خاص- ثقافات
*عزالدين بوركة
-
عن الجماليات أولا:
يخبرنا المفكر الفرنسي إدغار مورانEdgar Morin أن “الجماليات قبل أن تكون صيغة خاصة بالفن، فإنها معطى أساسي في الحساسية الإنسانية”[1]. فالفعل الجمالي هو فعل إنساني بالضرورة، هو فعل واع بذاته، فالحيوانات وإن تستغل جمالياتها وتتفاعل مع الفعل الجمالي بغاية جنسية أو غريزية وتكاثرية وليس الأمر عندها، متعلقا بالوعي.. إنها الغريزة تُعبّر عن نفسها فقط. فالإنسان يتفاعل والجمال عبر وعي ولاوعي إنه يجعل منها أمرا ضروريا، خارج نزعاته وغرائزه وأيضا خارج مقدساته وعبادته في أحايين كثيرة.
فالجماليات ترتبط بالضرورة بدواخل الكائن الإنساني وتطوره بعيدا عن الغابوية والنزعوية الغرائية، إنها تعبير عن أحاسيسه وعواطفه والعالم المحيط به كما عالمه الجواني، بل “إن الجمال في الطبيعة لا يظهر إلا كانعكاس للجمال الذهني”، حسب ما يُعبر عنه هيغل. ولا يتعلق الفعل الجمالي والجماليات بالألوان والخطوط والطبيعة وما يتعلق بها فقط، إنه فعل كوني نتحدث عنه في الأدب والموسيقى السينما والشعر والقصة والكتابة وغريها، حتى في الألبسة والذوق والمعمار وهلم جرا… فبالتالي يصير مفهوم الجمال أكثر تعقيدا وتشابكا وتفرعا أكثر مما يمكن التفكير فيه…
يذهب إغار موران ليقول أن “الشعور الجمالي هو إحساس باللذة والعشق”[2] كأني به يذهب -هذا المفكر- للقول بذات القول الصوفي الرائي بأن مع الارتقاء في العشق يختفي كل ما ليس جماليا، لبلوغ مطلق أي الذات الإلهية، “ويتخذ الصوفية من الجمال الحسى درجا يرقون به إلى معرفة الجمال المطلق” عن طريق شفافية الرؤية ورقة الذوق، إذ “تصير النفس جميلة بقدر ما تشبه بالله”، إنه يصير الجمال “حقا” إذ كما هو الحال عند هيجل “إن الجميل من إنتاج الفكر ولذا فهو حق”.. فصانع الجمال، فنانا كان أو كاتبا أو غيرهما، يبحث عن مشاركة المنتوج الجمالي عل أكبر نطاق.. إنه يبحث عن تقاسم فعله الشاعري، باعتبار أن كل فعل جمالي هو فعل شاعري.. فالشاعرية لا ترتبط باللغة فقط والشعر، إنها متواجدة في الكون وتتناغم معه، إنها موجودة في الطبيعة بالضرورة.
أدرك الفنان المغربي هذا المُعطى منذ العقود الأول من القرن المنصرم. فراح يبحث عن أشكال جمالية متعددة ليخلق شاعرية لوحاته/ نتاجه /أثره الجمالي (الفني)، مما أمكن للأثر الفني oeuvre artistique لديه من أن يعرف تطورا عل مرّ العقود.. إدراك عائد إلى ذلك لاحتكاك بالأب الغربي، والثورة عليه، بالعودة إلى التراث والعمل عليه، للبحث عن نتاج فني ببصمة مغربية خالصة. لكن ليس عبر العودة والتقوقع والانغلاق لكن عبر مساءلة هذا التراث والبحث داخله عل ما يمكن أن نصطلح عليه ب”الموروث الجمالي”. قد عمد فنانو ما بعد الشرقاوي والغرباوي إلى الانزياح بعيدا عن “اللوحة-الحامل”، اللوحة بمعناها الكلاسيكي، وراحوا يبحثون عن أشكال جمالية غير اعتيادية وتوظيفات غير مسبوقة، والحالة هنا على سبيل الذكر لا الحصر فريد بلكاهية وتوظيفه للحناء والنحاس وغيره من الفنانين الذين اشتغلوا على أسندة supports غير القماشة وتوظيف تقنيات متجددة، ولو أنه لم يتم الثورة على اللوحة والصباغة والتصوير الصباغي كما سيحدث مع بعض الفنانين المعاصرين مما أدرجهم ضمن ما أصطلح عليه ب”الحساسية الجديدة”. جيل جديد من الفنانين كسروا قيود اللوحة، ولو على قلتهم، ووظفوا أجسادهم أو تقنيات مدارس معاصرة للتعبير عن رؤياهم تجاه الواقع والعالم وذواتهم، من فن الفيديو وفن الشارع والإنشاء الفني installation والبيرفورمونس performance وغيرها من الفنون المعاصرة، مما سنح للفنان أن قدم معانٍ خاصة به حول العالم والعمل الفني.
-
عن الجسد الصورة:
بادئ ذي بدء يربط مؤرخو الفن ظهوره بأرض الغرب (الأقصى) لأزمنة الإنسان ماقبل التاريخ، ومعه انطلق أول الصور التي خلّدت للإنسان وجسده وعلاقته بالعالم الخارجي.
أخذ الجسد عدة تمثلات في الفلسفة والفكر، سيميولوجيا وسيكولوجيا وميتافيزيقيا… اليوم نشهد على “عصر الصورة” أي بمعنى آخر أكثر تحديدا عصر “الجسد والتجسيد”، -وإن يسميه البعض بعصر ما بعد المكتوب، أو تجاوز المكتوب، أو مجتمع الفرجوي-… إذ “نلاحظ اليوم كيف ترسم لنا حضارة الصورة (أي حضارة الجسد) الجسد المثالي الذي ينبغي أن نرغب فيه إلى درجة أننا نستلب في رغبة ليست رغبتنا أصلا، وهذا ما يوضح رولان بارث عندما درس سيميائية جسد الإشهار، واستخلص عارضة الأزياء –أو عارضة الجسد- لا تعرض جسده حقا ولا جمالها، وإنما تقدّم شكلاً محضاً أو نموذجا تم ضبطه بصفته مسبقة ومجرّدة حيث ينحل المحسوس في الدال”[3]. فالجسد اليوم خرج عن طابعه القدسي المحرم إلى دال، لقد صار أداة جمالية، فقد تحرر الجسد في زمن الصورة وصار أكثر تمظهرا لقد تخل عن ستائره وخرج إلى العلن، إنه يعبر عن نفسه أكثر مما نعبر به.
إننا نقول بأجسادنا أكثر ما نقوله باللغة، إننا نعبر بأجسادنا كلما أردنا أن نعبر عما لا يُقال باللغة، إن الجسد يقول أكثر ما تقوله اللغة أحيانا، يأخذ مكانها أيحانا ونستبدلها به حينما نعجز أمام التعبير بها، إنه لغة خفية تظهر عبره. وإنه دليل وجودنا في العالم إنه كما تعتبره الفينومينولوجيا ضامن لوجودنا، إننا موجودون بالجسد، لهذا اتخذه فنانو “زمن الصورة” أداة للتعبير الفني عبر فن الاستعراض والتمسرح وفن الأداء، لقد خرج الجسد إلىى الشارع ولن يعود منه، وأخرج الفن من المتاحف وجدرانها التي بقية شبيهة بجدران الكهوف (باردة وجافة).
لقد استعمل إنسان الكهوف بأرض المغرب جدران الكهوف (والصخور) أسندة لصوره، التي كانت عبارة عن سيلويت silhouette للكائنات التي احتك بها واصطادها وصارعها… هذا بالإضافة إلى صور اليد كلامة ورمز ودال وجودي، تتخذ اليد في التمثل الشعبي المغربي طابع الحماية من الأذى، إنها أداة الوقاية من مصدر الموت إلى جانب القدر “العين”، إنها حافظت على طابع الخُلود. واستعمال الفنان المغربي لليد في رسوماته ما هو إلا محاولة لنقل هذه الميتافيزيقا إل مستو ميتافيزيقي آخر، من القدسية والإيتيقا إلى الاستتيقا. من اللامعبر عنه إلى المعبر به. من اللاوعي إلى البصري.
لقد اتخذ التجسييد في الفن المغربي تطورا وفترات فتور، فبعدما كانت البيت والزرابي الأمازيغية تجمّل فضاءها برسومات وتجسييدات لحيوانات وشخوص بشرية، قد تحمل طابعا قدسيا، فمع ظهور الإسلام وتحريم التجسييد والرسم اضمحلت تلك الرسومات إلى أن اختفت وتلاشت، ولكن ولأنه لا يمكن أن نمحو الماضي كاملا فقد ظلت النسوة يوشمن وجوههن بأوشام كانت تعبيرا عن جمال وبهاء جسد المرأة، يُقاس اليوم بمساحيق التجميل؛ وقد تم اتخاذ التوريق (من أوراق النباتات) تعويضا عن التجسييد الحيواني، واتجه الفنان المغربي، أو لنسميه الصانع، إلى الزخرفة، والأشكال الهندسية حيث سيفرغ ما طاله من تحريم للتشخيص، فظهرت العربسات arabisques والنقوش والزخارف الهندسية، كما هو ملاحظ في المجاسد والدور القديمة، وعكس بعض بلدان المشرق والفرس، ولأن مذهب التشيّع لم يكن بالقوة التي كان بها الاتجاه السلفي السني، ولو أنه مر على الحكم بالمغرب فترة تشيع مع الفاطميين إلا أنها لم تهتم بفن التصوير كما الحال ببلاد فارس وغيرها ممن حافظوا على الرسم وعدم الأخذ بأحاديث التحريم التي جاء بها البخاري وغيره لعدم إيمانهم بهذه الكتب، فقد حرّم السلفيون الرسم استنادا لأحاديث نبوية -على خلاف صحتها وضعفها- (عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ : أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) . رواه البخاري في صحيحه (5607) ومسلم في صحيحه (2108)) وعن البخاري في صحيحه (وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت : قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ (5610))…. مما دفع الفنان المغربي -كما المشرقي- لتسطيح وتبسيط وترويق وتنميق الأجساد ورسمها عبر أشكال هندسية رياضية تتخذ من التماثل المحوري أساسا لها. إلا أنه يُرجَّح أن أشكالا معمارية جعل منها فنانوها إيحاءات جنسية وجسدية، كشكل القبة الذي يوحي بثدي المرأة أو الصومعة التي قد تشيد إل الذكر (القضيب)… فبفعل الصراع بين ثنائية التحريم والتحليل وجد الفنان المغربي ما بعد ظهور الإسلام (السلفي بالخصوص)، عكس الفنان المسيحي، أن ملزم على التعبير بالإيحاء.
وقد اتخذ فنانون محدثون مغاربة الإيحاء طابعا لأعمالهم، فها بلكاهية في مجموعة من منحوتاته النحاسية ومجسماته الجلدية… يتخذ من الإيحاء الجنسي طابعا لها.
-
ختاما: