خاص- ثقافات
*حميد الحريزي
الخوف المزمن ، الجمال المغتصب،والأحلام المسروقة:-
((السِّفِر و الأَسفار)) رواية الأديب الروائي المبدع زيد الشهيد ، الصادرة عن دار ( أمل الجديد)) للطباعة والنشر والتوزيع سورية –دمشق ط1 2017 وبواقع 427 صفحة
واضحٌ من عنوانِها أنها عبارةٌ عن رحلةٍ امتدت لعشرات السنين ، نطَّلع من خلالها على فكرِ وسلوك وطموح ومغامرات العشرات من الشخصيات ، في العشرات من المدن ، يصحبنا بها الكاتب في قارة أسياوأوربا ، وفي حقبة الحكم العثماني ، وعشية الحرب العالمية الثانية ، ومن ثم في حقبة الانتصار على الفاشية الهتلرية وزمن حكم البعث في العراق حيث يتعرف سامي الشاب المهاجر من مدينته السماوة هرباً من خنجر قد يفتك به كما فتكَ بوالده الصياد الذي صرعته يدُ الظلم والقهر بعد أن تحول من سكّير عابث الى شخصية متزنة عارفة وضعت يدها على معاني الحياة وجذور القهر ومنابت الفرح …حيث تبدأ علاقة ((سامي)) الفتى الهارب بالصعلوك الدوّار المثقف (( هاتف غازي)) في 1978.
صفحات مدهشة يكتبها ((هاتف غازي)) ويظهرها ((سامي السماوي)):-
يروي الشاب ابن السماوة المتواري عن خناجرها في بغداد تنقلاته ومتغيرات حياته على هامش حياة ومغامرات المثقف الصعلوك المغامر ((هاتف غازي))، وهو يطالع كتابه ((سفري وأسفاري)) في بغداد وفي تركيا فاليونان وصوفيا وبودابست وبرلين ومن ثم العودة الي بغداد ؛ ومن ثم لقائه بشكل مباشر للاطلاع على أسراره وخفايا حياته عبر سلسلة لقاءات استمرت لأسبوعين حيث يقول (( شكرت السماء لأنها وقفت الي جانبي ، ذلك إني ما ان أكملت المشروع ومر يومان حتى نقل لي هاتف صديق لي يجاوره في سكنه خبر وفاته ، لقد شهدت في أخر لقاء معه وتسجيل حديثه ان الرجل منهك وغير قادر على مصارعة الزمن ) ص7.
يصفه ((سامي)) وصفاً كاملا ً هيئته وملابسه التي أصابها البلى وحقيبته ((ألحنية)) اللون التي كان يحمل فيها كتابه الذي يوزعه ويبيعه بنفسه على من يريد قراءته ، والذي لاقى قبولاً واستحسانا كبيراً من قبل القراء وخصوصا الشباب في حين قوبل بالريبة والتحفظ ووضع علامات الاستفهام حله وحل كاتبه من قبل السلطات الأمنيةآنذاك …
وصف الكاتب بإسهاب ((هاتف غازي)) الذي يحيل اسمه الى صوت بهاتف العقل كمن يغزوه يطالبه بعدم الاستكانة وعدم اليأس ، بل الصمود ومشاكسة ومصارعة الصعاب ، وحب المغامرة ، وطلب الجديد ، وعدم الخوف من الغريب والبعيد ، و الغوص في أعماق الحياة ، والاستهزاء بصعابها ومنحدراتها وعدم التهيب من تسلق قممها ومرتفعاتها ، والخوض في بحارها . طلب الحب والجمال والقدرة الكبيرة في التكيف مع ظروف الحياة عاليها ودانيها ، ساميها ورذيلها، جميلها وقبيحها …
على هامش سيرة (هاتف غازي )) يصف لنا ((سامي)) مفردات حياته اليومية يوم ترك السماوة لحين دخوله بغداد …
ومنها النزل يعود لامرأة خمسينية ((أم سعاد)) أرملة ((عبد الستار )) زوجها الذي قتل في حرب الحكومة والأكراد؛ النزل الذي ضمّه مع نماذج مختلفة من الناس الآخرين، حبّوش ذو الخيال الواسع ونسج الحكايات ، وكاكه هوشيار الكردي ، الذي استغفله صحفي دجال ليظهره كأنّه كاكه حمه في السليمانية رغم وجوده في بغداد ضمن تحقيق صحفي ، وهنا اشارة إلى زيف بعض التحقيقات الصحفية وعدم أمانة البعض من الصحفيين
ويذكر الكاتب ما حدث معه في تحول صورة شكوى من الحيوانات – بعثها الى احدى الصحف – الى تحقيق حول انتعاش الثروة الحيوانية ….
يوغل الكاتب عميقا في توصيفات الناس من اللوطيين ، او المزيفين ، كأم سعاد مدعية العفة والفضيلة وهي تمارس الجنس مع ((بشير)) احد نزلائها ، ومن انغمس في الفن والسياسة فيصبح هدفا للقوات الأمنية ومطاردتها كبائع اللبلبي، وأُلماز التركماني خياط الفر فوري، وابو ستار الحمال الذي يكد ويتحمل المشاق ليرسل الأموالالى ولده الذي يدرس في فرنسا،، كذلك كريم الشرطي .
وصفٌ شامل لشوارع ومحلات بغداد ، الفضل ، وأبو سيفين ، شارع المتنبي ، الصابونجيه ، وبيوتات الحيدر خانه ، الشواكه ، شارع الكفاح …. مع اشارة الى بعض بيوت اليهود المهجورة بعد تهجير أصحابها من قبل الحكومات المتعاقبة وخصوصا الحكومة الملكية .
((أديب جرمانوس )) الشخصية التي تلفت النظر والذي أمَّن لسامي عملاً في دائرة ضريبة الدخل ، الرجل الدقيق الحازم المتابع ، الذي يقرأ الكتب ويحث الشباب على عدم قراءتها ، والذي اكتشف سامي أنها كانت بسبب معاناته وعائلته كعائلة مناضلة تعرضت للكثير من الأذى بسبب الثقافة والسياسة وقراءة الكتب …
جاسم عفريت بائع الأكلات السريعة والغشاش الكبير بائع الأغذية السامة والممرضة رغم مظهرها ورائحتها الجذابة .
الصيدلاني ((يعقوب بهنام )) الناصح للناس بعدم الاقتراب من جاسم عفريت رغم انه مستفيد من بيع الأدوية الشافية لما يسببه طعامه .، ليس كما هو مطعم ((تاجران)) الشهير حيث الأكلات النظيفة الراقية …
يدور بنا ((سامي)) في شوارع بغداد ، وأهلها ، المثقفين ، الصعاليك، اللوطية ، السياسيين، الفنانين ، الباعة المتجولين … مُسجِّلا أشكالهم ، حركاتهم سكناتهم ، حالات رضاهم وفرحهم وحالات غضبهم وانفجار عواطفهم ، يصف النبل والوفاء والعفة والأمانة ، ويصف أيضا سلوكيات القردنة والثعلبة والغدر والخيانة ، والجبن والخسة .. إنها تلاوين المجتمع وبيئة المدينة الجاذبة والضامّة لمختلف المستويات والسلوكيات ، ومختلف القوميات والمهن والديانات ، ومن خلال دقّة ملاحظات الكاتب يرينا الحياة الحقيقية بحركتها وحراكها كما هي على الطبيعة . كل هذه الأحداث تدر في بغداد في بدايات زمن حكم البعث في 1968 من خلال الإشارة الى صورة الرئيس ((احمد حسن البكر )). وهنا يرينا الكاتب بغداد في زمنين مختلفين زمن الحكم العثماني للعراق من خلال كتاب وذكريات ((هاتف غازي)) ، وبغداد في الزمن الحديث من خلال روي ((سامي)) ابن السماوة اللاجئ الى بغداد
يروي لنا ((سامي)) عمله في دائرة الضريبة ، مع شخصية مدير الدائرة ((أديبجرمانوس)) الشخصية الجادة النزيه المحترزة دوماً بسبب معاناة خاصة عاشها هو ووالده من قبله نتيجة فعالياته السياسية في بلد طارد لحرية الفكر والتفكير وخصوصاً بعد ان استلم حزب البعث السلطة السياسية …