسط اجتماعي/ ثقافي، وبهذا تصبح ذات معنى اجتماعي بالضرورة.
لقد ظهرت مشكلة نقل اللغة أو استيعابها داخل مجال لغوي آخر كأنها مشكلة «تقانية»، فأخضعت للدرس والتنقيب، وصولاً إلى حل سحري يقضي بضربة واحدة على انخفاض التوتر باستعارة لغة أجنبية، أو برفع شأن اللهجات العامية، بينما يواصل بعض آخر جهوده من أجل تعريب مصطلحات الحضارة، آملاً أن يحدث هذا التراكم ذات يوم قفزة نوعية في الفكر العربي.
المشكلة أبعد من ذلك غوراً، إنها مشكلة دلالة. مشكلة حقول دلالية عالية التوتر الحضاري، باستعارة من خطوط نقل الطاقة الكهربائية، وحقول دلالية منخفضة التوتر الحضاري. وحين يتم الانسياب بين الحقلين، ما يحدث ليس سوء فهم يمكن معالجته بتحسين الأداء اللغوي، أو مجرد تفاوت زمني بين عقليتين يمكن محوه بعقد المؤتمرات والاتفاقيات، وإنما هو انفجار صراعي من أجل الوجود. صراع تحاول فيه ثقافة الحقل الأول ملء الفراغ الناشئ لدى الحقل الثاني نتيجة درجة فضائه المنخفضة التوتر. ومن البديهي القول إن هكذا محاولة تحمل دلالة على صراع المجتمعات على صعد السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والعلوم، والفنون، صراع يتبلور في غالب الأحيان بأشكال دموية ومدمرة، شهدت الشعوب القديمة بعضها، وتمت إبادة بعضه،ا واستعباد بعض آخر طوال العصور الماضية، وصولاً إلى العصور الحديثة التي شهدت إبادات مروعة على يد الهمجية الغربية غير المسبوقة في الأمريكتين، وافريقيا، وآسيا. ويعبّر الطبيب/الساحر الإفريقي «كريدو مينتوا»، أو الشامان الآسي بتعبير قبيلة الزولو الجنوب أفريقية التي ينتمي إليها، تعبيراً دقيقاً عما يعنيه أن يعجز أفراد شعب عن التسمية، عن معرفة ذواتهم، ومحيطهم، والاعتماد على أنفسهم، واحترام ذواتهم، إنهم يتحولون إلى جنس من الكائنات الآلية، كائنات تظل تتبع مستعبدها السابق حتى لو قال لها إنه راحل، لسبب بسيط: لأن عقول أفراد هذا الشعب ما زالت عقول عبيد حتى لو تحررت أجسادهم من الأغلال.
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *