أفكار حول الكِتابة‮ ‬

*إليزابيث جيلبرت‮/ ‬‮ ‬ ترجمة‮ ‬‮:‬ ‮ ‬أحمد أبوالخير‮ ( ‬أُوديس)

أحيانًا،‮ ‬يطلب مني البعض المساعدة وإبداء الاقتراحات حول الكِتابة،‮ ‬أو كيفية النشر.مع الأخذ في الاعتبار أن كُل هذا زائل،‮ ‬وشخصي،‮ ‬سأحاول جاهدةً‮ ‬أن أشرح كُل شيء أؤمن به حول الكِتابة وأرجو أن يكون نافعًا،‮ ‬فهذا كل ما أعرف‮. ‬
أُؤمن أنّه‮  ‬إذا كُنت جادًا حِيال حياة الكِتابة،‮ ‬أو بشأن أي شكل إبداعي من أشكال التعبير‮  ‬فلابد أن تتحمل هذا العمل علي أنه واجب‮ ( ‬نداء‮ ) ‬مُقدس‮. ‬أصبحت كاتبة بالطريقة التي صار بها الآخرون رُهبانًا وراهبات،‮ ‬نذرت نفسي للكِتابة منذ الصغر،‮ ‬ثم صرت عروس الكِتابة؛ أكتب في شكل تعبدي كالخادمة‮.‬

حياتي كاملة قد اتكأت علي الكتابة،‮ ‬لا أعرف أي شيء أستطيع فعله‮ ‬غير الكِتابة،‮ ‬لم أعرف أي أحد آخر قد صار كاتبًا‮. ‬لم أملك،‮ ‬كما يُقال،‮ ‬الواسطة،‮ ‬أو الدليل الذي قد يُرشدني،‮ ‬أنا فقط بدأت‮.‬
عندما كُنت طالبة في جامعة نيويورك،‮ ‬أخذت بعض الفصول الدراسية في الكِتابة الإبداعية،‮ ‬ولكن،‮ ‬بمعزل عن الورشة البارعة تحت قيادة هيلين شولمان،‮ ‬وجدت أنني لا أرغب حقًا في ممارسة هذا العمل داخل فصل دارسي‮. ‬
لم أقتنع بأن ورشة إبداعية يُشارك فيها حوالي ثلاثة عشر كاتبًا شابًا،‮ ‬يحاولون أن يجدوا أصواتهم الخاصة،‮ ‬مكان مُلائم لي لأعثر علي صوتي الخاص،‮ ‬لذلك كتبت بمفردي،‮ ‬أيضًا كُنت أجعل أصدقائي،‮ ‬وأفراد العائلة الذين أثق في آرائهم يرون أعمالي‮. ‬دائمًا أكتب،‮ ‬ودائمًا أجعلهم يرون ما أكتب‮.‬
‮ ‬بعد أن تخرجت في جامعة نيويورك،‮ ‬قررت عدم إكمال الماجستير،‮ ‬عوضًا عن ذلك،‮ ‬ابتكرت برنامجا للدراسات العليا خاصًا بي؛ والذي تطلب‮  ‬السفر حول العالم لعدة سنوات،‮ ‬خلالها أقبل بوظائف شاغرة داخل البارات،‮ ‬المطاعم،‮ ‬مزارع الماشية؛ لأعرف الطريقة التي يتحدث بها البشر،أجمع الخبرات،وأكتب باستمرار وبتزايد مُطرد‮.‬
ربما بدت حياتي فوضوية لمن يراقبها‮ (‬وبالطبع لم يكن يراقبها أحد عن كثب حتي تبدو له كذلك‮)‬،‮ ‬ولكن رحلاتي كانت جُهدًا مُتعمدًا لأتعلم كل ما أستطيعه عن الحياة،‮ ‬حتي أُعبر عنها في كِتاباتي بوضوحِ‮.‬
بالعودة للخلف عندما كُنت بعمر التاسعة عشرة،‮ ‬بدأت إرسال قصصي القصيرة للنشرِ‮. ‬كان هدفي هو أن أنشر شيئا ما‮ ( ‬أي شيء،‮ ‬في أي مكان‮ ) ‬قبل أن أموت‮. ‬وفقط كُنت أجمع كومة ضخمة من ملاحظات الرفض لعدة سنوات‮. ‬
لا أستطيع الشرح بالضبط لماذا كُنت أملك الثقة في إرسال قصصي القصيرة بعمر التاسعة عشرة،‮ ‬إلي‮- ‬علي سبيل المِثال‮- ‬مجلة ذا نيويوركور وكيف لم تنته مسيرتي حينما كُان الرفض حليفًا لي؟،‮ ‬كُنت أظن نوعًا ما أنني سأُرفض حينها،‮ ‬ولكنني كُنت أقول لنفسي أيضًا‮: ‬
‮”” ‬ها‮  ‬شخص ما لابد أن يكتب كُل هذه القصص‮: ‬لم لا تكونين أنتِ؟‮ “”.‬

‬ما أحببت أن أُرفض،‮ ‬ولكن التوقعات كانت مُتدينة في مقابل الصبرالذي كان في عظمته‮.( ‬مجددًا‮  ‬الهدف هو‮ ‬النشر قبل أن يلاحقني الموت،‮ ‬حينما يافعة وبصحة جيدة‮ ).‬
‮ ‬لم يكن قط سهلاً‮ ‬بالنسبة لي أن أفهم لماذا يعمل الناس بإجتهاد ليبتكروا شيئًا ما جميلاً،‮ ‬وبعدها يرفضون أن يُشاركوا ذلك مع شخص ما،‮ ‬بسبب الخوف من النقد‮. ‬
أليس الهدف هو خلق شيء ما لتُوصله إلي العالم؟.لذا،‮ ‬ضع النقد جانبًا‮.‬
‮ ‬أرسل عملك للمحررين والوكالات الأدبية‮. ‬بقدر استطاعتك،‮ ‬أرِ‮ ‬أعمالك للجيران،‮ ‬علقها علي جدران محطات الأتوبيس‮  ‬فقط لا تجلس هكذا وتظل مُختنقًا‮. ‬علي الأقل جرب،‮ ‬وإن رفض مديرو الوكالات الأدبية مخطوطتك مرة أخري‮ ( ‬وهوما سيحدث بالفعلِ‮)‬،‮ ‬خذ نفسًا عميقًا وحاول مُجددًا‮. ‬
دومًا أسمع الناس يقولون‮ ” ‬لست كفئا بما يكفي لتُنشر أعمالي‮ “. ‬هذا ممكن،‮ ‬بل مُرجح‮.‬
‮ ‬وكل ما أقوله هو‮: ‬دع شخصًا آخر يقرر ذلك،‮ ‬فالمجلات،‮ ‬والمُحررون والوكلاء‮  ‬يوظفون الشباب مُقابل‮ ‬22‮ ‬ألف دولار في العام وينصب عملهم علي قراءة المخطوطات وإرسال خطاب إليك مُتضمنًا بأنك لست جيدًا كفاية‮. ‬

بعد‮: ‬أجعلهم يفعلون ذلك‮. ‬ولا ترفض نفسك رفضًا مُسبقًا،‮ ‬هذا عملهم وليس عملك أنت‮. ‬عملك يتمحور حول الكِتابة من أعماق القلب،‮ ‬وأترك القدر يتولي الباقي‮. ‬
الانضباط والالتزام‮  ‬مهم،‮ ‬ولكنه نوع من المبالغة الشديدة‮. ‬أعتقد أن الانضباط المُناسب للكاتب هوالتسامح مع النفس؛ لأن كتابتك دائمًا ستُخيب أملك،‮ ‬الكسل دائمًا سيخيب أملك‮. ‬ستأخذ العهد علي نفسك بأنه‮ ” ‬سأكتب لمدة ساعة كُل يوم‮ ” ‬وبعد ذلك تتقاعس ولا تفعل‮.‬
‮ ‬ستعتقد بأنك‮ ” ‬فاشل،‮ ‬فاشل‮ “.‬
بعد ذلك الحُزن النابع من خيبة الأمل،‮ ‬لا يتطلب الاستمرار في الكِتابة الانضباط فحسب،‮ ‬بل التصالح مع النفس أيضًا‮ ( ‬النابع من طيبة القلب،‮ ‬الشجاعة،‮ ‬والحب الأموميّ‮ ) ‬
‮ ‬أمر آخر لابد أن تُدركه أن كُل الكُتاب يُفكرون أنّهم مُجرد حُثالة،‮ ‬فَشلة‮. ‬
عندما كُنت أكتب‮ ” ‬طعام،‮ ‬صلاة،‮ ‬حب‮ “‬،‮ ‬تردد داخل عقلي شعار قوي أن‮ ” ‬ما أفعله محض هُراء‮”‬،‮ ‬كما يفعل أي فرد عندما يكتب أي شيء،‮ ‬ولكن وقتها،‮ ‬نبع هتاف من الصدق خلال عملية الكِتابة‮. ‬

يومًا ما،‮ ‬عندما كُنت أُعاني من مدي سوء كتاباتي أُدركت‮: ” ‬بكُل تأكيد هذه ليست مشكلتي‮ “‬،‮ ‬فالنقطة التي أدركتها كانت‮  ‬لم أعط وعدًا للعالم بأنني سأكتب بشكل لامع؛ أنا فقط وعدت العالم بأنني سأكتب‮. ‬
لذلك أُنكس رأسي،‮ ‬أتعرق خلال الكِتابة،‮ ‬كما قطعت العهد،‮ ‬وأنذرت نفسي له‮. ‬
لدي صديق وهو مُنتج أفلام إيطالي،‮ ‬صاحب حس فني كبير‮. ‬بعد سنوات من الصراع لإنتاج أفلامه،‮ ‬أرسل خطابا بائسا لبطله،‮ ‬العبقري‮ ( ‬وربما النصف مجنونِ‮ ) ‬المخرج الألماني فرنر هرتزوغ،وفيه صديقي المنتج يتذمر من صعوبة أن تكون مُنتجًا مستقلاً،‮ ‬وكيف صار صعبًا أن تحصل علي المنح والإعانات الفنية من الحكومة،‮ ‬وكيف أتلفت هوليوود الجماهير،‮ ‬وكيف أن العالم قد فقد مذاق صناعة الأفلام‮.. ‬إلخ،‮ ‬إلخ‮. ‬
فهرتزوغ‮ ‬رد عليه بخطاب شخصي،‮ ‬والذي كان يدور أساسيًا حول هذه المحاور‮: ‬
‮” ‬كف عن التذمر،‮ ‬فليس خطأ العالم أنك تُريد أن تصير فنانًا‮. ‬وليس من وظيفة العالم أن يستمتع بالأفلام التي صنعتها،‮ ‬وبالطبع ليس من الواجب علي العالم أن يدفع لك ثمن أحلامك‮. ‬لا أحد يُريد أن يسمع ذلك‮. ‬أسرق كاميرا لو وجب الأمر،‮ ‬ولكن توقف عن الأنين والنحيب،‮ ‬وعد للعمل‮”.‬

أعيد هذه الكلمات علي نفسي كلما أشعر بأنني‮ ‬غاضبة،‮ ‬مُجازة،‮ ‬في تنافس أو حتي‮ ‬غير مُقدَرة فيما يتعلق بكتاباتي‮. ” ‬ليس خطأ العالم أنك تُريد أن تصير فنانًا‮… ‬الآن عُد إلي عملك‮”.‬
في نهاية اليوم،‮ ‬دائمًا أهم شيء فيه هو‮: ‬عُد إلي عملك‮. ‬هذا طريق الشجعان والمخلصين،‮ ‬لابد أن تجد سببًا آخر للعمل،‮ ‬غير الرغبة في النجاح والتقديرِ‮.‬
‮ ‬إذا ألح عليك الأمر وتريد الكِتابة،‮ ‬وتعتقد أنّك قد صرت في سن مُتأخرة علي حدوث ذلك‮… ‬من فضلك،‮ ‬فكر مُجددًا‮. ‬شاهدت جوليا جلاس تفوز بجائزة الكتاب الوطنية الأمريكية لروايتها الأولي‮ ” ‬ثلاثة شهور من يونيو‮”‬،‮ ‬والتي بدأت الكِتابة فيها في أواخر الثلاثينات من عمرها‮. ‬استمعت إليها وهي تُلقي خطاب القبول المُحرك للمشاعر؛ وفيه أخبرتنا كيف أنها اعتادت أن تظل مُستيقظة ليلاً،‮ ‬موجوعة بينما تعمل علي الكتاب‮. ‬تُحدث نفسها مُتسائلة‮:‬
‮ ” ‬من تظنين نفسك،‮ ‬وأنتِ‮ ‬تحاولين كِتابة أول رواية في هذا العمر؟‮ “‬،‮ ‬ولكنها كِتبتها،‮ ‬وحازت علي جائزة الكِتاب الوطنية الأمريكية،‮ ‬تقول‮: ” ‬هذا لكل الكُتاب العباقرة المُختفين المعذبين في العالم‮ “.‬

الكتابة ليست كالرقص أو عرض الأزياء؛ ليست عملاً‮- ‬إنْ‮ ‬فاتك في سن التاسعة عشرة‮- ‬ينتهي أمرك‮. ‬
‮ ‬لم يفت الأوان أبدًا،‮ ‬فكتاباتك فقط تتحسن عندما تصير أكبر سنًا،‮ ‬وأكثر حكمة‮.‬
إذا كتبت شيئًا ما جميلاً‮ ‬ومهمًا،‮ ‬واكتشفها الشخص المُناسب بطريقة ما،‮ ‬سيخلي لك مكانًا علي أرفف الكتب في العالم في أي عمر كُنت‮. ‬فعلي الأقل،‮ ‬جرب،‮ ‬حاول‮.‬
هناك أكوام من الكتب في الخارج عن‮ ” ‬كيفية النشر‮ “. ‬قد يجد البعض معلومات في الكُتب مُتضاربة‮. ‬شعوري‮  ‬بكل تأكيد أن هذه المعلومات متضاربة؛ لأنّه،‮ ‬وبصراحة،‮ ‬لا أحد يعرف أي شيء‮. ‬
لا أحد يستطيع أن يخبرك كيف يمكن النجاح في الكِتابة‮ ( ‬حتي لو كتبوا كِتابا بعنوان‮ ” ‬كيف يمكن النجاح في الكتابة‮” ) ‬لأنه ليس هناك أية طريقة للكتابة؛ ولكن بدلاً‮ ‬من ذلك توجد العديد من الطرق‮.‬
‮ ‬كل فرد أعرف أنّه قد هيأ حاله ليصبح كاتبًا فعل هذا بطريقة مختلفة‮  ‬أحيانًا بطريقة مختلفة جذريًا وكُليًا،جرب كُل الطرق‮. ‬

كما أعتقد،‮ ‬أن تصبح كاتبًا هو نوع من محاولة العثور علي شقة رخيصة في مدينة نيويورك،‮ ‬وهذا أمر مستحيل‮. ‬
ومع ذلك‮.. ‬كُل يوم،‮ ‬أحدهم ينجح في العثور علي شقة رخيصة في نيويورك‮.‬
لا أستطيع أن أخبرك كيف تفعل ذلك‮. ‬أنا حتي الآن لست مُتأكدة تمامًا كيف فعلتها‮. ‬أستطيع أن أخبرك فقط أنني‮  ‬مما ضربته لك من مِثال‮  ‬أنها ممكنة الحدوث‮. ‬للتو،‮ ‬وجدت شقة رخيصة في مانهاتن،‮ ‬وأصبحت كاتبة أيضًا‮.‬
في النهاية،‮ ‬أحب هذا العمل،‮ ‬لطالما أحببت هذا العمل‮. ‬اقتراحي ينصب علي أن تبدأ بهذا الحب،‮ ‬وبعدها تعمل بجدية كبيرة،‮ ‬ودعك من النتائج‮.‬
أظهر إرادتك،‮ ‬وبعدها اقطع الطريق‮. ‬من فضلك حاول،‮ ‬وأيضًا،‮ ‬ألا تُجن تمامًا أثناء الكِتابة‮. ‬الجنون طريق فاتن جدًا للفنانين،‮ ‬ولكننا في هذه الآونة لا نحتاج المزيد منهم في العالم‮. ‬لذلك،‮ ‬من فضلك،‮ ‬تصدي لنداء الجنون‮. ‬نريد المزيد من الإبداع لا مزيدًا من التدمير‮. ‬نحتاج إلي فنانينا أكثر من أي وقت مضي،‮ ‬ونريد أن يكونوا مستقرين،‮ ‬ثابتين،‮ ‬مُبجلين،‮ ‬وشُجعان‮  ‬فهم جنودنا،‮ ‬وأَملنا‮.‬

‬لو قررت الكّتابة،‮ ‬فلابد أن تكتب كما يقول بلزاك‮ ” ‬مثل عمال المناجم المدفونين تحت سقف مُتهالك‮ “. ‬
كن فارسًا،‮ ‬بقوة الاجتهاد،‮ ‬بقوة الدأب والإيمان‮. ‬لا أعرف كيف يمكن فعلها ما عدا هذه الطريقة‮. ‬
وكما قال مرة الشاعر الكبير جاك جيلبرت لكاتبة شابة،‮ ‬عندما سألته عن نصيحته فيما كتبته من أشعار‮:‬
‮” ‬هل لديكِ‮ ‬الشجاعة كي تقدمي هذا العمل؟ فالكنوز المُخبأة بداخلك تأمل أن تُجيبيني بـ‮ ” ‬نعم‮ “‬؟‮ “‬
حظًا موفقًا‮.‬
___
*أخبار الأدب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *