*محمد العباس
عندما نرتاد مكتبة أو نزور معرضاً للكتب نصادف على الأغلفة عبارات ترويجية ساطية مدموغة بخط بارز مثل: الرواية الحاصلة على جائزة البوكر أو البوليتزر أو الغونكور وهكذا. وهي عبارات ذات رنين تشكل سلطتها الذوقية علينا كقراء وتحرضنا على اقتنائها.
تماماً كما نلمح بوسترات الأفلام الحاصلة على جائزة الأوسكار أو البافتا أو كان فنتحمس لمشاهدتها. وهذه حقيقة ينبغي الإقرار بفاعليتها في التأثير علينا، لأنها تمثل جانباً من رحيق التجربة الروائية، وخلاصة الخبرة السينمائية. ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ من التسويق المشروع، بل يتعداه إلى استخدام اسم الروائي أو المخرج على كل منتجاته الإبداعية، فنجد مثلاً رواية أخرى للكاتب ذاته ممهورة بعبارة موازية، مفادها أن كاتب هذه الرواية هو ذاته الحاصل على جائزة البوكر عن روايته الأولى، وكأن تأهله لجائزة واحدة يجعل من كل أعماله مصفوفات إبداعية لا غنى عنها لأي قارئ.
ليس كل ما يكتبه الروائي على الدرجة نفسها من الجودة، مثله مثل المطرب الذي يصدر ألبوماً غنائياً لا تنجح منه إلا أغنية واحدة، فالذين كتبوا كلمات أغاني كوكب الشرق أم كلثوم، أصابهم الوهن في لحظة الميديا فكتبوا كلمات ساذجة لمطربي الجيل الجديد. وبالتالي لا يمكن التسليم بأن أي رواية من روايات أي كاتب هي تحفة أدبية بمقتضى شهرة كاتبها. وهناك من الشواهد ما يكفي لدحض هذا التصور الخادع، حيث تتفاوت كفاءة الروايات حتى بالنسبة للحاصلين على جائزة نوبل للآداب، فالروائي قد يبدع في إنجاز رواية في مرحلة ما من مراحل عمره، أو في فاصل من مفاصل حياته، أو بموجب مرحلة استثنائية على المستوى العاطفي، ولكن هذا التألق ليس مكفولاً له على الدوام، مع ملاحظة أن بعض الروائيين يتعمدون استثمار نجاحهم في عمل روائي فيستعجلون في إصدار الرواية تلو الأخرى، من أجل مكاسب آنية كالشهرة والمال والجوائز، وهو أداء آلي تكثيري لا يمت للفاعلية الإبداعية بصلة. هناك حيلة يتواطأ عليها الناشر والروائي ويعززها أشباه القراء لتوطين الروائيين الحاصدين للجوائز كأبقار مقدّسة في المشهد، ولذلك نلاحظ صعود نجم الروائي البوكري جماهيرياً ومؤسساتياً، إلى الدرجة التي يُصاب فيها النقد بالرهاب قبالة كل ما ينتجه هذا الروائي أو ذاك، حيث يتم تصعيد البوكري -والحديث هنا عربياً بمقتضى جماهيرية البوكر- إلى حافة النجم الذي يُنظر إلى مُجمل إنجازه الروائي كمنتجات غير قابلة للمساءلة أو الخدش. ليس هذا وحسب، بل يُقدم في كل المحافل الثقافية واللاثقافية كخبير في تاريخ الرواية وواقعها وآفاق كتابتها. وعندها يستحوذ على دور الباحث والناقد والمُنّظر، ومن دون أي تردد أو ارتباك يستمرئ هذا الدور فتراه ينتقل من منصة إلى أخرى ليتحدث بثقة النجم الجماهيري المرعي من قبل مؤسسات تبحث عن الضجيج لا التأصيل المعرفي الجمالي، ليختفي بعدها بعيداً عن الجمهور مترفعاً عن التماس معهم بدعوى انشغاله في كتابة رواية تحتاج إلى التركيز.
ليس من يحصد البوكر فقط هو من يتسيّد المشهد، بل من يدخل القائمة القصيرة أيضاً في أي دورة من الدورات، وإلى حدٍ كبير من يحظى بالتأهل للقائمة الطويلة، حيث تتسابق وسائل الإعلام للالتقاء بمن يُفترض أنهم الأكثر قدرة ومهارة على السرد. كما تتسابق دور النشر والمطابع إلى دمغ كل ما كتبوه بعبارات الاصطفاء المتعارف عليها، لاستثمار اسم الروائي لتتوالى الطبعات، وعندها يقف القارئ مبهوتاً ومستلباً قبالة تلك اللافتات الواهبة للقدسية، وهكذا تشكل نادي النخبة من الروائيين الحاملين لختم عبارات التعميد، بحيث صارت لجان التحكيم في الدورات اللاحقة تهاب هذه الأسماء وتحسب لها ألف حساب، وها هم يتوزعون على كل الجوائز والمسابقات بموجب سمعتهم المكتسبة من عبارة دبّرها الناشر واستخدمها كطُعم لاصطياد القراء، كما صارت تُعلق على صدور الروائيين كنياشين يُراد منها إضــــفاء الهالة على حاملها.
لكل قارئ عربي ميثاقه القرائي مع البوكريين، وله أيضاً سيرته القرائية التي لا تخلو من الخيبات، ولو تحدث كل قارئ عن علاقته بروايات نجمه البوكري في مرحلة ما بعد الجائزة لالتقطنا محصلة استقصائية على درجة من الأهمية، وهي نتيجة نعرفها من خلال أحاديثنا البينية، وما يُنشر كخطفات كلامية في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لا يشعر القراء بالرضا عن واقع ومآلات البوكريين، بدليل أنه لا توجد رواية لبوكري يُعتد بها بعد بيضته الأولى، إلا أن تلك الملاحظات – للأسف- لا تصل للروائي ولا للناشر ولا للمؤسسات المصنّعة للنجوم الأليفين، أو بمعنى أدق، هم لا يريدون الالتفات إلى ما يهمس به القارئ، الذي لا يشكل جوهر العملية الإبداعية وحسب، بل مبرر وفضاء نجومية البوكريين، بقدر ما يفتحون آذانهم على اتساعها للمصفقين الذين لا يهمهم من المشهد الثقافي سوى التقاطات السلفي مع النجم الروائي.
من المفترض أن تكون جائزة البوكر عبئاً على حاملها، وأن تكون عبارة (الرواية الحاصلة على البوكر) مجرد إعلان ومحطة لانطلاقة أخرى، فهي توقعه في قلقين إبداعيين: قلق تجاوز الآخرين، وقلق تجاوز ذاته برواية أكثر اكتمالاً، ولكن هذا القلق لا يبدو حاضراً في وعي البوكريين. لأنهم ينظرون إلى الجائزة كامتياز يسمح لها بالسياحة الثقافية قدر الإمكان، إذ لا يعكس أسلوب خطابهم على المنصات أي وعي استثنائي بالفعل الروائي. وبقدر ما يستظهرون أنفسهم كنجوم يبدون كرهائن لدى الناشرين في حفلات توقيع خالية من المعنى، المهم ألا تغيب عن أذهان القراء تلك العبارة السحرية التي تفيد بأن من يقتني الرواية إنما يقتني تحفة بوكرية، بحيث صارت العبارات الآخذة بالتكاثّر تغطي معظم أغلفة الروايات. بالنظر إلى الازدياد المطرد لعدد الجوائز العربية المخصصة للرواية. ومع توالي الدورات ومجانية ختم الروايات بعبارات تسويقية، ستفقد تلك العبارات سحريتها وأثرها على القارئ.
___
*القدس العربي