زيد الشهيد يدور بنا القارات و البحار عبر رواية السفر والأسفار

خاص- ثقافات

*حميد الحريزي

الخوف المزمن ، الجمال المغتصب،والأحلام المسروقة:-

((السِّفِر و الأَسفار)) رواية الأديب  الروائي المبدع زيد الشهيد ، الصادرة عن دار (  أمل الجديد)) للطباعة والنشر والتوزيع  سورية –دمشق   ط1 2017 وبواقع 427 صفحة

واضحٌ من  عنوانِها  أنها  عبارةٌ عن  رحلةٍ  امتدت لعشرات السنين ،  نطَّلع من خلالها  على فكرِ  وسلوك  وطموح  ومغامرات  العشرات من الشخصيات ، في العشرات  من المدن  ، يصحبنا  بها  الكاتب  في قارة أسياوأوربا ، وفي حقبة  الحكم العثماني ، وعشية الحرب العالمية الثانية ، ومن ثم في حقبة  الانتصار على الفاشية الهتلرية  وزمن حكم البعث في العراق حيث يتعرف  سامي الشاب  المهاجر من مدينته السماوة هرباً  من  خنجر قد يفتك به  كما  فتكَ  بوالده الصياد الذي  صرعته يدُ  الظلم والقهر  بعد أن تحول  من سكّير عابث الى  شخصية متزنة  عارفة  وضعت يدها  على معاني الحياة  وجذور القهر  ومنابت الفرح …حيث تبدأ  علاقة  ((سامي)) الفتى الهارب  بالصعلوك الدوّار  المثقف (( هاتف  غازي)) في 1978.

234

صفحات مدهشة  يكتبها ((هاتف غازي))  ويظهرها  ((سامي السماوي)):-

يروي  الشاب  ابن السماوة المتواري عن  خناجرها  في  بغداد تنقلاته  ومتغيرات حياته على  هامش   حياة ومغامرات  المثقف الصعلوك المغامر ((هاتف  غازي))،  وهو  يطالع كتابه ((سفري  وأسفاري)) في  بغداد   وفي تركيا   فاليونان  وصوفيا  وبودابست وبرلين  ومن ثم العودة الي بغداد  ؛ ومن ثم  لقائه بشكل  مباشر للاطلاع  على أسراره  وخفايا حياته عبر سلسلة لقاءات استمرت لأسبوعين  حيث  يقول (( شكرت السماء لأنها وقفت الي جانبي ، ذلك إني ما ان أكملت المشروع ومر يومان حتى نقل  لي هاتف صديق لي يجاوره في سكنه خبر وفاته ، لقد شهدت في أخر لقاء معه وتسجيل حديثه ان الرجل منهك وغير قادر على مصارعة الزمن ) ص7.

يصفه  ((سامي))  وصفاً كاملا ً  هيئته  وملابسه التي  أصابها البلى  وحقيبته  ((ألحنية)) اللون  التي كان يحمل فيها  كتابه  الذي  يوزعه   ويبيعه  بنفسه على  من يريد قراءته ، والذي لاقى  قبولاً واستحسانا  كبيراً  من قبل  القراء  وخصوصا  الشباب  في حين قوبل  بالريبة  والتحفظ ووضع  علامات الاستفهام  حله  وحل  كاتبه  من  قبل   السلطات الأمنيةآنذاك …

وصف  الكاتب  بإسهاب   ((هاتف  غازي))  الذي  يحيل  اسمه الى  صوت    بهاتف  العقل  كمن يغزوه  يطالبه  بعدم الاستكانة  وعدم اليأس  ، بل الصمود  ومشاكسة ومصارعة الصعاب ، وحب المغامرة  ، وطلب الجديد ،  وعدم  الخوف  من الغريب والبعيد ، و الغوص في أعماق  الحياة  ، والاستهزاء  بصعابها  ومنحدراتها وعدم التهيب  من  تسلق  قممها  ومرتفعاتها  ، والخوض في  بحارها . طلب الحب  والجمال والقدرة الكبيرة في التكيف  مع   ظروف  الحياة   عاليها  ودانيها   ،  ساميها   ورذيلها، جميلها  وقبيحها …

على هامش سيرة (هاتف غازي )) يصف  لنا   ((سامي))   مفردات  حياته  اليومية  يوم ترك السماوة    لحين  دخوله بغداد …

ومنها   النزل  يعود  لامرأة خمسينية  ((أم سعاد)) أرملة ((عبد الستار )) زوجها  الذي  قتل    في حرب الحكومة والأكراد؛ النزل الذي  ضمّه  مع  نماذج  مختلفة من  الناس  الآخرين،  حبّوش  ذو الخيال  الواسع  ونسج الحكايات ، وكاكه هوشيار الكردي ، الذي  استغفله   صحفي دجال ليظهره  كأنّه  كاكه  حمه  في السليمانية رغم  وجوده  في بغداد  ضمن تحقيق  صحفي ، وهنا اشارة إلى  زيف  بعض  التحقيقات الصحفية وعدم  أمانة البعض  من الصحفيين

ويذكر   الكاتب  ما حدث معه   في تحول  صورة شكوى من الحيوانات  – بعثها الى احدى الصحف – الى  تحقيق حول  انتعاش الثروة الحيوانية ….

يوغل  الكاتب  عميقا  في  توصيفات  الناس   من اللوطيين ،  او  المزيفين ،  كأم سعاد  مدعية العفة والفضيلة وهي  تمارس  الجنس  مع ((بشير)) احد نزلائها ، ومن  انغمس  في الفن والسياسة  فيصبح  هدفا للقوات  الأمنية  ومطاردتها  كبائع اللبلبي، وأُلماز التركماني خياط الفر فوري،  وابو ستار  الحمال الذي  يكد   ويتحمل المشاق   ليرسل  الأموالالى  ولده الذي  يدرس في فرنسا،، كذلك كريم الشرطي  .

وصفٌ شامل  لشوارع  ومحلات  بغداد ، الفضل ، وأبو سيفين ، شارع المتنبي ، الصابونجيه ، وبيوتات الحيدر خانه ، الشواكه ، شارع الكفاح …. مع اشارة الى بعض  بيوت  اليهود  المهجورة بعد  تهجير  أصحابها   من قبل  الحكومات  المتعاقبة  وخصوصا  الحكومة الملكية .

((أديب  جرمانوس )) الشخصية  التي   تلفت النظر  والذي  أمَّن لسامي  عملاً  في  دائرة  ضريبة الدخل  ، الرجل  الدقيق الحازم المتابع ، الذي  يقرأ الكتب  ويحث  الشباب  على عدم قراءتها ، والذي  اكتشف سامي أنها كانت  بسبب معاناته وعائلته  كعائلة مناضلة  تعرضت للكثير من الأذى بسبب  الثقافة والسياسة  وقراءة الكتب …

 جاسم عفريت   بائع  الأكلات السريعة  والغشاش  الكبير بائع  الأغذية  السامة  والممرضة  رغم  مظهرها   ورائحتها الجذابة .

الصيدلاني   ((يعقوب  بهنام )) الناصح   للناس  بعدم الاقتراب  من   جاسم عفريت    رغم  انه   مستفيد    من   بيع  الأدوية الشافية لما يسببه   طعامه .،  ليس  كما  هو مطعم  ((تاجران)) الشهير   حيث  الأكلات  النظيفة  الراقية …

يدور بنا ((سامي))  في شوارع  بغداد ، وأهلها ، المثقفين ، الصعاليك، اللوطية ، السياسيين، الفنانين ، الباعة المتجولين … مُسجِّلا أشكالهم ، حركاتهم   سكناتهم ، حالات رضاهم  وفرحهم  وحالات  غضبهم  وانفجار عواطفهم ، يصف  النبل  والوفاء  والعفة والأمانة ،  ويصف  أيضا   سلوكيات  القردنة والثعلبة  والغدر والخيانة ، والجبن  والخسة ..  إنها تلاوين   المجتمع  وبيئة المدينة  الجاذبة  والضامّة لمختلف المستويات  والسلوكيات ، ومختلف القوميات  والمهن والديانات ، ومن خلال دقّة ملاحظات الكاتب   يرينا  الحياة الحقيقية بحركتها  وحراكها  كما  هي  على الطبيعة . كل هذه الأحداث  تدر في  بغداد   في   بدايات  زمن  حكم البعث  في 1968  من خلال الإشارة الى صورة   الرئيس ((احمد حسن البكر )).  وهنا  يرينا الكاتب بغداد في زمنين  مختلفين  زمن الحكم العثماني  للعراق من خلال  كتاب  وذكريات ((هاتف غازي)) ، وبغداد في الزمن الحديث  من خلال  روي ((سامي)) ابن السماوة  اللاجئ الى بغداد

يروي  لنا  ((سامي))  عمله  في دائرة الضريبة ، مع  شخصية  مدير الدائرة ((أديبجرمانوس)) الشخصية الجادة النزيه  المحترزة دوماً بسبب معاناة خاصة  عاشها  هو  ووالده  من قبله  نتيجة  فعالياته السياسية  في بلد  طارد لحرية الفكر والتفكير  وخصوصاً  بعد  ان استلم حزب البعث السلطة السياسية …

3434

من  مشرد  خائف إلى عاشق  ولهان :-

يأخذنا ((سامي)) في رحلة  ممتعة وطويلة    ولكنها ممتعة حقا  مع ((هاتف  غازي)) الذي  هرب من بغداد بأمر من جدِّه  حتى لا يلقى مصير والده الذي قتل في حروب  الدولة العثمانية  حين  التحق بجيشها  عبر   التجنيد الإجباري   حيث  تبدأ رحلتنا  معه  في  عام 1926  حتى  بداية السبعينات  يوم  مات  ((هاتف  غازي))  ميتة الخائف من  سلطة   تعد  عليه  أنفاسه

(( السلطة الحالية ومنذ مجيئها في العام 1968 التهجس عندها سلوك يومي ، والمواطن الذي ليس تحت سيطرتها حزبيا منظما يبقى داخل  دائرة التوجس، فكيف بمثل   هاتف غازي الذي صرف عقودا من السنين يتنقل من بلد  لأخر )) ص435.

حيث يحصل  على مذكراته ، ويتابع رحلته  التي تمتعنا  لنجوب  معه البلدان بتذكرة سفر مجانية، لندخل  تركيا  واليونان  وهنغاريا  وبلغاريا  وألمانيا  برلين  وميونخ  ومن ثم فرنسا  فالعودة ثانية  ونحن   نمتطي   ذاكرة   هاتف  غازي  عبر  سفينة روي (( سامي))  ومخيلة  زيد الشهيد  الرائعة .

والآن  هيّا بنا لنجز  رحلة  الهاتف الغازي  حيث  يعيش حياة  التشرد  والجوع  في تركيا  ، يدر في شوارعها وحاراتها ،  يرى  الوديع  المحب المتسامح ، سائق التكسي (( توركت  او غلو )) الذي  يجيد   التكلم العربية والذي  عاش   فترة   من حياته  في  بغداد والمعجب  كثيراً   ببغداد  وشاعرِها  الشعبي  المعروف   عبود  الكرخي والذي  يترنم  دوماً  بقوله (( بغداد  مبنيه  بتمر فلس  واكل  خستا وي ص75.

تركيا  في عهد  أتاتورك  الذي  أبدل  الحرف  العربي  بالحرف  اللاتيني   للغة التركية  واشاعَ  العلمانية والمدنية بعيدا  عن سلطة الدين  الذي حجَّمه  كثيراً ، وقد أجرى الكثير من التغيرات   في حياة الشعب  التركي ، يضطر ((هاتف  غازي))  ان   يمارس  أعمالاً مختلفة الوضيعة والرفيعة منها  للحصول  على  لقمة العيش في بلاد الغربة ((المال في الغربة وطن ))  وهو  بحاجة الى  وطن . ولكن هاتف  غازي  لم يضع أمام رغباته أية خطوط  حمراء فهو المغامر  دوما ، ومن خلال  تردده  على  مبغى ((عاهرات القره كوي))  لأجمل  فتيات تركيا ، تعرَّف على  نجمته المضيئة التي  ستكون   فنار  جذبٍ  له  طوال ترحاله  . إنّها  البغي الفاتنة الساحرة ((دوردانه))  باذخة الجمال  شفافة الروح  ، الذي  عشق  روحها وجسدها  حد  العبادة والهيام ،  وهي  كذلك  عاشرته روحا  وجسدا ، عاشرته إنسانا  أحبها  وأحبته   لاطمعاً في  ماله وليس  ارضاءاً  لنزوة …

في الوقت الذي يحيافيه حياة اللامبالاة  والمرح  والترح   العمل والجنس  تعيش بغداد  حياة من الجوع  والخراب  حيث   اخذ الناس  يعيشون  على   أسراب الجراد  الطازج  والمجفف كما   ورد   خلال الرسائل  التي استلمها من والدته  في بغداد .

وفرت  له ((دوردانه)) من خلال نفوذها على عشاقها  في تركيا  إلى الحصول  على عمل  شبه  مستقر ومحترم  لتخليصه  من حالة التشرد وعمل  البياع  المتجول ، فعمل في  معمل (((عثمان  بيك )) لصناعة المربيات  وتعرفه على  اثنين من العمال   صار شريكهما  في  غرفة سكنهما  وهما  فكتور  المسحور  بالشاعر  الكبير  وايتمن    كتاب ((أوراق العشب ))  وحيث  اخذ ((هاتف  غازي))   يدون    ذكرياته  وملاحظاته   حبا  بـ ((دور دانه)) نجمته التي اختفت   فجأة  مرافقة  عشيق ولهان  صاحب  ثروة  ومال  واصطحبها معه  الى  ألمانيا ، ومنذ ذلك الحين  أصبحت   هذه  النجمة المشعَّة  هي   هدف    ((هاتف غازي))  وبوصلته  في السفر والترحال . حيث  يقول

((ان للورق مهمة الصندوق، والكلمات لآلي يختزنها في جوفه ))  ص 124 .

ثم  يشد  الرحال  مع   صديقه  الحميم  عاشق  وايتمن  ((فكتور))  الى اليونان  متحدّين كل  المتاعب والمصاعب  والمخاطر ، حتى أدركوا  اليونان ، ولكنه  يفتقد صديقه  ورفيق طريقه ((فكتور))  الذي مات  بسبب  تسلقه  صخرة سرعان  ما  تدحرجت   ساحقة وراضة رأسه وجسده ، وعلى الرغم  من حصوله  على عمل  مريح  ومربح  مع  السيد ((كراون )) ، الذي  ائتمنه  على  عمله  نتيجة لصدقه  وأمانته ، ولكن  حنينه  الى  نجمته الخابية  لم  تدع  روحه   تستقر على حال  فهي  جاذبة  له على الدوام …  فقرر  الرحيل .

 وقد   تعرف  على  بعض  عادات اهل اليونان المسيحيين  منهم  خصوصا في نظرتهم  للموسيقى  التي  ترافق كافة شعائرهم  وكما قال   له   فكتور:-

(( الموسيقى عندنا من أبجديات الطقوس الدينية على النقيض منكم ، رجال دينكم يحسبون  الموسيقى كفرا ومن فعل الشيطان ))  ص 144.

لقد  كان  فكتور بمثابة الدليل  السياحي لــ ((هاتف  غازي)) يشرح  له  معالم  حضارة اليونان ،  مبانيها ، كنائسها ،  فلاسفتها  القدامى   ابقراط    وفيثاغورس ، اقليدس ، ارخميدس  وغيرهم … وقد  كانت  وفاته  خسارة كبيرة  له  .

مستذكرا بناء  ساعة القشلة من قبل  جد  ((هاتف  غازي)) في  بغداد عام 1869 بأمر من  نامق  باشا والذي  اكتمل في زمن مدحت باشا .

كان  ((كراون))  معين  جديد   استطاع  ان  يعوضه  خسارته   لفيكتور،  هذا  الذي  يحمل  موهبة العمل الناجح  والحكمة  والدراية في  أحوال  العالم والذي   قال  له   وهو يدعي حنينه  للوطن:-

(( أيُّ وطنٍيامعتوه… الأوطان كذبة يلفِّقها لنا الأوغاد كي نكون لهم عبيداً ويكونون  هم السادة نمسح لهم أحذيتهم ونربّي لهم  أولادهم ))

 فما  اصدق  هذا  القول  وما  أقربهالى واقع  حالنا  في  عراقنا طوال حياتنا  وحياة أبنائناوأجدادنا ، نعطي  العرق  والدماء فلانجني غير  الحرمان  والتشرد  والجوع  والإذلال  في الماضي والحاضر .

يشد هاتف غازي الرحال  الى صوفيا … حيث  تسوقه   روحه  المغامرة  للتجريب  والتسكع  في  صوفيا   (( سيرديكا)) وتعني الحكمة في اللغة اليونانية القديمة  قبل ان تأخذ اسم  القديسة صوفيا .

التجوال  والتسكع  في  صوفيا  التي  استعمرها  العثمانيون  لعدة قرون وبنوا  فيها  المساجد  والحمامات  وما  إليه  من حضارة اسلامية … صوفيا  التي  وقف حكامُها  مع  هتلر   ثم  تحولت للحكم الشيوعي  بعد  انهيار الفاشية .

يعيش  تفاصيل  حياة اهل صوفيا  وحبهم  للعمل في مدينة هادئة مسالمة  جميل ، أهلها  وعجائزها  يحبون الحياة   كما كانت  تقول  العجوز التي يسكن  شقتها :-

(( يجب ان أعب من الحياة  جذوتها وعسلها ، فهي من حقي  ومن حصتي الزمنية التي منحتني إياها السماء… لابد من الاستمتاع بها )) ص214.

وقد  تعرف  على ابنتها((ماريا ))  وقدم  لها الهدايا ، هذه البنت  دائمة الخلاف  مع  زوجها والتي  انحدرتأخيراالى  ممارسة  البغاء وأصبحت  بائعة للهوى .

ينتقل   الى سكن  الفندق  وليلتقي  بـ ((بالأرملة كريستينا ))  الامرأة المدهشة  صاحبة الشخصية القوية والمؤثرة ، الامرأة الشجاعة  المحبة للناس  بطيبة   وذكاء وفطنة كبيرة ، حيث أسكنته  في  غرفة   يتقاسمها  مع  كادر نقابي  معروف   بنشاطه  المهني العمالي من اجل حقوقهم  وضمان عملهم  وكرامتهم((بينكوفسكي))  المثقف  محل  ثقة واحترام  العمال ومرجعهم الموثوق لحل  مشاكلهم . والذي  اوجد عملا   لـ ((هاتف  غازي))  في  احد  المطابع  في المدينة ،  مما  أمتعه  هذا العمل  كثيرا  متمثلا (( والت  وايتمن))  شاعرا  وعامل  طباعة ، استمتع بالقراءة ،  وتصفيف  الحروف لمقالات  ومشاعر اهل  صوفيا وتطلعاتهم ، ومتعرفاً على   موهبة  كريستينا  الموسيقية  المدهشة ، وقد  كان  يتواصل  مع  والدته  عبر الرسائل  المستمرة بينهما ، مستعيدا  ذكرياته  في  بغداد  .

((هاتف غازي))  وجورجي  ديمتروف  عامل  الطباعة الشيوعي الذي  اتهم بحرق  الرايخستاغ، مما  ادى الى سجنه  وشهد  العالم كله  محاكمته  الشهيرة  التي  أذهلت  حتى قضاته وبقى رمزا  للكفاح  من اجل  الاشتراكية  لأجيال عديدة من بعده .

(( لقد كانت أوربا  بطبقتها الارستقراطية وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة وأصحاب المصانع ومديروها المترفون في حمى إدانتها  للشيوعية ، وكانت بلغاريا بالملك وأتباعه  ومريديه يغازلون ألمانيا محاولين التقرب منها من خلال الصحافة والإذاعة بإدانة لاتنقطع وسيل  شتائم ترشقه بوجه ستالين ) ص 243.

يبدأ ((  هاتف  غازي )) بكتابة   خواطره وينشرها  في الجريدة  تحت  أسماء  مستعارة  حيث  لاقت  قبولا  ومديحا كبيرا  لكاتبها  كما  وردت  رسائل  للجريدة من القراء بهذا الخصوص .

استمر بالنشر الى ان   كُشِف ستره  وافتضح  أمره عندما  نشر قصيدة   وايتمن :-

(( تعالوا

سأجعل هذه القارة خالدة

سأخلق عليها اسمى جنس طلعت عليه شمس

سأخلق ارضين سماوية رائعة

بحب الرفاق

بحب الرفاق الدائم معنى الحياة ))  ص247.

يشارك  في  تظاهرة عمالية مساندة ديمتروف  مُدينة  اعتقاله ومحاكمته في  23-12-1933. وقد  تعرض   الزعيم  النقابي  الصديق بنكوفيسكي  للاعتقال  ، و اعتقل  هو  حينما  حاول  الهرب  ولكن دون جدوى.

((  احتُسِبَ  عدوا  ومتآمرا  ومساندا  للشيوعية ، وأودع  في  السجن  وقد  كشف  أمر   نشراته  في الجريدة ومنها  نشره  لقصيدة  وايتمن . فاتهم  بأنه  مجند  من قبل  الشيوعي  الروسي ((بيطرسفاسيلي)) الضابط الروسي  الذي ساهم  في إنشاء تنظيم  شيوعي  في  الناصرية في جنوب العراق ، واستجوب  حول  علاقته  يوسف  سلمان يوسف  ومن هو  بطرس فاسيلي وأين تكون الناصرية ؟؟))ص249.

وهم  لايعلمونإننيأجازفوأتحمل  الصعاب  من  اجل ((دوردانه))  ولا علاقة لي  بالشيوعية  لا من قريب ولا من بعيد . كان  رفاقه في السجن  من مدمني الخمر ومن  مثيري الشجار  والعراك  ولعب القمار . احدهم  متمثلا  جان  فالجان   حيث يسرق  من  الأثرياء  ليعطي  الفقراء ، مما  يعرضه  للسجن .

((كريستينا))  كانت هي  الملاك  المخلص  لـ((هاتف  غازي))  من السجن  وتبرئته  مما  اسند إليه ،  ولكن  توجب  عليه  مغادرة صوفيا  خلال  ثلاثة  أيام  وقد  عملت   له  هذه  الكرستينا حفلة  وداع  على حسابها  الخاص ،  معلنة  له  إنها مستعدة  لمساعدته  في   وقت  وأي  مكان ….

بودابست عام 1933، يصل   هاتف  غازي  بودابست  وسط  رياح  شديدة   أشجار غابات الحور  التي  يناطح  بعضها  بعضا  في لجة الرياح  العاصفة والأمطار الهاطلة ،   تعرف على  نادل من أصل  مغربي  ينطق  العربية ((عبد الله))، قاده   ليشاركهم سكنهم  هو   وصديق  آخرموريتاني  الجنسية ، عبد الله  الشاب  الدمث  والمثقف  الذي اختزن  أكواماً  من الكتب  تحت سريره  في سكنه  والذي   استفاد  من قراءتها  وتثقيفه  بشكل   موسوعي  كبير ،  عبد الله محب  وعاشق (( هانا))   الفنانة المبدعة ،ابنة الجنرال  التي ماتت بسبب مرض  التدرن ، مما  آثار  حزن  وشجن  وسبب ألما دائما  لعبدا لله …

يصف  هاتف غازي بودابست  وهي  تعيش عشية  صعود  الحزب  النازي،يتأملها وهو يسير  على جسر  نهر السين  المتدفق ، واخذ يكتب  المزيد  من  ماتراوده  من  صور  وقصص  وخواطر اقرب   إلى السرد  منها  الي الشعر  ليس كما  كان  عبدا لله ، الذي  ترك  بودابست ، والذي  اخذ  يتراءى له  وجه  كريستينا  في  صور نساء  جذابات  يمتلكن  كاريزما  خاصة  وقوة شخصية   حيوية ومحبة للناس، يستذكر  الشاعر ديمتري  الذي يكتب ويمزق   يقرأ في  البارات  والملاهي ،  وقد  تم  اعتقاله في  احد  الأيام  مُتَّهماًبإثارة الفوضى …

عمل  هاتف غازي نادلا  بمحل  عبدا لله الذي ترك   بودابست ،  واخذ  ينفق  كل  مايحصل عليه   في الأكل  والشرب    ولبس  افخر الملابس  وأربطة العنق  والأحذية ، الوقوع  في غرام   كارمن  الامرأة الجميلة الجذابة  التي  شاركته  الحب  والغرام ،  والذي  اكتشف  بعد  حين  إنها  جاسوسة أرادت  تجنيده  لصالح المخابرات  في بلدها …

يتعرض  للاعتقال والسجن   استمرت لأكثر من شهر ، وفي داخل  السجن  اخذ  يكتب  قصصا تمجد  النازية  وتنسب  أقبح  الصفات  للشيوعية  وللستالينية خصوصا  .   يكتب  تحت  أسماء مستعارة ،    لاقت  قبولا كبيرا  من قبل  السلطات ، وأدت بالنتيجة  الىإطلاق  سراحه وعمله في الصحيفة وفقا  لمبدأ  التكيف الذي  يؤمن  به

((تنامت في رأسي  فكرة التكيف مع الظروف مهما  تجسمت قسوتها  وتناسلت لإذلالي ، ان اجعل من بيت القوقعة على صغره ، فضاء اشبع في جزئياته نزوعي …التكيف يعني  خلق عالم جديد تتمكن  في تفاصيله من السيطرة على ما يواجهكونتعامل بروية مع  من تلاقي…)) ص296.

هكذا تكيف  المثقف ((  هاتف غازي ))  مع المد الفاشي   لينعم  بالحياة .

السفر من فيينا  صوب ألمانيا   عبر القطار

بغيوم رصاصية يتلاطم باردا والسماء متكدرة بغيوم  رصاصية تنذر بمطر ثقيل )) ص299.

نزل موتيل   رخيص  الثمن  (( وجدتُ ألمانيا معسكر تدريب بلاد منشغلة بالتحولات والتغييرات ، بالحماسة والهياج، شعارات تملا الشوارع، أناشيد حماسية  تمجد ألمانيا ، الصحف الورقية والمجلات لا تخلو من صورة هتلر ومقولة مقتطعة من خطاب له )) ص 30.

بعد  ان هده  الجوع  وأضناه التشرد ،  وغطاه الحزن  لمعرفته  بوفاة حبيبته ((دوردانه))،  ورفقته  للإفريقي المشرد  ((واثنغو))  الذي  يتحول  مستقبلا الى ”  كارل ” ، ومضت في  رأسه  تجربته في  بودابست  وكتابته  لمديح الفاشية (( ومضت في راسي ما كتبت في  بودابست من قصص ابان  وجودي بالسجن وكيف نالت اهتمام القراء )) ص 321.

اخذ  يختلق  الأكاذيب  ويؤلف قصصا  مزورة  تمدح  النازية  وتقدح  النظام  السوفياتي ، وكانت  تنشر  مع  تعليق  إعجاب  على الصفحة الأولى  من  صحيفة ((الهجوم))ANRIFF  التي  يشرف  عليها  وزير الدعاية النازي  غوبلز ،  وصحيفة  ((ديرستورمر))  المهاجم ،   مما جعله  يتجرأ على مقابلة رئيس التحرير  الذي رحب  به  كثيرا  وقد  أجزل  له  العطاء واخذ  يعيش  عيشة بذخ  هو  وصديقه  المشرد  الأفريقي   الذي  امن له  عمل  مترجم  سياحي ….

أخذت   الجيوش  الهتلرية  تتدهور وتتكبد خسائر  متوالية (( الفوهرر يندحر في حين تشرشل يرفع علامة النصر … مما  أصبح  وجوده في ألمانيا   خطرا  على حياته   بسبب مديحه  للنازية ، بمساعدة رفيقه  الأفريقي  تمكن من الحصول  على جواز سفر   انكليزي  مزور  ليسافر الى النمسا ،  ويكسب  صداقة الروائي  الشهير (( يوزيف روشا كان )) ص358

ويتوصل  الى قناعه   ان ((التعصب القومي مفتاح الدخول للكراهية)) 359.

تختتم   ((سفر وأسفار ))    هاتف  غازي  بقصيدة لوالت ويتمن  يقول  فيها :-

أيها الغريب

أنتلاتدري كم  انتظرتك  طويلا

أنت من كنت ابحث  عنه، او ابحث  عنها

(هاهو ذا الحلم يأتيني)

أكيد عشت  معك يوما ، حياة فرح كل شيء أتذكر، ونحن نمر يبعضنا

طربين حنونين ، طاهرين ، ناضجين ..

…….

لا أتحدثإليك لكني  فكربك

حين اجلس وحيدا او استيقظ في الليل  وحيدا

علي  ان  انتظر

فاني ملاقيك ثانية

أنا  لا أريد ان  أفقدك )) ص361

ارتحل من  النمسا الى فرنسا  التي تبدوأفضل  من  ألمانيالأنها  استسلمت  دون حرب  طاحنة .. تحدث  عن   سارتر  وموقفه  البارد بخصوص  القضية الفلسطينية  هو  ورفيقته  سيمون دي  بوفار  حيث  يرى الطرفان  ان  من حق  الشعب اليهودي  بدولة قومية  وعلى الشعبين  ان  يتعايشا  بسلام ، كما انه  زار  مصر أيضا   والتقى نجيب  محفوظ   الذي تحدث  عن  رواياته  ومنها روايته   التي  أثارت الجدل ((أولاد حارتنا )) التي  بقيت  ممنوعة من الطبع  والتوزيع  في العديد من البلدان العربية …

وبخصوص  سؤال ((سامي))  لـ  ((هاتف  غازي))   حول حلب ،  ذكر  ان ليس هناك  ماهو  مهم في حلب   رغم انه  عاش  فيها    حوالي  سبع سنوات  قبل  ذهابه  الي  تركيا ،   وتحدث  عن  مومسات حلب ،  وبعضهن في  بغداد

((النظر إلىأمام  خير من النظر الي الخلف ))  ص396

هكذا  يرى   هاتف  غازي  الأمور فلا جدوى من العيش  في  الماضي   بأفراحهوأتراحهلأنه  قد فات  ومضى  المهم الاهتمام بالمستقبل .

كما  انه  اسرَّ  لـ ((سامي))  استدعاء  شعبة الأمن  في الكرادة  له وتحذيره   وانه   بكل  تحركاته تحت أنظارالأمنوإسماعهم  وهي حالة توصيف  بسيطة  لوحشية  نظام البعث  آنذاك

الاهتمام الكبير  بالوقت  وعدم أضاعته  سدى  واصفا الزمن  بالغول

((  من لايصارع  هذا الغول ويصرعه عاش تحت أقدامه ذليلا ))ص425.

وحول برودة  علاقته  بـ كارمن  في بودابست  قال  إنها  كانت تريد ان  تضمه  ليكون عميلا لمخابرات بلادها . وقد كانت  هي سبب اعتقاله  لأنه  لم يستحب  لطلبها .

وهنا  اشارة لما  يتعرض  له الأجنبي من إغراءات   من  قبل  مخابرات  وأجهزة تجسس  مختلف  البلدان في العالم  وخصوصا  من   يمتلك  كاريزما  خاصة ويمتلك موهبة تجعله  شخصية عامة ومؤثرة .

وعن علاقاته بمختلف   الشخصيات التي  صادفها  وعايشها   من  خلال  سفره  ورحلاته   وماهوانعكاسها  عليه  قال:-

((نعم كلهم كانوا رموزا ، عشت معهم وعايشتهم تعلمت  منهم الكثير ، فالحياة كآلة الحاصدة، تلتهم ما تمر به  وتجمعه  في خزانتها ثم  تعزل القش وتحتفظ بالثمر )) ص418 .

وكانت له  أراؤه  ووجهات  نظره  الناقدة مثلا  للثورة الروسية التي   بدأت  بطموحات  وآمال كبيرة وحققت الكثير   لكنها  انحرفت في زمن  ستالين  حيث  قمع  الحريات  وإعدام  وتصفية  رواد  الثورة  والعديد  من  المناضلين الذين  نذروا حياتهم  للحزب  والثورة الاشتراكية  حيث

(( رأى تسلل المنتفعين  والانتهازيين وذوي المصالح الذاتية الي جسد الوطن الروسي. تسللوا  عبر هتافات اعلى من هتافات الصادقين المؤمنين بأفكار  خدمة الإنسان وتجسيد  سعادته))424.

وكذا  هو  (( كان هتلر وجنونه القومي وتطلعاته القومية شحذ وأججوأشعل المعنويات ودفع الألمان للشعور بالسمو ثم أدخلهم حربا مروعة ))  ص425.

كما ان له  راي  واضح في الدين  حيث  يقول :-

(( ليس الدين  هو من يقود الإنسانالي العمل الصالح  إنما القانون … وعندما جاءت الأديان في أزمنة بعيدة كانت هي القانون والقوانين لا بد لها من التغيير والتحول مع المسار الحياتي للبشرية )) ص426.

وعند  زيارته  لغرفته الخاصة  بعد موته  يقول سامي :

(( خرجت وكان بين يدي كتاب أوراق العشب عتيقا اسمرت صفحاته، وخطت تحت اغلب  سطره خطوط حمراء  وزرقاء  وسوداء لم أميز ان كانت خطوط فيكتور أم خطوطه هو ، فقد تماهى الاثنان في شخص ويتمن وظني إنهم الثلاثة ، من كتب الكتاب وجسد  فحواه فعلا وعملا )) ص432

وهنا نرى الأهمية الكبيرة والأثر البالغ   للمثقف  وللأدب  ومنه  الشعر على حياة  الإنسان  بحيث  تصل  الى حد التماهي   مع  شخصية ووصايا  وحكمة الأديب ، وهكذا كان فكتور  وهكذا  كان ((هاتف  غازي)) من بعده ، حيث  أصبح (( أوراق العشب))  إنجيلهم  وكتابهم  المقدس .

هل ((التكيف))  حالة  مقبولة ؟؟؟:-

من خلال  متابعتنا  لشخصية  ((هاتف  نوري))، لاحظنا  انه  شخصية براغماتية ، مرنة  قابلة  للتلون  والاصطباغ  بصبغة  الوسط  والبيئة التي  يعيشها ،  وخصوصا  في  أوربا ،  فهو   العامل المتظاهر  المصطبغ بصبغة  الشيوعي والشيوعية  والمشارك في  التظاهرات  العمالية المستنكرة  اعتقال  القائد  العمالي  الشيوعي  المعروف  ((  جورجي  ديمتروف)) في صوفيا ،  ولكنه  حين  يلقى القبض عليه  في بودابست  يبدأ بكتابة  قصص  ومواضيع   تمتدح  النازية  وتقدح  النظام  الشيوعي     والستاليني ،   مما مكنه من  إطلاق  سراحه   وإعطائه موقعا  مهما  في  احد الصحف  هناك  باعتباره   داعية للنازية  وعدوا  للشيوعية ،  وكذا هو فعله  في ألمانيا   حيث  اخذ يبتدع  قصصا وحكايات  مزورة   تعلي  من شان  الفاشية  والجيش  النازي  وتأخذ من جرف  الاشتراكية والشيوعية والستالينية ، مكنته  من الحصول  على مكافئات  سخية  حتى  من   الزير النازي  غوبلزوإعطائه  عمودا خاصا  في أهم الصحف   النازية في ألمانيا ، كما انه كتب العديد من المقالات  التي تقدح  حكومة بلاده  العراق … رغم ان كل ذلك  خلافا لقناعاته  وبهذا  فهو  يسلك  وفق  مقولة (( الغاية تبرر الوسيلة ))، فغايته  خلاصه  وتنعمه  بعيش رغيد  مقابل  اهانة مبادئه  قناعاته … لاشك ان  هذا الفعل  اسقط الكثير من القامات  الثقافية العربية في مستنقع  الديكتاتوريات  العربية طمعا  في  المناصب  والمكافئات  السخية  ولنا في العراق  العديد  من  هذه  الأمثلة  ومنها الشاعر الكبير ((عبد الرزاق  عبد الواحد )) ومديحه  للدكتاتور رغم جبروته  واستبداده  وهناك العديد  من الأمثلةالأخرى ، فهل طبيعة ((التكيف)) والـ((حربنة)) الحيوانية  قابلة ان تكون   صفة إنسانية ، وبذلك  هل  يلام  المثقف  الذي  صعد  المشنقة  وتشرد وعانى من  الفقر  والحرمان   والتعذيب والأبعاد وضنك العيش لأنه لم يتكيف بما يرضي الحاكم ؟؟؟

فهل يلام ((برونو)) الذي قتل  حرقا ، الذي لم يتكيف  مع سلوك  محاكم التفتيش ، او يلام ((غاليلو)) الذي تكيف معها   فأبقى على حياته ؟؟

هل مثلا يلام ((سلام عادل )) لأنه لميعترف ولم  يهادن ففقد حياته   تحت أبشع صور  التعذيب  والتمثيل  الوحشي ، في حين ينال  الرضا  ((عزيز الحاج )) الذي  تكيف مع الديكتاتورية  وتنازل عن كل مبادئه  وأفكاره ؟

هل ان  هذا التكيف  للمثقف  الإنسان  يعني  استغفال الحاكم  المستبد  او السقوط  في  شبكته القذرة ؟؟

وهل يعطى الحق للمرأة التي تبيع  جسدها وتمتهن  الدعارة من اجل ان  تعيش حياة  باذخة ؟؟

لو ان  كل  إنسان  تكيف  مع   واقع  الظلم  والقهر  والاستبداد   لعمرت الأنظمة المستبدة  لعشرات  القرون ولما  كنا   نفهم معنى الثورة  في كل  العالم ، ولبقيالإنسان  خانعا قانعا  ذليلا تحت رحمة  السلاطين وحواشيهم .

فعندما  يُدجَّن المثقف  تموت  الروح الثورية ،  فالمثقفون  هم   أنبياء العصر  الذين يجب  ان يحملوا  صلبانهم على أكتافهم  لمقاومة  آفة الفقر والتهميش ، ونزعة  التفرد  والاستبداد  للحكام …

كان الكاتب موضوعيا  ومحايدا  حين   اظهر ((هاتف  غازي))  بهذه  السلوكية ، مثيرا  إشكالية كبيرة ، وأحكاماأخلاقية   ربما  تكون غير منصفة بحق   أمثال هذه  السلوكيات  للمثقف  العراقي والعربي خصوصا  في ظل   حكومات شمولية غاية في الوحشية والفاشية .

حبكة محكمة  وسرد متميز   :-

على الرغم  من  كبر حجم الرواية ((437)) صفحة  وتشابك  أحداثها ، وتوزيع الروي  بين شخصيتين رئيستين (( سامي))  و (( هاتف غازي))، وو جود عدد كبير من الشخصيات  الثانوية وفي بلدان   مختلفة ، بين العراق، وسوريا ،  ومصر وتركيا  واليونان ،  وصوفيا  وبودابست ، وفينا ، وبرلين  وميونخ وفرنسا ، تمكن  الكاتب  المبدع  من الإمساك  بخيوط  السرد  بحنكة كبيرة  دون  ان يفلت منه  زمام  السيطرة  وترابط الأحداث  وحضور معادلها الموضوعي  المقنع  تماما ، فجاء نسيجها  رائعا بانسجام ألوانه  وجماليته  التي  تشد القاريء ، تشده المشاهد الرائعة المدهشة للبيئة  بين  سهول  وانهار وجبال  وغابات  وبحار ، ومواقع أثرية  ونصب تذكارية في مختلف بلدان العالم  الزاخر بكل ماهو عجيب وغريب  ومدهش ، عبر لغة شعرية  ساحرة  دالة على المستوى الفكري والثقافي للكاتب  وتمكنه من  لغة السرد   ناهلا من تراكم  ثقافي ومخزون  لغوي كبير  خلّص الرواية  ومفرداتها من التكرار  والفضاضة ، فكانت  منسابة   كانسياب  ينابيع  عذبة تروي  ظمأ القارئ لجمال الشكل  وغنى المضمون

كما ان  الكاتب  تمكن  من وضع  أحداث التاريخ الناطق عبر شخصياته  أمام القاريء ، واضح ان الكاتب   اعتمد على عدد كبير من المصادر  التي تهتم  بتاريخ الشعوب  وجغرافيا   ومعالم المدن  المختلفة  التي  مر بها    شخصيات  روايته    ،كما  انه  تمكن  من  التصوير  الدقيق لشخصياته  حتى انك  تشعر  ان  الشخصية تقف أمامك  بلحمها  ودمها  وبكافة ملامحها  الجسدية  ،  شامتها  ، وشمها  ، غمّازتها ،  طولها   ، لون وشكل  الشعر ،  شكل  الابتسامة ،  كما  انه كان  قديرا  في تأثيث  المكان  بشكل  كامل ، مما  يجعل القاريء  يعيش بيئة وشكل ومكان  وإحساس  الشخصيات ،   ويمدك  بمعلومة هامة   تغنيك بأبرزأماكن   ومعالم  المدينة الأثرية والصناعية والسياحية ، يقودك  الىأسواقها  وحاراتها  ومبانيها الهامة ، مما يدل  ان الكاتب   إمّا  انه  عاش في  هذه  البلدان  وهذه  المدن  او انه اكتنز الكثير  من خرائطها  ومعالمها وكأنه  واحدٌ  من  سكانها ،  مما يجعلك  لا تشعر بالغربة وهو يقودك  الى هذه  البلدان  القصية     …

 استطاع  الكاتب  ان يشدنا  للتعاطف  مع شخصيته  الرئيسية (( هاتف  غازي))  وهو  يتحدى الصعاب  ويجتاز البحار والجبال والهضاب  ليصل  الى محبوبته (( دوردانه))  هذه  المومس التي  كما  أحبها  وتوله  بها  ((هاتف  غازي))  كذلك   أحبها  وتعاطف  مع  روحها  وجسدها  القاريء ،  وهذا  ما تمكن  منه  تماما  مع  صديقه  ((فكتور))  وسائق  التكسي  التركي (( توركت  اوغلو )) و ((كريستينا)) مديرة  الفندق  في  صوفيا و  نادل النادي المغربي في بودابست (( عبدا لله))  وحبيبته الفنانة ((هانا ))  ، وكذا هو الحال  مع  العديد  من شخصيات  الرواية  سواء العراقية والعربية  او  الأوربية منها  ،  مما يمكِّن  هذه  الشخصيات  من الرسوخ  في  ذاكرة  القاريء ، وهذه قدرة كبيرة  لروائي  متمرس ومتمكن  من  حرفته صعبة القياد لغير فارسها ، كما إني وباعتباري  كتبت حول  العديد  من  رواياته أرى ان الكاتب  يتألق كثيرا  في  هذه الرواية  ولاشك انه  بذل جهدا  استثنائيا  في كتابتها  وإخراجها  بمضمونها  وحلتها   هذه …

ولاشك ان الكاتب  كان  شاملا في عرض  شخصياته فمزج  الصعلكة   بالشخصيات من قاع  المجتمع  ، ومن عليته  من أمييه، ومن  مثقفيه  من  الشخصيات  الجادة  والمتزمتة والشخصيات اللاأبالية  حد العبثية ، الشخصيات المحترزة الهيابة والشخصيات  المغامرة  المقدامة ،  الكيسة والمتهتكة ….الخ .

قاريء ((السفر والأسفار)) سيجوب  الكثير من المدن والبلدان ، ويستمتع  بالجميل والطريف ، يطلع  على معالم الحضارة  ، ويشهد مواطن النبل والإنسانية ، كما يشهد نماذج الخسّة والحقارة ، في عالم يعجُّبالمتناقضات ، قيم الخير والشر ،  مواطن الجمال والقبح …  سيرى كل هذا ببطاقة مدفوعة الثمن من قبل  الروائي القدير ((زيد الشهيد )).

____
*عضو الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *