الميل الأدبي الروائي سحر الغواية و هندسة التشكيل

*سعيدة تاقي

“إن الرواية التي لا تغيِّر المؤلِّف و لا القرّاء ليست ضرورية.”
                                      موريس نادو

فكرة المبتدأ:
كيف سأستطيع؟ و من أين ستتولد الفكرة الأولى؟ و كيف ستتدفق باقي الأفكار إلى أن تؤول في تراصِّها و انتظامها إلى توليف مكتمل و متناسق؟
أسئلة بديهية يواجه بها كل يوم من يكتب أو يبدع أو ينتج أو يخلق شيئا جديدا غير مسبوق في ماهـيته أو هـويته أو تمَـرُّده. ففي عالم الخلـق و الكـشف و التجـلي كلٌّ مُيَّسر لما يحـتكِـم إليه من أدوات إبـداع أو تقـعيد أو نـقـد أو ترميم أو تحليل أو نظر أو تقويـم. و مهما اختلفت الأدوات و تباينت الطرق و تعددت الطرائق تكمُن في الأصل خلف كل فِعْـلٍ نـواة/فـكرة. لكن أيسـتطيع الميل الأدبي أن يكون واعيا بما سيؤول إليه مساره قبل المنتهى و نفض اليد من كل اشتغال؟. ليست الإجابات إلا تحييناً لاحـتمال مؤقَّت لكل تلك الاستفهامات، و قد يكـون ذلك سبـبا من بين الأسـبـاب التي جعـلـت البعـض لا يـتـوانى عن تخـصيـص كـتب أو مقالات أو مقدمات كتب للإجابات، بينما أحجم الآخرون عن دخول هذا النفق مكتفين بما ينثرونه في مفاصل أعمالهم و حواراتهم من كشف لبعض ملامح مختبراتهم السرية.
لننصت لبعض ما قد كتبوه، أو نثروه.

البذرة و الشجرة:
يرى غابرييل غارسيا ماركيز أن سؤال “كيف تُكتب الرواية؟” (ترجمة صالح علماني) يحتمل إجابات متنوعة بحسب من يوجه السؤال، و قد يُمَكِّن هذا التنويع من الوصول إلى الحقيقة، لأن “أكثر من يسألون أنفسهم كيف تُكتب الرواية هم الروائيون بالذات. و نحن نقدم لأنفسنا أيضا إجابة مختلفة في كل مرة.” و يضيف: “و أنا أعني بالطبع الكتاب الذين يؤمنون أن الأدب هو فن موجَّه لتحسين العالم. أما الآخرون ممن يرون أنه فن مكرَّس لتحسين حساباتهم المصرفية، فلديهم معادلات للكتابة ليست صائبة و حسب، بل و يمكن حلّها بدقة متناهية و كأنها معادلات رياضية. و الناشرون يعرفون ذلك.”
و يثير ماركيز الانتباه في سياق استعراضه لما يفرضه على أفكاره أو بذرات نصوصه من رقابة تفضي بها أحيانا إلى سلة المهملات بعد تمزيقها بطريقة لا يمكن معها إعادة ترقيعها ثانية، إلى أن المسألة ليست في كتابة رواية ـ أو قصة قصيرة ـ و إنما في كتابتها بجدية، حتى و لو لم تُبَعْ فيما بعد و لم تَنَل أية جائزة، فوفق منظور ماركيز الشيء الوحيد الذي يفوق الحديث في الأدب هو صناعة الأدب الجيد. و يستحضر في ضوء ذلك الحادث الذي علَّمه ضرورة أن يكون التمزيق غير قابل لإعادة الترقيع. و هو حادث استعادة صديقه الشاعر خورخي غيتان لفصل كامل كان ماركيز قد انتزعه من روايته الأولى “عاصفة الأوراق” و مزقه، و كانت الرواية قد نشرت حينها. لكن صديقه الشاعر استعاده من سلة المهملات و رقعه بنهمه الذي لا يرتوي نحو الأدب ـ أمام استسلام ماركيز لإلحاحه ـ و نشر الفصل على أنه قصة قصيرة قوبلت بعدها بأفضل إطراء من جانب النقاد و القراء. و بعيدا عن معرض المقارنة بين الرواية و القصة القصيرة يؤكد ماركيز: “إن تمزيق القصص القصيرة أمر لا مناص منه، لأن كتابتها أشبه بصب الإسمنت المسلح. أما كتابة الرواية فهي أشبه ببناء الآجر. و هذا يعني أنه إذا لم تنجح القصة القصيرة من المحاولة الأولى فالأفضل عدم الإصرار على كتابتها. بينما الأمر في الرواية أسهل من ذلك: إذ من الممكن العودة للبدء فيها من جديد.”

الجذر للأرض و الأفرع للسماء:
يورد إرنسـتو سـاباتو في معرض حـديثه عن “الكـتابـة بين الخطـط و الأعـمال” ضمن مـؤلفه المدهـش “الـكـاتب و أشـباحه” (نقله عدنان المـبارك إلى اللغة العربية تحت عنوان “الكاتب و كوابيسه”) حكايةَ دوستويفسكي مع إحدى أشهر رواياته؛ فقد “كان في نية دوستويفسكي كتابة مقال تعليمي يحارب الإدمان على الكحول في روسيا، تحت عنوان “السكيرون”، لكن بدل ذلك جاءت روايته “الجريمة و العقاب”.
و يؤكد أمبرتو إيكو أن الرغبة هي حافز مشروعه الروائي الذي افتتحه بين السنة السادسة و الأربعين و الثامنة و الأربعين من عمره بكتابة روايته الأولى “اسم الوردة”، حيث يقول في مقاله “كيف أكتب؟”: “إن القول إن رغبة ما استبدت بي لكتابة رواية يبدو لي سببا كافيا”. (ضمنت ماريا تيريزا هذا المقال في كتابها  المَبـني على أسئلة عديدة وجهتها إلى مجموعة من الـكـتاب، تتعلق بطـرائـقهم في الـكـتابة و منها السؤال المحور “كيف أكتب؟” الذي يجيب عليه إيكو في المقال. ترجمه سعيد بن كراد مع مقالين آخرين لإيكو ضمن كتاب “آليات الكتابة السردية”).
يلاحق أمبرتو إيكو ضمن مقاله الأفكار/الصور الأولى التي ولَّدت رواياته “اسم الوردة” و “بندول فوكو” و “جزيرة اليوم السابق” و “باودولينو”. (كانت روايـتاه الأخيرتان “مقبرة براغ” و “العدد صفر” لحظة تدوينه للمقال مخطَّطين قيد الإعداد و البناء.) و يعرض فيه طقوسه في الكتابة الإبداعية و دوافعه و صيرورات تشييده لعوالمه التسريدية بدءً من فكرة البذرة إلى بناء العالم إلى إبداع الأسلوب. و إيكو مثلما هو معروف عنه ينشغل بالـبحث في الجـزئيات الدقـيقة و التنقيب عن تفاصيل الأشياء و الأمكنة و الشخصيات قصد رسم عالمه السردي بكل دقة. لأجل ذلك توقف عن الكتابة لمدة سنة كاملة و هو يشتغل على “اسم الوردة”، و توقف لأكثر من سنتين اثنتين بالنسبة إلى “بندول فوكو”، لكي يقرأ و يرسم الخطاطات. فالعالم الذي يخترعه عليه أن يكون دقيقا كي يتحرك داخله بثقـة مطلقة. ففي حالة “اسم الوردة” يقول: “رسمت العديد من المـتاهات و تصاميم لأديرة استنادا إلى رسوم أخرى و استنادا إلى أماكن زرتها، ذلك أنني كنت أود أن يشتغل كل شيء. و كنت أود أن أعرف المدة الزمنية التي يستغرقها تنقل شخصيتين من مكان إلى آخر و هما تتجاذبان أطراف الحديث. و هذا ما كان يحدد مدة الحوار.” قد يكون الأمر غير ذي تأثير على تطور القصة و إيكو يؤمن بأن الأثر ضئيل لكنه رغم ذلك إن لم يستوف الأمر لا يمكنه سرد أي شيء. إنها رغبة جارفة في خلق ألـفة داخل الـمكان الموصوف تمده بالـقدرة على الـكـتابة و السرد، و حاجة ملحة للتعرف على شخصياته حتى يتمكنوا من القول أو الفعل عندما يعطيهم الكلمة أو يدفعهم لفعل شيء ما. لأجل ذلك رسم بورتريهات جل رهـبان الدير عن رواية “اسم الوردة”. و قضى ليال كثيرة في معهد الـموسيقى و الفنون إلى أن تغلق أبوابه؛ ففيه تدور بعض مغامرات قصة “بندول فوكو”. يقول عن هذه الرواية: “أشير في “بندول فوكو” إلى وجود دارين للنشر مانيزيو و غراماند ضمن مؤسستين متجاورتين و بينهما ممر بمدخل له ثلاث درجات. لقد قمت بحسابات كثيرة لمعرفة هل بالإمكان قيام ممر بين العمارتين، و هل يجب القيام بتسوية للأرض من خلال تصاميم عديدة. إن القارئ يصعد تلك الدرجات دون الانتباه إلى ذلك (أعتقد) و لكن الأمر كان بالنسبة إلي أساسياً.”

من الزهرة إلى الثمرة:
لئن صرح إرنستو ساباتو بأن “الأعمال التالية للروائي مثل المدن المشيّدة على أنقاض السابقة، فرغم أنها جديدة فهي تجـسّد الخـلود و تلقي توكيدها في وجود حكايات شخصيات و أحوال و أهواء و نظرات و وجوه عائدة باستمرار.”  فإن ماريو بارغاس يوسا يرى أن كل القصص التخييلية هي “هندسات معمارية تنتصب بالمخيلة و الحرفية استنادا إلى بعض الأحداث و الأشخاص و الظروف التي تركت أثرا في ذاكرة الكاتب و حركت خياله المبدع الذي راح يبني، انطلاقا من تلك البذرة، عالما متكاملا شديد الغنى و التنوع إلى حد يبدو معه، أحيانا، أنه من المستحيل التعرف فيه على المادة الأولية المأخوذة من السيرة الذاتية التي كانت أساسه و مبتدأه، و التي هي بطريقة ما صلة الوصل السرية لأي قصة تخيلية بعالمها و نظيرها: الواقع الواقعي.”
و يعلن يوسا ضمن رسائله لكل روائي شاب (ترجمها صالح علماني) أن من يمتلك الميل الأدبي عليه أن يعيش ممارسة ذلك الميل بوصفه المكافأة الأفضل التي يمكن له أن ينالها نتيجة لثمرات ميله. “فالكاتب يشعر في أعماقه بأن الكتابة في نظره هي أفضل طريقة ممكنة للعيش، بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي يمكن له أن يحققها من خلال ما يكتبه.” و الميل الأدبي مع يوسا استعداد أولي فطري مصاغ في الطفولة أو الشباب المبكر، و يأتي  الخيار العقلاني لتعزيزه و ليس لصنعه. بيد أن ذلك الميل الأدبي في عرف يوسا  ليس تزجية للوقت أو رياضة أو لعبة راقية تُمارس في أوقات الفـراغ. “إنه انكباب حصري و إقصائي لما عداه، و شأن له أولوية لا يمكن أن يُقدّم عليه شيء آخر، و عبودية مختارة بحرية، تجعل من ضحاياها (من ضحاياها المحظوظين) عبيداً… ذلك أن الميل الأدبي يتغذى على حياة الكاتب، بصورة لا تزيد و لا تنقص عن تغذي الدودة الوحيدة المتطاولة على الأجساد التي تقتحمها… إن من تبنى هذا الميل الجميل و المُمْتَص لا يكتب ليعيش، بل يعيش ليكتب.”

بعـدَ الرّحـيق.. بعْـضُه :
يقر ساباتو: “ليس هناك أمر أكثر خطلا من مطالبة الأدب بشهادة اجتماعية و سياسية. فأن تكتب بكامل الحرية يعني الكتابة بدون أي مطالب أخرى. و إذا كان الفنان يمتلك العمق فهو بلا شك يعطي الشهادة على ذاته و العالم الذي يحيا فيه، و على المصير الإنساني في أزمانه. و لأن الإنسان مخلوق سياسي و اقتصادي و اجتماعي و ميتافيزيقي فإن العمل الفني سيكون ـ و بالعمق الذي يناسبه ـ وثيقة الكينونة في زمان و مكان محددين.”
و يجيب في آخر كتابه “الكاتب و أشباحه” عن سؤال: من المبدع؟ فيقول: ” إنه الإنسان الذي يعثر في شيء معروف (جيدا) على أشياء غير معروفة.”

______________
. روائية و أستاذة و باحثة جامعية.
. نشر المقال بالعدد 56 من مجلة الإمارات الثقافية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *