قراءة لديوان”حدائق اللّيل…ألوان الفجر” للشّاعرة جودة بلغيث

خاص- ثقافات

*أحمد بن ابراهيم

كثيرا ما يستفزّك الحديث عن الشّعر و الشّعرية.. كأن تشهدَ شاعرا يرفع صوته للتّدليل على أحقية ” تواجده .. ” ولكن كما قرّر الشّاعردخول هذه المواجهة ( عن وعي أو عن غير وعي ) كذلك من حق المتقبّل للشعر أن يدافع عن اختياراته..أن يقول مثلا ( قد قرأت ديوانا للشاعر الفلاني..ف.. في أحسن الأحوال طويته وتركته جانبا).
حدث أن شدّتني بعض الإشارات الفايسبوكية (هذه القسديرة الزرقة  كما أنعتها ) تداولت بعض التدوينات مرحبة بديوان شِعري عنوانه ” حدائق الليل..ألوان الفجر. ” للشاعرة جودة بلغيث..فقرّرتُ اكتشاف هذا المنجز.. لم تبخل علينا شاعرتنا وأرسلت نسخة مصحوبة بإهداء جميل ..متواضع وعميق..تقول في إهدائها لي ” هذه بعض حروفي إليك…الخ ” أحببتُ هذا التواضع الجميل من الشاعرة جودة بلغيث. كما لامستُ صدقها من خلال نصوصها..
صدر هذا الديوان الشعري بتاريخ 2017.لا يحمل تقديما وهذا اختيار من الشاعرة نحترمه.
الإهداء :
” إلى المرأة التي أخذت بيدي ودرّبتني على رسم الحروف وهي تجهل الكتابة والقراءة. أمّي شفاها الله وعافاها.
إلى والدي الذي حرص على أن أعتمد على نفسي وأن أكون مسؤولة عن أيّ قرار أتخذه.
إلى ولديّ قرّة عيني وائل وَعمر اللذين يجهدان في الوصول إلى المعنى.
إلى زوجي الصابر على جنوني.
تصدير أوّل :” ليرتفع منك المعنى لا الصوت
فان ما يجعل الزّهر ينبت ويتفتح هو المطر لا الرّعد”.( جلال الدين الرومي )
تصدير ثان :
“من لايرركض إلى فتنة العشق. يمشي طريقا لا شيء فيه ”
أقول :  أن تحقيق ” قرينة ” الاختيار لابدّ من شرط أساسي هو – الثقة في النفس – هكذا تبتعد الذات الشاعرة عن ( السفسطة ) ك..هذيان منبوذ حتى من ” اليومي ” وفظاعته ؟
الشاعرة ” جودة بلغيث” تحاول  – عن وعي – أن تؤسّس خطابها الشعري الخاص بها. خطابها الوظيفي في غنائيته. فقصائدها وإن لفّت بجمالية.. وبلاغة محبّذة. هذا إلى جانب ” التناص ” فإنّنا نرصد من خلال شفافية تعبيرها ذاك النفس الأيديولوجي الذي يطل كومضة برق من حين لآخر..
إن نحن وقفنا عند ملامح أسلوبها ( جودة بلغيث ) فإنّنا لا ننسى سعيها إلى الاقتراب من البنية القصصية. ربما بحثا عن الوحدة العضوية للقصيدة .رغم أنها قصائد ( قصيرة ) على مستوى عدد الأسطر..ولكنها ذات بعد فنيّ ومضموني جيّد..خاصة حين تجعلنا كقراء أمام أسئلة حياتية – وجودية – تستدعي منا الموضوعية في تحديد مقصديتها. إنّها عملية درامية فضاءاتها متعدّدة : الواقع – الحلم – الرمز..
العنوان كعتبة أولى :
– حدائق الليل… ألوان الفجر
هل معنى هذا أننا أمام حقيقة ما ؟ سؤال يتبادر إلى الذهن. كيف يمكن لنا اكتشاف هذا التمثّل الجمالي ومزيد إحيائه. جعله ( حقيقة ) لا بدّ أن أطرح وجهة نظري..أقول نعم هو الخيال. الحدس .ربما الآن نتفق على هذا الإحساس.
الحديقة حتى وان بانت جرداء. هي حديقة.( خارج هذه المجموعة ). هي فضاء للأفكار..للخيال.. ليست مهملة بدليل توقها للأعلى.. لا للتعالي. الفضاء المقابل هو الفجر في علوّه المقدس النّوراني.. مساراته الرمزية يقول أدونيس :
” فضاء – أعمال فنية لا تكتمل : لا يكمن معناها في المادة التي تكوّنها. بل في حركيّة التكوّن ”
أليس هذا العنوان ” حدائق الليل.. ألوان الفجر ” لوحة زيتية تعبق مساحاتها بالحركة ؟
من ناحية أخرى..أسلوبية..نستدعي أستاذنا الجليل عبد المجيد يوسف في كتابه ” تلوينات على وشاح طائر.. دراسات تناصية ” يقول :
” المُناصّ – هو النصّ الذي احتوى المتناص لغاية من الغايات الدلالية أو الجمالية..ونضيف إلى ما بيّنه المنظرون الغربيون أن المناص هو صاحب السلطة. يستعمل المتناص ويوظفه كيف شاء. وربما عمد إلى اجتزائه أو تعديله أو تحويل وجهته الدلالية أو تصرّف في بنيته..إلى غير ذلك من التصرّفات الممكنة”
يقول أدونيس :
” صور الليل داخل الليل \ تزيّن دفتر الفجر
يقول : الفجر والليل لا يفترقان..” الخ..
لذا هو عنوان مفتوح مؤثر خاصة في رومانسيته.
القصيد الأوّل بعنوان – رحلة – ص 13
تقول:
يسرقني الحلم
فأتوه منك
أتوه عنك
أجوبُ بساتين الفل والياسمين
وغابات الشيح
أتخطى الحجب
حجابا، حجابا
أبلغ سموات الضوء
و…أعبر
افتُتحَت هذه المجموعة بقصيدة” رحلة”. رحلة تخيلية بين الذات الشاعرة والآخر. وكأن هذا التباعد \ التقارب ..في مدّه وجزره كان في شكل ” أحجية ” لاستبطان ( السببية . إن كانت واقعا أو متخيّلا ) ولكنه يندرج في تسمية العلاقة بين الأنا الشاعرة وهذا الآخر بمسمى ” الرغبة في الصدق ” أي هذا الجانب النّوراني المرتجى لتأثيث هذه العلاقة ( وان كان في الحلم ) كما لا يفوتنا الامتنان بجرسيته التي
لابدّ أن أشير إلى شيء مهم.. هو صعوبة الإلمام بكل قصائد هذا الديوان الجيّد ..سأكتفي ببعض القصائد.. هذا مع محاولة التقرّب ما استطعتُ لمناخات الشاعرة وعوالمها..
قصيد – “حين يغرق الليل”
تقول :
حين يغرق الليل في دموع الحائرين
خاتله وتحرّك
بنبل فراشة تحرّك
إلى حيث يأخذك القلب
القلب نسيجه حكاية سابحة تنشد الشمس
بإصرار قطرة ندى
تشبّ بعطر زنبقة بيضاء..
ولا تنبش قبور الذكرى
هنا يبرز هذا التّعالق بين الذات والطبيعة، بين الظلمة كسطوة صادمة وبين فعل التّحرّر، الرّغبة في الأمل في نوره الأبيض. إلى حياة أجمل من خلال القلب في اخضراره حين يهفو إلى الجمال واللّون النّاصع البديع وهو ينشد الشّمس..هذا إمكانية التّحذير من ملامسة ( الأطلال)
(لا يفوتنا هنا أن نشير إلى رغبة الشاعرة في اقتطاف بعض المفردات الجمالية ..مثل ” الفراشة ” والتي تعيدنا إلى قصيد درويش..)
الشاعرة جودة بلغيث..ليست في قطيعة مع واقعنا المعاش..هي ترصد بعين الفن.. تبئر تفاصيل الأحداث..تبدي موقفها. تنقد ( سرا وجهرا ) حين تستشعر ( بعض مفردات الظلام – الظلاميين تحديدا )
قصيد ” وهم ”
تقول :
في لجج الصمت العاتية
يختبئون
يفككون خيوط سدى الحكاية..على مهل
ينتفون ريش الحمام الأبيض
يُخرسون زقزقة العصافير الصادحة
صدأ وهُباب فحم ينفثون
معبّأة صدورهم بالنار والحريق
مسجونة نفوسهم في
وهم حورية..الموت
إن عدّ هذا ( خطابا مباشرا ) فليكن..ولكن في تداوله نستمتع بدلالاته..
أختم بقصيد جميل بعنوان “الأوراس”
تقول:
ملء الصباح أتنفس..
يمامة يطير قلبي إليكِ
تشيخ الأيام وتبلى والأوراس تشهد
أنّني من هنا مررتُ
بعض تراب أرضها مني
بعض دمائي منها
الأوراس تشهد
أنّني هنا..ماجدةٌ
الكلمة إكليلها :
تاجٌ، الأبجدية ماسُه وياقوتهُ

الشاعرة جودة بلغيث..من خلال ديوانها هذا..تبدو واعية بفعل الكتابة. بإمكانها أن تبدع الأجمل.. أن لا تتأثر بالعادي من ( الشعر ) وبما أنها تهتم بالمدوّنة الشعرية العربية..فأني أدعوها كما أدعو نفسي وغيري إلى مزيد من الاهتمام بالشعر العربي خاصة قديمه..لا بدّ من التسلّح.. من الوقوف بأكثر ثقة..
نحن نحب الإبداع..لابدّ من القراءة.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *