خاص-ثقافات
*عمر ح الدريسي
“في عالمنا العربي، وللأسف فعادة ما تنتهي أعمال الخبراء في الأرشيف بينما تستمر طواحين الهواء في الدوران”، كان هذا خاتمة مقال إذاعي، ومنشور، تحت عنوان، “الجامعة العربية والواقع العربي، لأستاذ العلاقات الدولية، الدكتور تاج الدين الحسيني.. !!
لم يعد خافيا اليوم، على أي أحد ما تُعانيه، المنطقة العربية، إنسانا ومؤسسات ودول، حيث الوضع، ليس تشاؤما، بل هو تشخيص ومعاينة ومكاشفة ومصارحة، مع من له ضمير، ينتمي لربوع هذا العالم، ويدميه في قلبه ما يدمي أي مكلوم ومُيتّم، ومقهور ومغلوب وعاطل متحسر وفقير لا يجد شيئا، غير خطاب ساسة المواعيد الانتخابية، وأحزاب برامج الوعود الكاذبة، وإعلام ثقافة الزيف والتزلف للصنابير.. !!
الوضع هذا، الذي يمشي، ليس حبوا، وليس مشيا، بل يُهرول راكضا وفي بعض المناطق يتسابق جريا؛ من مرض إلى مرض، ومن انهيار إلى انهيار، ومن سقوط دولة وإعدام مؤسسات إلى سقوط وتشييع أخرى، هي أوضاع لا تسر صديقا ولا تغيظ عدوا… !!
الإنسان العربي، يتعرض لأكبر محرقة في القرن الواحد والعشرين، ليس لشيء يهمه، بل كلها محارق غايتها، الدوس على وجوده لاستغلال خيرات أراضيه وقواه الفردية، ودفعه، إن لم يفقد الأمل ولم يمت، ليكون بدون وعي خاضعا مُنكفئًا وهو مستمر في جهله ويتظاهر بالسرور لأولي النعمة عليه، يقول غسان كنفاني، “يسرقون رغيفك.. ثم يعطونك منه كِسرة.. ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم.. يالوقاحتهم!!”، أو دفع هذا الإنسان ليكون لاجئا بعدما كان مُهاجرا، من أقصى جنوب الكرة الأرضية إلى أقصى شمالها، مرورا بدول القارة العجوز، أي من أستراليا إلى السويد والنرويج وكندا… ؟!
الإنسان العربي أصبح له إحساس الغربة فوق الكرة الأرضية، بدا له شعور عدم الأمان حيث وُجد، يُبحلق بعينيه، كلما وُجد انتخابات في بلدان اللجوء أو الإقامة، يجد نفسه موضوعا للنقاش السياسي في تلك البلدان، بل أصبح عليه أن يقبل بسماع خطاب سياسي يُحمِّله مآسي البلدان التي اضطرته ظروف بلده الأم للرحيل عنها والإقامة في هذا البلد الثاني، يعمل بعرق جبينه ويقبل أي وظيفة وجدها أمامه وتحت أي وضع، رغم أن لا حلم له، بعد مُغادرة بلده الأصلي، إلا أن يستمر في الحياة، هذا الضغط النفسي والإرهاق الوجودي، لم يشفع له مع الهيئات السياسية القومية في بلدان الاستقبال، حيث ينسجون مآسي مجتمعاتهم، ويسحبونها على مقياس وجود الأجانب، وهؤلاء القوميون من أولي العارفين بما يتحمله الأجانب من كل الأعمال العضلية والشاقة، ونخبة منهم أصبحت كوادر وتقنيين وأكاديميين وأطرا عليا في مؤسسات بلد المهجر، وبصدر رحب يتفانون في خدمتها، وعلى رأس هؤلاء جميعا، الآتين من بلدان العالم العربي…؟ !!
لا يمكن أن نتحدث في الأمس، وننبش في المسببات، إلا ونحن نرى ونألم، وقعت الفأس –خلاص- وقعت في الرأس، حين نرى الآن انهيار الإنسان العربي كلية، نتيجة لتراكمات كثيرة، من بينها إحساسه الدّفين، بعدم قدرة مؤسسات الدولة على تأمين حياة كريمة له، لأسباب شتى، على رأسها، عدم نُضج وعي العديد منها، بأنها وُجدت أصلا، لحماية كرامة هذا الإنسان في أن يحيى حياة كريمة، الذي به أساسا، ومعه وُجوبا، تقي الدولة نفسها، اعتمادا على مفهوم الدولة الحديث ” الذي يعمد إلى ارتضاء سلطة للتسيير، تحكم بواسطة مؤسسات من الشعب نفسه…” ، وتقي المؤسسات قوامها، من الأمراض والانهيار، بوقاية الإنسان نفسه أولا وأخيرا، “ليس بالخُبز وحده يعيش الإنسان”، قالها النبي موسى لأغنياء قومه، يوم هددوا الفقراء بعدم توفير الخبز لهم إن هم ساندوه، إلى أن وصلنا إلى ما بعد عهد كوبرنيك وصراعه مع الكنيسة حيث بدأ تفسير العقل يناور تفسير الغيب في إثبات الحقائق، إلى أن أتى في فجر عهد الأنوار إيمانويل كانط الذي قال، “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، وما ظهر من بعد ذالك من أفكار ليبرالية، ألهبت الثورتان الفرنسية والأمريكية وأصبح الانتقال من تفسير الواقع بالغيب إلى تفسير الواقع بالعقل والتدليل عليه بالفكر… !!
المشاحنات حول السلطة والحكم، قديمة قدم التاريخ، ولهذا لابد من استحضار ما وقع لبلاد اليونان في القرن الثاني قبل الميلاد، لأنني لست متشائما، ولكن ما أراه من أحداث على الرقعة العربية، ربما يسير في هذا الإتجاه، حيث لا أحد، وُجدت له غيرة على بلده، ويتمنى ذالك.
لقد سعدت بلاد اليونان لفترة بإعلان الرومان، أو ما يسمى “إعلان فلامنيوس”، الذي يعلن عن حريتهم، وهذا كإعلان استقلال الدول العربية من نظيرتها الغربية، وقد سعت القوى الكبرى داخل اليونان، كل من اسبرطة، الإيتوليون والآخيون، إلى محاولة الالتفاف على “إعلان فلامنيوس”، أي حرية بلاد اليونان، بتوسيع نطاق تحالفاتهم للسيطرة على كل البلاد، لكن كان الإستياء واضحا من المهمشين، أي من المدن الصغرى أساسا، مثل ما هم عليه هوامش المدن الكبرى والمدن الصغرى والأرياف في البلدان العربية حاليا، الغارقة في شتى المشاكل الاجتماعية، وخصوصا منها انعدام تأمين مورد العيش اليومي على الأقل، لتأمين الاستمرار الغريزي في الحياة… !!
هذه القوى الصغرى اليونانية، اشتكت لِـ روما من سيطرة أقوياء داخل اليونان على ضعافهم، حال أغلبية البلدان العربية الآن، حيث لا انتخابات ولا أي شيء يعلو على قرار الأقوياء، فما كان من ردِّ روما إلا تفريغ “إعلان فلامينوس”، أي العودة على إعلان حرية بلاد اليونان، حيث كان في الظاهر، استجابة روما الفورية لشكوى الضعفاء، لكنه في الخفاء، كانت أوامر خفية، لكي تُصبح الإغريق خاضعة مرة ثانية لِـ حماية روما، أليس هذا تقريبا، هو الوضع ذاته، الذي عليه الآن أغلب الدول العربية مع الغرب…!!
وهكذا، لم يكن اليونانيون قادرون على تغيير هذا الوضع، ولو باستعمال القوة الخشنة “المسلحة”، أي نفسه، حال ما يقع بداخل العديد من الدول العربية الآن، وحتى عندما حاول “الآخيون” الخروج عن نطاق أوامر روما، بإعلانهم الحرب على “إسبرطة”، تدخلت روما بعنف، ودمرت مدينة “كورنثا” في عام 146 ق . م، وكان هذا السبب المباشر لروما، لتُحطم قوة القوى الداخلية اليونانية، وبذلك أخضعت بلاد اليونان بصورة نهائية للمرة الثانية، وأصبحت هذه المدن مجرد جزء من ولاية مقدونيا الرومانية عام 145 ق.م، وعليه انتهى الوجود السياسي المستقل لمقدونيا وبلاد اليونان.. !!
من طبيعة الإنسان أن يتنافس حتى يصل مستوى المشاحنة، وخصوصا على الحكم والسلطة، لأنها أقرب إمكانية بشرية لتحقيق الغايات في البناء والتقدم والرفاه والحرية، فكل طامح راغب في الحكم، يبحث لنفسه عن شرعيته؛ سواء منها أساسا، السند التاريخي أو السند الإيديولوجي، دون إهمال السند الإثني والهوياتي، وهنا ليس حصرا على الدول العربية، بل أيضا هو موجود في كل بقاع العالم، بما فيها الدول الديمقراطية الغربية حاليا، غير أنه في الدول العربية، كان ولازال، الضحية في هذا الصراع، هو الإنسان. أما في الدول الغربية، فكان الرابح في الصراع على الحكم، هو الإنسان هناك ولازال. كيف…؟
في دول الغرب، عكس الدول العربية، كان صمود الدولة، مع كل التغيّرات الفكرية والإيديولوجية التي حدثت عبر التاريخ، كان صمودا مُذهلا، إذ كل من كان يُناوش الدولة ليتمرد عليها، كان قادرا على أن يعيد بناءها من جديد، ولكن من البديهي جدا، أن يكون بناءا مُحددا قبلا، مرسوم في الخيال بالأفكار، وصورته التي وضعها لها قبلا، مثلا صراع المحافظين في أمريكا مع الإنجليز وحرب الشمال على الجنوب، وصراع الليبراليين مع الكنيسة والمُحافظين ومن بعدهم اليساريين والتقدميين في أوربا، حيث ما إن يتم تمكُّنهم من الحكم، إلا ويترجمون أفكارهم إلى واقع قائم الأركان والأضلع…!!
فثقافة حضور الدولة تبدو في الوطن العربي، ثقافة فوقية، ولم تحضي بعد، بثقافة عمودية أي عبر بناء ثقافي مُقنع وراض في لاوعي الإنسان العربي، الذي لم ينفك أنه وُجد بين لهيب التسلط وجمر الفساد وحُكم عليه في هذا الوضع بأن لا يرى، بل يكتفي بالعمش، إلى أن يجد لنفسه مسلكا ما، وبهذا كانت تفخر بعض الدول التي نجدها منذ بداية القرن الواحد والعشرين وحتى أحداث حراك “الربيع العربي”، تتهاوى من تعدد أمراضها، والتي كانت تعتبر إنجازاتها ما بعدها إنجازات، يعني يمكن القبول بالعمش الذي هو أحسن لهذا الإنسان –المغلوب- من البطش و القتل، وإن نجا منهما، عـدَّ نفسه، ليس أعمشا، بل حُكم عليه بالعمى لكي لا يفتن نفسه، بما لم ولن يكن له، في ظل هكذا أوضاع لا تهتم لحياته، ما بالك أن تهتم لكرامته أو أن تعتبر لإنسانيته… !!
عكس حضور الدولة لدى الإنسان الغربي، وخاصة منه حامل الفكر اليساري المعتدل، المدافعين عن العدالة الاجتماعية لمواجهة السيطرة المطلقة للكنيسة والدولة معا. الغرب تقدم بالأفكار وتضحيات مثقفيه الكبار الذي كان ينهل منهم اليسار المعتدل، لدفع الدولة القائمة بالتدرج إلى إدراك أهمية التعديلات الاجتماعية التي أُدْخِلَت، لتطوير أنظمة الحكم والفكر والتشريع.
في البلدان العربية، الوعي بالحقوق، بقي حبيس النخب، والشعب بقي حبيس المفهوم الخاطئ للدولة، على أنها السلطة والحكومة وليست الشعب أيضا، لهذا صار الشعب يستبعد نفسه من أي طلب للدولة، ونتج عن ذالك من يُروج لـ “هيبة الدولة”، ولا يفهم بأن هذه “الهيبة” لن تكون إلا من احترام “هيبة -الإنسان-المواطن” وحقه على مؤسسات الدولة أولا وأخيرا، إلا أنه هذا الخلط هو ما أنتج من الأساس، أسباب الانهيار للدول القائمة، وكان نذيراً لذوي الألباب بأن الحكم الاستعلائي الاستبدادي المطلق، الذي لا يرى للشعب حقه في حكم نفسه بنفسه، ولا يعترف له بأيٍّ من الحقوق الإنسانية، لن يكون قادرا على الصمود حيث أخل بأسه “الإنساني”، ولذالك نرى تهاوي هذه الدول ليس بسبب تعدد أمراض مؤسساتها وحسب، بل بسبب أفكار استمرار طواحين الهواء في الدوران فيها .. !!
كم نحتاج في مختلف بلادنا العربية من “دون كيشوت” بطل رواية “سرفانتس”، الذي قارع طواحين الهواء هؤلاء، ولو في الخيال السردي الروائي، فكان رمزاً للنبل والشهامة الساعية لخير الإنسانية، كان الصوت الذي يعلو صُراخه بالعدالة في عالم حافل بالمظالم، كان رمز المثقف الواعي بمعاناة من حوله، ولو أنه كان في البرية وحيدا، ويبدو أنه كان صوتا خافتا، غير أنه ترجم وبأسلوب رائع وخالد كيف يجب على المثقف أن يمثل ضمير الإنسان والإنسانية، ضد الظلم والنفاق والخديعة والوضاعة والإملاق، كم نحتاج من “دون كشوت” ومن “غرامشي”، الذين لهم شجاعة قول “لا” في الوقت الذي يقول فيه الجميع “نعم”… !!
_______________
للتواصل: E-mail : drissi-omar1@live.fr