كاظم الركابي وخطابه التشكيلي … السريالية طريق لنقد الواقع

خاص- ثقافات

*قراءة : داود سلمان الشويلي

” إن ضاقت الدنيا بنا
وهي اللئيمة مذ هبطناها
فاطلق نوافير الخيال غزيرة
واهجر لمن يحرص عليها
مشتهاها .” .- الشاعر ابراهيم البهرزي –

“عندما تضعف قوانين المنطق والمعقول تطفو على السطح احلام النوم واليقظة ، فياخذ الابداع مداه الواسع بعد أن تأخذ النفس الحرية من وطأة العالم الخارجي.” .- الشويلي –

في حياة الإنسان اليومية ، منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا ، أمورا تحدث له لا يصدقها عقل ، ولا منطق ، إلا اننا نفسرها ونأولها الى امور اخرى بعيدة عن مآلاتها الاصلية ، لاننا لا نعرف ان النفس البشرية تعمل امورا واشياء خارج نظام المنطق والعقل السوي .
والانسان –اي انسان عاقل – يعيش في عالمين ، احدهما هذا العالم الواقعي المقبول من خلال عقله ومنطقه ، وعالم اخر يشتط به خارج هذين المحددين من العقل والمنطق ، وهو العالم الذي لاتدركه حواسنا وانما ندركه من خارج هذه الحواس ، ومنبعه ما سمي علميا بـ ” العقل الباطن ” ، ذلك العقل الذي يحتفظ بكل ما مر على الانسان من امور منذ الصغر، ويمكن التعبير عن بعض تلك الامور المخزونة بما اصطلح عليه بـ ” الفوق واقعي ” او ما سمي باللغة الفرنسية Surréalisme، اي السريالية التي عنيت بنقل كل احاسيس ومشاعر ذلك العقل المتخفي عن الانظار ، والتعبير عنها ماديا ، والتحلل من واقع الحياة الواعية ، بتحرير الغرائز والرغبات المكبوتة في النفس البشرية،ان كان ذلك في الفنون البصرية ، اوالأدب ، اوالموسيقى ، او الفكر السّياسي ، اوالممارسة اليومية ، اوالفلسفة ، اوالنّظرية الاجتماعية ، اي بصورة جمالية ، او اخلاقية .
والعقل الباطن ، او المخفي ، يظهر ما فيه من امور سجلها عبر عمر الانسان ، اما عن طريق الحلم ( بعضها على شكل كوابيس ) ، او عن طريق اللا وعي الى العالم الواقعي المرئي ، ليقدمه بصورة غرائبية ، متناقضة ، ولا شعورية ، بعيدا عن حقيقة الاشياء البارزة في ذلك العقل ، لانها في الاساس تتعامل مع ما هو مكبوت من امور ، تلك التي خبئت في قم مغلق لا يمكن فتحه الا بواسطة الاحلام والكوابيس.
وقد برزت ” السريالية “اي ” الفوق واقعية ” في الرسم معتمدة على اللون والافكار اللاشعورية التي تمدها احلام اليقظة بكل تفاصيلها ، حيث اهتمت بالمضمون وليس الشكل ، فراحت ترسم تراكيب غريبة غير مرتبطة ببعضها لخلق احساس بواقعتها ، على الرغم من لا واقعيتها ، فخلقت حقيقة بصرية معبرة عن الحالة النفسية الداخلية .
كانت ” السريالية ” حركة انتقادية باسلوب يعتمد الهلوسة ، و الغرائبي من الامور النابعة من اللاشعور،وظهرت على أنقاض الحركة الدادائية ، محاولة اكتشاف اسباب العنف الذي دار في اوربا بعد الحرب العالمية الاولى، وذلك بالغوص في أعماق النفس البشرية ، و اكتشاف العقل اللاواعي ، لمعرفة الاسباب.
في دراستنا هذه نقدم منجز الفنان الفطري كاظم الركابي الذي كان في اغلبه قد اعتمد السريالية كمنهج له لتقديم منجز فني بصري متكأ على ذكرياته ، وافكاره المتولدة من احلامه وكوابيسه ، والذي يضم هاجسا خفيا متجسدا في مجموعة من اللوحات التشكيلية ، تاركا المتلقي في حوار مفتوح مع ذلك المنجز المتسم بالخيالي ، للوصول الى معنى جمالي للحياة يمتع المتلقي ، وهذه غاية الفنون الاسمى .
من ميزات و خصائص السريالية انها تعبر عن خواطر النفس دون التقيد برقابة العقل ، وتؤمن بالحلم و اللاشعور في الابداع ، لانها تنشغل عن الفكر معتمدة على الأحلام و التخيلات ، وتعتمد أساسا على الطبيعية وما تقدمه من موضوعات، لترتقي بها الى ما فوق الواقع .
و اللوحة السريالية تبنى بتركيبة تشكيلية غريبة ، و عناصرها و اشكالها مأخوذة من الطبيعة و الواقع ، الا انها متغيرة متبدلة ، لتكون بعيدة عن الواقع والحقيقة ، مما تدفع بالمتلقي الى ان يراها توحي بصور و تخيلات غريبة ، مليئة بالرموز الغامضة و المعقدة.
تضم اغلب لوحات الفنان الركابي ، كفا معرقة ، ضعيفة غير سوية ، تقوم بحمل شيء ما ، كأن يكون فرشاة ، او كأس ، او ان تقوم بحركة ما ، ولا اريد ان افسر ذلك لاسحب البساط من تحت اقدام المتلقي ، بل اتركه هو وما يرى في اللوحة من افاق تنتجها وقت رؤيتها.
ان منجز الفنان الركابي يمكن ان نقسمه الى قسمين ، الاول هو ما انتجه حسب رؤيته السريالية ، والثاني هو رسمه للموضوعات الشعبية بواقعية لا تخلو من سريالية ، كما في اللوحة رقم ” 4 ” التي ضمت شخصين شبه نائمين يركبان “بلم “، ويحمل الرجل بندقية ، فيما المرأة ماسكة سلة التسوق المليئة ، وهناك باب المضيف المليء بالضوء دلالة على الامل ، ومازالت ثيمة الاكف المعرقة موجودة في اللوحة .
هذه اللوحة تبرز التناقض الواضح بين الهدوء الذي يخيم على اللوحة ، والمرأة المحتمية بالرجل وبيدها السلة ، وبين الرجل الحامل للبندقية، والمتوجس خيفة من المجهول ، مع ترك باب الامل من خلفه مفتوحا.
و اللوحة ” 5 ” التي تمثل رجلا وبكلتا يديه يمسك بالنخلة ، ومازالت الاكف المعرقة الثيمة الرئيسية للوحة، فهو موضوع يمثل التمسك بالارض وما تنتجه .
وكذلك اللوحة ” 6 – جفاف الاهوار” التي موضوعها رجل وامرأة بينهما يقف تنور مكسور ، وعينان جاحظتان مفتوحتان في اعلى اللوحة، وفتحتا انف شبه مسدودة ، وهناك في نهاية المضيف شبه المهدم باب مظلم سوى بصيص ضوء خافت ، وكأنه فم مفتوح يلتهمهما بالفقر والعوز ، و في نهايته بصيص امل ، وما زالت الاكف المعرقة الثيمة الرئيسية التي يستخدمها الفنان، وهذه اللوحة تمثل الفقر الذي يعيشه الشعب في زمننا الحاضر.
في اللوحات هذه ثمة رجل وامرأة ، الا اننا نرى في اللوحة رقم ” 5 ” بدلا من المرأة نخلة دانية قطوفها تعبيرا عن العطاء الذي تعطيه هذه النخلة كما المرأة في اللوحتين الاخريتين .
اما مواضيع اللوحات السريالية فقد تنوعت ، وتعددت ، الا انها لا تخرج عن الواقع الذي يعيشه الفنان ، كل لوحة من منجز الفنان لا تشبه الثانية ،حيث تعد كائنا مستقلا يؤل الى ما يعنيه ، ويصل بالمعنى الخاص للمتلقي .
راح الفنان يلعب على الجسد الادمي ويظهره بكل غرائبية ، مما يدعو المتلقي الى الادهاش ، أو لنقل الدهشة البصرية ، حيث راح الفنان يهدم الجسد البشري ، ويجعله في حالة تآكل مستمر،حسب مخيلة الفنان الواسعة.
في لوحة رقم «1» ( رحلة الذات ) استخدم الفنان اللون الاخضر الغامق في فضاء اللوحة العلوي، فيما رجل ، او شبح رجل ، يتخذ له وضعية ما ، وقد غطى جسده المبتور في اماكن عديدة ، ما يشبه لحاء الشجرة الاخضر اللون ، وقطرات حمر تدلت من جسده ، وهناك انبوبة الوان خاصة باللون الاخضر قد خرج منها صبغ بلون احمر.
ان تقديم الرجل بهذه الوضعية ، وهذه الحال ، هو نقد صريح للواقع الذي اوصلنا الى ان نكون كذلك ، باسلوب فيه من الغرائبية الكثير ، ومن الهلوسة المدعومة بما في خبايا العقل الباطن من صور واشكال كثيرة .
انه يمثل استمرارية الفن رغم كل الصعوبات ، والمحن التي رافقته ، الا انه ظل صامدا يقدم الافضل والافضل .
وفي لوحة رقم ” 2 ” ( صراع الذاكرة ) نرى انسان في حالة صراع مع النفس ، و الم وتوجع ، وهو يقطع من جسده اجزاء ، فيما امامه مائدة فيها رطب وخبز ، وقد توضحت الكف المعرقة ، الثيمة الرئيسية في اغلب لوحات الفنان ، وقد طغى عليها اللون الاخضر ، لتدل على بقاء الارض الخضراء، وما تقدمه من خيرات ، على الرغم من موت الانسان شيئا فشيئا في سبيلها.
في اللوحة رقم ” 3 ” ( اللوكيميا ) جسد امرأة متآكل ، وقد بان الهيكل العظمي لها ، وظهرت صورة وجهها من داخل حوض الورك ، والعيون ، رغم كبرها ، فانها عليلة ،تعبة ، كل عين بلون ، وفي الاسفل بان هناك ما يشبه الحوض ، او القبر الفاغر فمه لاستقبالها ، انه الموت الحتمي لهذه الشخصية المصابة بالمرض الذي جلبته لنا الحروب.
في اللوحة ” 7 ” التي انجزها الفنان بمناسبة ذكرى وفاة الشاعر عقيل علي ، فتحمل اكثر من رمز .
قطعة القماش الاخضر المطوية على المائدة ، ترمز الى انطواء ، وانطفاء ، حياة الشاعر الذي طار بجناحين الى السماء وترك ادوات كتابة القصيدة ، كالورقة والدواة والفرشاة التي تحملها كف معرقة ، وقد اندلق الحبر الازرق من الدواة على الكف .
انها صورة غرائبية رامزة الى حياة كل اديب يموت ليترك من ورائه هذا الفيض من النتاجات الادبية
ان ما يتركه الفنان من غموض في اللوحة هو لكي يدفع المتلقي الى النقاش والحوار معها ، ومن هذا الحوار والنقاش تأتي المعرفة والمتعة.
فمن المخيلة التي تنبش في لاوعي الفنان ، مرورا بالدهشة التي تأخذ بتلابيب المتلقي الخاص والعامي ، يقف منجز الفنان كاظم الركابي التشكيلي ليحرك فينا نحن المتلقين وعينا المدرك ، ولا وعينا في الان نفسه ، ويجعلنا نعيش في حالة نقاش ومساءلة لهذا المنجز الفني في ما تريد ان تعبر عنه اللوحة من الواقع الذي امامنا ، انطلاقا من الواقع الذي تحدده نفس الفنان في حالة اللاوعي ، والتي تقدم لنا فيضا من الاحلام غير السوية والكوابيس ، مع ان الاحلام لا توصل الى المعرفة ، وانما هي اسقاطات وتراكمات الوعي المخبئ.
ان ما قدمه الفنان الركابي يعتمد على التعبير بالألوان عن الأفكار اللاشعورية التي تبرز الى سطح الوعي ، والإيمان بقدرة الأحلام، فتنتج عند ذاك التركيبات الغربية لأجسام مرئية غير مرتبطة ببعضها البعض ، لخلق إحساس في ذهن المتلقي بعدم الواقعية لاعتمادها على اللاشعور.
نجد الفنان الركابي قد اعتمد المضمون وليس الشكل ،ولهذا نرى لوحاته غامضة المعنى ومعقدة التركيب، لهذا تبقى منبعاً تشكيليا لاكتشاف رمزية تحمل مضامين فكرية وانفعالية ، تلك الانفعالات التي تقدمها لوحة الفنان الركابي تظهر ما خلف الحقيقة البصرية الظاهرة للعيان.
ان منجز الفنان الركابي يعتمد اساسا على تحليله للنفس الإنسانية السوية ، وما يحصل في لاشعورها واحلامها، لتحرير كل الغرائز الإنسانية والرغبات المكبوتة ، لاشباعها ، وقد افتتح قبل ايام معرضه الشخصي على متنزه مدينة الناصرية ، وهذه الدراسة هي تحليل لبعض لوحاته التشكيلية.

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *