«بلزاك والخياطة الصغيرة» …انتصار السرد على الأيديولوجيا

*د.أمّ الزين بنشيخة المسكيني

هناك في جبل فينيق السماء، في مكان شاهق لا تطاله غير «الطيور الخرافيّة»، عاش كلّ أبطال الرواية، رواية «بلزاك والخيّاطة الصغيرة» لصاحبها ديه سيجي. ولأنّ المكان شاهق جدّا وبعيد جدّا عن لغتنا وعن أبجديّتنا الحرفيّة، كتبت الرواية بلسان فرنسي، فطارت أحداث جبل الفينيق الصينيّ إلى حروفنا تدعوها الى ضرب من «إعادة التأهيل» لا تحت رقابة «المأمور..بعينه اليسرى..وقطرات الدم الثلاث»، بل بقوّة السرد على تحرير الحياة حيثما يتمّ منعها واعتقالها. لكن لماذا بلزاك تحديداً ؟ ربّما هي محض صدفة أدبية، في عالم سردي لا شيء فيه ضروري غير «ضباب كثيف ومشؤوم» وفي مكان أشبه «بالركن المجهول والموحش». كتب الروائي: «..عند عودتنا أعطانا (بينوكلار) كتاباً صغيراً ومتهالكاً. كان أحد مؤلّفات بلزاك».

بلزاك والخيّاطة الصغيرة، هو عنوان الرواية الأولى للكاتب الصيني المتكلّم باللغة الفرنسية ديه سيجي، ونشرت بمنشورات غاليمار سنة 2000 وترجمت إلى أكثر من 25 لغة، ومنها اللغة العربية، من طرف محمد أحمد عثمان بتاريخ 2010. تدور أحداث هذه الرواية في أحد ضواحي سيشوان في قرية جبلية تسمى جبل فينيق السماء. وهي تصوّر قسوة وفظاعة نمط الحياة الذي فرضه النظام الشيوعي في عهد ماوتسي تونغ إبّان الثورة الثقافية التي استهدفت المثقّفين وفرضت نظام ما يسمى بإعادة التأهيل. وضمن إعادة التأهيل، يقع إرسال المثقّفين إلى القرى النائية كي يتدرّبوا من طرف الفلاّحين على المهن الزراعية والصناعية الشاقة، من ذلك زرع حقول الذرة والعمل في مناجم النحاس.

وفي هذا السياق، يولد أبطال الرواية: السارد وصديقه (لو) يصلان إلى قرية بعيدة عن مدينتهم «شنجدو عاصمة مقاطعة سيشوان..البعيدة عن بيكين لكن القريبة جدّاً من التبت». ما يجمعهما صداقة حميمة، خاصّة أنّهما يعتبران ابنين لألدّ أعداء الشعب. (لو) شخصية أساسية هو ابن لطبيب أسنان مشهور «قام بتركيب أسنان صناعية لماوتسي تونغ ولعقيلته وأيضاً لجيوجنج جيشي رئيس الجمهورية السابق على استيلاء الشيوعيين على السلطة». وتهمته أنّه قد صرّح بهذا الأمر للعامّة: «أنّ القائد الأعلى للثورة يضع طقم أسنان صناعية. ياله من فعل يفوق كلّ جسارة. إنّها جريمة.. لا تغتفر، وأسوأ من إشاعة سرّ يتعلّق بالأمن القومي». أمّا السارد فهو أيضاً ابن لطبيبين: أبوه طبيب أمراض رئوية وأمّه متخصّصة في الأمراض الطفيلية. السارد الذي اختار ضمير المتكلّم «أنا» هو و(لو) لا نعرف عنه شيئاً غير أنّه يعزف على الكمنجة ويعشق قراءة الكتب الممنوعة.

رتق الإنسان

بلزاك والخيّاطة الصغيرة: عنوان مثير لرواية تجمع بين الخياطة والكتابة، خياطة ما تمزّقه الدول من إمكانيات سعادة سكّانها، ورتق ما تبقى من الإنسان في قرية لا شيء يؤثّثها غير «الإحساس بالكآبة والألم والعجز»، وحيث لا طريق غير «درب ضيّق يمرّ بين الكتل الهائلة من الصخور الناتئة ذات السنان والأطواد». لا شيء هناك غير بيئة فقيرة مادّة وروحاً وإنّ فقراً روحيّاً لهو الأدهى والأمرّ. شحّ وتقشّف في كلّ أسباب العيش، بحيث تُكتب الرواية في منزل «لم يكن بالمكان الملائم للعيش»، حيث الحياة فيه «أسوأ من العيش في قعر قبو». في وحشة هذا المكان، يكتفي السارد بالدرجة الصفر من كلّ شيء: حتى الأسماء عنده قليلة، إذ يكتفي بتسمية صديقيه من المدينة، (لو، وبينوكلار) أمّا سكّان القرية فهم مجرّد وظائف في مكنة الدولة: الخيّاطة الصغيرة والطحّان العجوز والمأمور، هم حزمة من الوظائف لا أسماء لهم غير ما تريده الدولة منهم. لا شيء تبقى من البشر في قرية الفينيق غير خياطة لخياطة الملابس وطحّان لطحين الذرة ومأمور لمراقبة الجميع وللوشاية بهم إلى البوليس عند أدنى دليل على اختراق حدود الممنوع. في هذا النسق الرمزي من «اللغة القليلة»، كلّ شيء ممنوع في هذه البيئة: الموسيقى والأدب والحبّ.

لكن الأدب الذي «يتّخذ على عاتقه ما يزعج في العالم»، وفق عبارة رشيقة لرولان بارط، سيكون ههنا بمثابة الخلاص أو هو إعادة تأهيل مضادّ لتأهيل الدولة. وهو ما تراهن عليه هذه الرواية: قصّة حبّ بين (لو) والخياطة الصغيرة، تولد من السرد، بحيث كان (لو) يتردّد على الخيّاطة في نوع من «حجّة الجمال»يقرأ عليها رواية لبلزاك. وانتهت المغامرة العاطفية هذه بحمل وقع إجهاضه، لكن الخياطة تقرر في آخر القصّة مغادرة كل ذاك العالم القبيح الضيّق الذي لم يعد يتّسع لقلبها الصادق، فلقد تعلّمت من حكاية «فتاة الزهور» التي أثّرت عميقاً في كل سكّان القرية، أنّه «بوسع قلب صادق أن يجعل الحجر يزهر».

سرد القمع السلطوي

تنفتح الرواية على «مأمور القرية» وهو بصدد تفتيش أمتعة «ابني المدينة…الهشّين، النحيلين والمتعبين..بعد نهار من السير على الجبال». والمثير في طقس التفتيش البوليسي هذا، هو تركيز المأمور على «الكمنجة» بوصفها «هي الموضوع الوحيد الذي يفوح بنكهة غريبة تمتلك خاصية إيقاظ الشكوك: رائحة المدينة». ماذا يريد مأمور شيوعي من آلة موسيقى؟ إنّه يفتّش فيها عن أدلّة إدانة. فالشخص هو دوماً موضوع إدانة في ظلّ هذا المناخ السياسي الموحش. ووحشية السلطة تكمن ههنا في منطقة روائية جدّ مثيرة. إنّها عين المأمور. لا شيء تملكه هذه الشخصية لا اسماً ولا قامة ولا وجهاً، فالمأمور يعبر إلى السرد فقط عبر عينه اليسرى. يقول الكاتب «لمحت في عينه اليسرى ثلاث قطرات دم»، ولسوف تصاحبنا هذه العين بقطرات الدم المخزّنة فيها إلى آخر الرواية، وكلّما ظهر المأمور إلاّ وظهرت معه قطرات الدم في عينه اليسرى. فالرواية مكتوبة بدماء من وقع اضطهادهم وتحويلهم إلى أدوات عمل في مكنة أيديولوجية مخيفة.

تبدأ المواجهة إذن بين سلطة المأمور وآلة الكمنجة. والمشكلة هي: كيف يقع تحرير الموسيقى من الاضطهاد؟ فكل الموسيقى الغربية قد وقع منعها. بحيث تبدو آلة الكمنجة أمراً مثيراً لارتياب القرويين الذين جاؤوا جميعاً للمشاركة في الدرس الأوّل من إعادة التأهيل: أي نزع الفرد كل ملكية خاصّة وتحويله إلى نوع من «البقرة البلهاء» التي لا تعرف عن العالم غير «حمل الروث» وزرع حقول الذرة واستخراج النحاس من الجبل. في هذا المشهد المريب لكمنجة ممنوعة ولشابّين من أبناء «أعداء الشعب»، يحكم المأمور على هذه «اللعبة البرجوازية الآتية من المدينة» بالحرق. قال «لا بدّ من إحراقها». لكنّ السارد سيخترع حيلته الأولى في التمسّك بالوجود رغم أنّ كلّ شيء هنا يوحي بالموت. الحيلة هي عزف أغنية واسمها «سونات لموزارت». ومادام مجرّد النطق باسم موزارت مثيراً للريبة، كان على السارد أن يخترع لقباً مناسباً للمأمور صاحب «انتباه مكثّف لشيوعي قحّ». قال فورا «موزارت يؤمن بالزعيم ماو». وذلك لأنّ كلّ من لا يؤمن بهذا الزعيم فهو محلّ إدانة. والمثير هنا هو أنّ الرواية لا تنفكّ عن التأكيد على «أنّ كل أعمال موزارت أو أيّ موسيقي غربي آخر ممنوعة في بلدنا» أو باستثناء «الكتاب الأحمر الصغير لماوتسي تونغ..كل الكتب الأخرى ممنوعة».

والسؤال المقلق ههنا: أيّ معنى لثورة ثقافية يقع فيها منع كل الكتب الأيروتيكية والدينيّة، الكلاسيكيّة الصينية والغربية..؟ والإجابة هي: «كان (ماو) يكره المثقّفين». في هذه البيئة من الكراهيّة، كراهيّة الموسيقى والأدب والدين، يقع إعادة تأهيل أبطال الرواية، هؤلاء «المثقفين» الآتون من المدينة وهم ثلاثة: السارد في ضمير المتكلّم و(لو) ابن طبيب الأسنان الذي لامس أسنان الزعيم، و(بينوكلار) ابن كاتب وشاعرة. وهذه الشخصيّة الثالثة هي الشخصيّة المحرّكة للحبكة الرمزية العميقة للرواية: إنّه صاحب «الحقيبة الجلديّة السريّة». أمّا الشخصيّة الرئيسة التي تمسك بكل الخيوط السريّة للرواية، فهي (الخيّاطة الصغيرة) التي تحرّرت بالسرد من عالم منع الكتب ومنع الحياة الفردية، ومنع المتعة بالجمال نفسه..

إنّ أهمّ ما يثيرنا في هذه الرواية هو موقع الأدب نفسه بما هو قدرة على تغيير الأفراد وتحويل وجودهم إلى وجود قابل للسكن. كل الرواية قائمة على ما سمّاه «إعادة التأهيل البلزاكي» نسبة إلى رواية لبلزاك، هي التي ستغيّر الخياطة الصغيرة من فتاة جبلية إلى فتاة مثقّفة. وهو ما تقرّ به الخياطة الصغيرة «كانت الروايات التي يقرأها (لو) عليّ تخلق فيّ الرغبة في الارتماء في مياه السيل الطازجة..لأنّني كنت أتحرر من قيودي دفعة واحدة». وكان (لو) الذي يحجّ إلى الخياطة كل يوم كي يقرأ عليها رواية بلزاك، يقول حينما سرق هو وصديقه السارد حقيبة الكتب الممنوعة من صاحبها (بينوكلار) «كما لو كان مسيحيّا يؤدّي قسماً» ما يلي: «عن طريق هذه الكتب سأغيّر الخيّاطة الصغيرة. لن تبقى مجرّد جبلية بسيطة». ويقول أيضاً «ساحر حقيقي، هذا العجوز (بلزاك). لقد وضع يداً لا مرئيّة على رأس هذه الفتاة جعلها تتبدّل كلّية..»، وفعلاً لقد غيّر بلزاك وجود الخيّاطة وجعلها تقرّر المغادرة. وتوحي الجملة الأخيرة التي جعلها السارد على لسانها بحكمة عميقة: «قالت لي أنّ (بلزاك) جعلها تفهم شيئاً واحداً: أنّ جمال المرأة كنز لا يُقدّر بثمن». لقد نجح بلزاك اذن في إعادة تأهيل الخيّاطة من أجل شكل جديد من الحياة، حيث تكتشف أنّ الجمال، جمال المرأة وجمال الحياة هو كنز لا يقدر بثمن. كلّ الأحداث في الرواية جاهزة تماماً لاستدعاء قوة السرد من أجل الخلاص. فبالأدب «بوسع المرء أن يصارع العالم بمفرده». وهو ما تشهد عليه هذه البيئة السرديّة المثيرة، حيث يمتزج فيها الخوف والكآبة بالركض وراء الممنوع. وتكثر فيها الأمطار بأنواعها الناعمة والغزيرة والرعدية. لا شيء من النور حتى الشمس تكاد لا تشرق البتّة. فقط مصباح الكيورسين يصاحبنا في كلّ ثنايا الرواية الصخرية، كما لو كنّا نجول في سرداب منجم النحاس، حيث «الأحجار تنذر بالسقوط في كلّ لحظة». تبدأ الرواية وتنتهي على مشهد النار التي تهدد الكمنجة بالحرق في فاتحة الرواية، ثمّ تنتهي بمشهد حرق الكتب كما لو كانت قرباناً من أجل الحريّة. حرق الكتب هنا له أكثر من رمزية: هي التي حرّرت الخيّاطة من كل قيودها وجعلتها تغادر ذاك العالم الذي لم يعد يتّسع لجمالها. لقد انتصر السرد أخيراً على قيود أيديولوجيا الدولة، وهذا وحده جميل جدّا.

عين المأمور

تنفتح الرواية على «مأمور القرية» وهو بصدد تفتيش أمتعة «ابني المدينة…الهشّين، النحيلين والمتعبين.. بعد نهار من السير على الجبال». والمثير في طقس التفتيش البوليسي هذا، هو تركيز المأمور على «الكمنجة» بوصفها «هي الموضوع الوحيد الذي يفوح بنكهة غريبة تمتلك خاصية إيقاظ الشكوك: رائحة المدينة». ماذا يريد مأمور شيوعي من آلة موسيقى؟ إنّه يفتّش فيها عن أدلّة إدانة. فالشخص هو دوما موضوع إدانة في ظلّ هذا المناخ السياسي الموحش. ووحشية السلطة تكمن ههنا في منطقة روائية جدّ مثيرة. إنّها عين المأمور. لا شيء تملكه هذه الشخصية لا اسما ولا قامة ولا وجها، فالمأمور يعبر إلى السرد فقط عبر عينه اليسرى. يقول الكاتب «لمحت في عينه اليسرى ثلاث قطرات دم»، ولسوف تصاحبنا هذه العين بقطرات الدم المخزّنة فيها إلى آخر الرواية، وكلّما ظهر المأمور إلاّ ظهرت معه قطرات الدم في عينه اليسرى.

حياكة الكتابة

بلزاك والخيّاطة الصغيرة : عنوان مثير لرواية تجمع بين الخياطة والكتابة، خياطة ما تمزّقه الدول من إمكانيات سعادة سكّانها، ورتق ما تبقى من الإنسان في قرية لا شيء يؤثّثها غير «الإحساس بالكآبة والألم والعجز»، وحيث لا طريق غير «درب ضيّق يمرّ بين الكتل الهائلة من الصخور الناتئة ذات السنان والأطواد».

________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *