سوسيولوجيا الإصلاح التربوي في تونس: من المسعدي إلى جلول

خاص- ثقافات

*ماجد قروي

بعيدا عن القبليات الفكرية والينبغيات الوعظية والاستيهامات الاستعارية ،سنتطرق إلى مسألة الاصلاح التربوي في إطار جملة من التأسيسات النظرية والمنهجية المرتكزة على البراديغمات السوسيولوجية كمنطلق للتحليل والمكاشفة.بدءا إذا ما أردنا فهم الواقع التربوي في تجلياته الانية فلابد من تسليط الضوء على نسقه التاريخي أو ما سمّاه توران “نسق الفعل التاريخي”.وربطا بما ذكرناه انفا يرنا البحث في العلاقة الارتباطية بين التجارب التنموية التي شهدتها تونس والإصلاح التربوي ،فأّوّل إصلاح تربوي لتونس بعد الاستقلال كان مع مشروع بناء تونس الحديثة لكنه حافظ على التواصل مع المدرسة الفرنكوفوعربية وقطع مع التراث الزيتوني باعتباره عائقا امام الحداثة حسب الفلسفة البورقيبية،فهي تجربة أفول التقليدية بالمعنى السوسيولوجي..عموما شهد هذا الاصلاح نجاحا في بداياته وارتقت معه المدرسة التونسية إلى مراتب مشرفة على المستوى العالمي وأفرزت نخب فكرية رائدة .ولا يفوتنا أن نشير الى ان تجربة التعاضد التي اتبعتها تونس شهدت بدورها نجاحات في البداية ،لكن مع فشل تجربة التعاضد وعجز الوحدات التعاضدية على توفير مواطن الشغل تنامت البطالة وتدنت الاجور ما انعكس على المدرسة التي بدورها تراجعت عن دورها في اطار الدولة الراعية بتوفيرها الشغل لخرجيها ولم تعد الكفايات التي تقدّمها المدرسة قادرة على الاستجابة لحاجيات المجتمع ،فوقع التخلي عن تجربة التعاضد وتمّ الالتجاء إلى التجربة الليبرالية التي عمقت الازمة أكثر وتنامت البطالة وارتفعت معدلات الانقطاع عن الدراسة في المدرسة.

أما التجربة التنموية الثالثة فهي تجربة الاقتصاد المعولم  أو الانخراط في العولمة التي تلت التجربة التنموية الليبرالية  .ألقت هذه التجربة بظلالها على القطاع التربوي فقامت الدولة بإصلاحات 1991 ..وهذا الاصلاح محكوم بعاملين اثنين :عامل داخلي سياسي بامتياز اذ تأتى هذا الاصلاح في فترة قمع شديدة للمعارضين وإخماد كل صوت ناقد وبالتالي من مصلحة النظام الحاكم افراغ البرامج التعليمية من كل حس نقدي .أما العامل الثاني لإصلاحات محمد الشرفي فهو خارجي مرتبط بالضغوط الخارجية للغرب وصندوق النقد الدولي حول اعتماد نظام تعليمي عالمي ينسجم مع العولمة ويأخذ بعين الاعتبار أولوية الخارج عن الداخل بمعنى”إعداد التلميذ لمنظومة كونية وليس لمنظومة محلية على حدّ تعبير سالم لبيض”أي تأهيل الرأسمال البشري لخدمة الخارج .أدّت هذه الاصلاحات إلى أفول المدرسة الوطنية بالمعنى الذي يجعلها المصعد الاجتماعي الوحيد لأبناء الطبقات الشعبية ،وبالتالي أصبحت مفاتيح الحقل التربوي رهينة إملاءات العولمة ،وحسب تقرير البنك الدولي الذي نشر سنة 1998 وحمل عنوان :
enseignement  superieur ,enjeux et avenir’L بأنّ البنك الدولي دعم الحكومة التونسية بقرض قيمته 80 مليون دولار لإصلاح المنظومة الجامعية وتمويل الشعب القصيرة والتخفيض في الشعب الأدبية ودعم الشعب العلمية بغرض خدمة العولمة ومصالح الغرب.ما أدّى بالنتيجة إلى ارتفاع نسب البطالة والمهمّشين.
ختاما، أخلص إلى معادلة بين ثالوث التنمية والإصلاح التربوي والإرهاب ففشل التجارب التنموية المتلفة كان له انعكاس كبير على المنظومة التربوية.فمع افول الدولة الوطنية ،لم تعد المدرسة مطالبة بتأهيل الناشئة لتندمج في سوق الشغل بل لتشغيلية هشّة تدم العولمة والمؤسسات العبر قطرية.ما أدّى الى ارتفاع البطالة والفقر وأصبح الشباب مجالا اجتماعيا أكثر هشاشة .وأمام هذا الوضع الاجتماعي المأزوم سيسعى الشباب إلى بناء نموذج هويتي ترميقي ومذوتن يستعيدون عبره المعنى ويبنون ديناميكية هوّيتية ملتبسة مع الديني وذلك عبر الانخراط في حركات العنف .

وأخيرا حري بنا أن نسوق جملة من الملاحظات حول الاصلاح التربوي في عهد جلول .فقول العديد من الباحثين بتقليد التجارب التعليمية الناجحة في العالم يجعلهم ينطلقون من الماكرو ويهمّشون الميكرو سوسيولوجي.أي الانطلاق من أبحاث أكاديمية تدرس المدرسة ومشكلاتها ومن ثم الاصلاح بما يتماشى مع الواقع التونسي.أما الملاحظة الثانية تتمثل في ان الاصلاح ليس مجرد قوانين ،بل كشف للمحددات الفعلية  ورصد للعوامل الذاتية وراء فشل الاصلاح التربوي ،وعدم الاقتصار على أرقام ونسب قد تظلّ القائمين بالإصلاح ،ولا يكون ذلك إلاّ عبر دراسة المؤسسة التربوية بفاعليها ومتفاعليها  من الداخل وكشف العوامل الاشكلية للفشل المدرسي وفتح العلب المغلقة على حدّ تعبير lapassade .فالإصلاح فن ّو فلسفة.

ماجد قروي:باحث في علم الاجتماع،سيدي بوزيد تونس.
majedkaroui@gmail.com

المراجع:
1.      آلان توران ، نقد الحداثة ، ترجمة انور مغيث ،(الكويت،المجلس  الأعلى للثقافة،2011).
2.      عمر الزعفوري،محاولة لفهم الاشكال الجديدة للعنف في ضوء التجارب التحديثية في المجتمعات التابعة (بيروت،مجلة إضافات ،العدد 12 ،2010)
3.      كلود ديبار،أزمة الهوّيات ،ترجمة رندة بعث ، (بيروت،المكتبة الشرقية ،2008)
4.      سالم لبيض، التعليم التونسي… البحث عن الإصلاح،العربي الجديد:https://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/5/12

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *