نساء الأخوين وانلي وشخوصهما المدهشة

*أسامة فاروق

معرض جديد أو دراسة عن الأخوين وانلي، حدث يستحق التوقف، وفرصة لإعادة النظر في ما قدمه هذا الثنائي الفريد في الحياة التشكيلية المصرية.

ولد محمد سيف الدين إسماعيل وانلي العام 1906 وبعده بعامين ولد أخوه إبراهيم أدهم وانلي، ومنذ ذلك التاريخ أصبح الأخوان متلازمين، يعملان حتى رحيل أدهم وكأنهما شخص واحد.

أهمية الأخوين وانلي تتجاوز مقولة أنهما يمثلان الانفتاح البكر على فنون الحداثة الأوروبية بمدارسها المثيرة للجدل، والملهمة لحركات فنية جديدة على مستوى العالم منذ أوائل القرن العشرين، مثل التكعيبية والتجريدية والوحشية والدادئية والسريالية والمستقبلية، كما يقول الفنان عزالدين نجيب، إلى أن يكونا بمثابة “عاصفة فنية” هبت على حالة الجمود الأكاديمي للفن المصري في أواسط الثلاثينات من القرن الماضي.

ورغم هذا فهناك ندرة ملحوظة في الدراسات التي تتناول أعمالهما، ودورهما وتاريخهما الكبير. ويعتبر أشهر ما كتب عن الثنائي، كتاب “الأخوان سيف وأدهم وانلي”، لمؤلفيه كمال الملاخ وصبحي الشاروني. لكن مؤخرا وضمن سلسلة “ذاكرة الفنون” التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب في مصر، صدرت دراسة للناقد صفوت قاسم، تقدم قراءات جديدة في أعمال الأخوين بعنوان “الكشاف العظيم والفيلسوف المرح”. الملفت فيها أن صاحبها لا يتوقف كثيرا عند التاريخ الشخصي للأخوين، مفضلاً أن يتيح مساحة أكبر للحديث عن أعمالهما، وتحليل عناصرها الإبداعية والإنسانية، عبر سياقها المجتمعي والتاريخي والجمالي.

تقسم الدراسة أعمال الأخوين إلى محاور فنية، بدلاً من التتابع الزمني لتواريخ إبداع اللوحات، حيث يرى المؤلف إنه من الأصوب تقسيم حياتهما إلى موضوعات، فقد كان سيف وانلي مثلاً ينغمس في موضوع واحد لزمن قد يطول أو يقصر، فيعايشه ويتشبع به حتى يصير جزءاً منه، يعبّر عنه من داخله، لا كمشاهد عام يمر على هذا الموضوع من الخارج.. “فهو عندما يلتفت إلى المسرح والراقصين والمنشدين يصبح واحداً من هؤلاء، يحيا حياتهم، يذوب فيهم، يرسمهم من الداخل، يتناولهم وكأنه يعبّر عن نفسه”. والأمر نفسه عندما انغمس في التعبير عن الحياة اليومية في الإسكندرية، أو عندما نظر إلى وجهه في المرآة، أو عندما رسم العاريات: “يحس بالجسد وكأنه هو الذي يشكله، ولهذا عندما يختزله أو يلخصه أو يضيف إليه فهو يبدو صاحب الشيء، ليس غريباً عنه أو مقتحماً إياه”.

الدراسة تعتبر إنتاج سيف وانلي المتنوع، الغزير منذ نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، معبراً بالغ الأهمية لمدارس التصوير الغربية الحديثة إلى مصر، وكان أول من لبى تطلّع المجتمع السكندري والمصري بوجه عام، عندما انفتح على تلك الثقافات والفنون، ونقلها إلى الجمهور، بعدما أضاف إليها من وجدانه الشرقي ووعيه، ليجعلها تتسق مع المناخ الثقافي المصري وميول جمهوره. فمهّد برؤاه المتطورة لجيل التمرد والثورة (الذي بدأ بجماعة الفن والحرية) والذين كان هدفهم محدداً في الدفاع عن الفن والثقافة، وإيقاف الأجيال الصاعدة على الحركات الفنية في العالم، فأطلقوا الخيال السجين، ومهدوا بدورهم لظهور الجماعات الفنية الأكثر تطوراً ووعياً.

كانت لدى سيف وانلي قدرة خارقة على استيعاب ما يراه ثم اختزاله وتلخيصه، وكانت يداه تطاوعانه لرسم ما يريد، وليس فقط ما يستطيع. أما أدهم فقد ظل مخلصاً لنزعته التعبيرية التي استحوذت على القسم الأكبر من مسيرة إبداعه ولوحاته، والتي ظلت لمساتها الخشنة الكثيفة ضارية خاطفة، وخطوطه المتدفقة تعيد التماسك لأغلب أشكال لوحاته المنفذة بسرعة فائقة، إذ كان عاطفياً متفاعلاً مع الحدث: “لذا نجد أن الشكل الإنساني لعب دور البطولة في أغلب أعماله، حيث لم يكن أدهم –بطبعه- يميل للمبالغة في تفتيت الأشكال أو تجريدها، وقد ظلت لوحاته مفعمة بالأبعاد النفسية واللمسة الانطباعية الخشنة”.

لم يحالفهما النجاح في البداية، فقد كان طريق الفن شاقاً وغامضاً، ولم يكن مسار حياتهما واضحاً أو محدداً، ولا كان بمقدورهما احتراف الفن منذ البداية، فقد وجدا نفسيهما موظفين بناء على رغبة الأسرة وظروفها، فعمل أدهم مديراً لمخزن الكتب في المنطقة التعليمية في الإسكندرية، وسيف موظفاً في أرشيف الإسكندرية، وقد لقيا في تلك الوظائف صنوفاً من سوء الفهم والضغوط النفسية. يربط المؤلف بين ظروف الحياة القاسية تلك، التي منعت سيف وانلي من الحصول على شهادات دراسية عليا، وبين تصويره لنفسه شامخاً واثقاً في أكثر من لوحة، فقد كان يصور وجهه بأساليب ورؤى متنوعة، مثلما كان يفعل رامبرانت. بل إن المؤلف يربط بين صورته بالقبعة التي أنجزها في مرحلة مبكرة (1933)، وبين صور وجوه رامبرانت في لوحات مرحلته الأخيرة التي ارتدى في أغلبها قبعة مشابهة: “بينما تميزت هذه النوعية من لوحات رامبرانت بلمسات لون سميكة للغاية، نجد أن صورة وجه سيف تميزت بطبقات رقيقة من الألوان التي غلب عليها هارموني اللون البني -الذي كان سائداً أيضاً في أغلب صور رامبرانت الشخصية- فإن سيف اعتمد في تنفيذ لوحته على أداء سريع متمكن، واحتلت ربطة العنق وسط اللوحة، بلونها الأسود الذي يجذب العين إلى مركز التكوين..”.

435 (1)

ومن الصور الشخصية التي أشارت إليها الدراسة أيضاً، تلك التي صوّر فيها نفسه مرتدياً الزيّ اليوناني (1956) أمام طاولة عليها قنينة مشروب، ممسكاً أوراق اللعب.. “معبراً عن تكوينه النفسي والفني، كمغامر أو مقامر بالجهد والعمر والحالة الاجتماعية، على طاولة الرهان الفني، إما أن يكسب متعة ومجداً يستحقه، أو يخسر كل شيء”.

في 1959 سافر الأخوان ضمن مجموعة من كبار الفنانين في مصر إلى النوبة، موفدين من قبل وزارة الثقافة، لتسجيل معالم المنطقة قبل أن تغمرها مياه السد العالي، رسما القرى ومعابد النوبة الأثرية ومظاهر الحياة اليومية للسكان بملابسهم الشعبية، وعمارتهم ذات الطابع المميز “عبّرا عن النوبة في مشاهد أقرب للمسرحية منها إلى المناظر الطبيعية التقليدية، وكان ذلك بسبب الأثر العميق المترسب من طول مشاهدتهما لأضواء المسرح، ما أعطى لإنتاجهما خلال هذه الرحلة طابعاً فريداً”.

في الرحلة نفسها رسم أدهم وانلي لوحة “معبد السبوع”، والتي يؤكد مؤلف الدراسة من خلالها الرؤية المسرحية للأخوين، حيث رسم أدهم صورة أخيرة للمعبد وقد أوشك على الغرق في مياه البحيرة “انعكست أجزاء المعبد على صفحتها كأنه يطل على نهر، وانعكست صور باب المعبد قوية داكنة لتكسر فراغ مسطح البحيرة الراكدة، وتشبع سطح الماء اللازوردي بلون الحجر”.

وللمرأة نصيب كبير من أعمال أدهم وانلي، حتى أن الدراسة تخصص فصلاً كاملاً للحديث عن “نساء وانلي” بدأها المؤلف بوجه “ميركا” التي جسدت المرحلة المبكرة، مروراً بـ”بنت السلطان” التي تعد واحدة من أبرع صور الشخوص التي نفذها، و”وجه بالرينا” و”مغنية الأوبرا الإيطالية”، وصولاً إلى “المستحمتان” التي أكد فيها وعيه منذ مراحله المبكرة لأهمية التحوير عندما يسجل صوراً لأشكال في أوضاع متحركة، حتى لا تبدو صوراً لحظية مثل صور الإعلانات، بالإضافة إلى أن تحوير الجسد العاري ينزع عنه الحس الجسدي (الغريزي) حيث عمد إلى المبالغة، كما يؤكد المؤلف في دراسته: “فتاتان يتراوح عمرهما بين المراهقة والرشد، انطلقتا عاريتين على رمال الشاطئ نحو أمواج البحر، علها تسرع في احتوائهما قبل أن تكتشفهما عيون ربما تكون استيقظت مبكراً، وذهبت إلى الشاطئ قبل أن تشرق الشمس، فتنال من فواكه الجسدين قسطاً من المتعة”.

يقول قاسم في تحليله للوحة إن الفنان اهتم بالبعد الثالث، ما جعل لكتلتي الفتاتين وزناً، حتى تستطيعان العودة إلى الأرض بعدما أطلقتا ساقيهما للريح، اهتم ببناء وإبراز تضاريس الجسدين على حساب الوجوه المختصرة والأطراف التي خلت من التفاصيل. وذلك على عكس لوحة “عارية” التي قدمها سيف العام 1962، والتي تعكس مزيداً من تطور رؤية وأسلوب المعالجة “الهندسية” لصورة المرأة، وإن ظل –رغم هذا- محتفظاً بقدر من معالم الشكل الواقعي، “فلم تقده الهندسة للاستغراق في تفتيت الشكل أو هدمه بالكامل وإعادة تركيبه على نهج التكعيبية، وإنما اكتفى باختزال وتكثيف مفاهيم البناء لأقصى درجة”.

____

*المدن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *