حوار مع الروائي التونسي محمد علي اليوسفي


حاوره : ساسي جبيل *


مسافراً عاش محمد علي اليوسفي حياته، موزعا بين تونس ودمشق وقبرص وبيروت وعواصم أخرى في أرض الله الشاسعة، وموزعا كذلك بين الرواية والشعر والترجمة والنقد والفلسفة، كان من أوائل الذين انتبهوا إلى أدب أميركا اللاتينية فقدم ماركيز وأوكثافيو باث واستورياس وساموديو وكاربنتييه وغيرهم إلى القراء العرب، كما ترجم باتاي ولوكاتش وكازانتزاكي وموباسان وماكس هوركايمر وغيرهم…. قدم مدونة إبداعية أدبية تراوحت بين الشعر والرواية، وقبل أن يعود إلى بلده الأم تونس أصدر اليوسفي 30 كتابا، إلا أنه ظل غريبا في وطنه، في هذا الحوار تجولنا في عوالمه الأدبية الرحبة، وطقوس كتاباته المختلفة.

◆ كنت وراء ترجمة العديد من الأعمال العالمية إلى اللغة العربية، ولم يقتصر الأمر على الرواية بل تعداها إلى النقد والفلسفة والدين والسيرة والسينما والرحلات، كما أصدرت العديد من الأعمال الإبداعية الخاصة بك، أين أنت كمبدع خلال الترجمة؟


◆◆ وقت الكتابة لا يمكنني أنْ أترجم، وخلال الترجمة يكون الذهن ذاهباً إليها، متفرغاً لها، فلا مجال للكتابة وقتها إلا إذا تعلق الأمر بملاحظات أو شذرات هاربة. مسألة الترجمة تدخلنا في مملكة جديدة لا تخلو من اكتشاف وإرهاق، ومعايشة لأساليب أخرى وأقوام آخرين، سوف يبقى لنا من عاداتهم، لاحقاً، أثرٌ ما. لكنها تجعلنا نجاور كتاباً آخرين، أيضا على مستوى أساليب الكتابة: فلحظة الترجمة، وبعد معايشة أولية، هي لحظة مساكنة لأسلوب شخص آخر.

ترجمت سيرة نيكوس كازانتزاكي التي كتبتها زوجته في وقت قياسي، هل يمكن اعتبار الترجمة حرفة قبل أن تكون إبداعاً، وكيف تقرأ هذا التداخل؟

◆ ◆ لم أكنْ أنوي احتراف الترجمة، بل أنا حتى الآن لا أدعي احترافها. لي متسع من الوقت بلا وظيفة معتادة. فلتكن الترجمة هي عملي مثلاً.

◆ عندما يكون المبدع مترجما، هل يتأثر نصه بما يترجمه، وهل تختار ما تترجمه حسب ذائقتك الأدبية أم بناء على طلبات دور النشر؟


◆ ◆ حتماً سيكون هناك تأثر. وظهور هذا التأثر يختلف، من حيث الدرجة، عند الكاتب المبتدئ عنه لدى الكاتب الذي شق طريقه ووجد أسلوبه. هذا المستوى الثاني يترك مجالا لاستفادة المترجم مما يترجم، وهي استفادة تشبه، وإنْ بدرجة أوثق، استفادة الكاتب الذي لا يترجم من الكتب التي يطالعها.

نعم، اعتدت اختيار الكتب التي أترجمها. لذلك لاقت نجاحاً عندما واكبتْ ما يجري في العالم. خصوصاً بعد أنْ نال بعض من ترجمت لهم جائزة نوبل، مثل ماركيز وأوكتافيو باث. الناشر لا يغامر مثل هذه المغامرة. ويفضل الأسماء القديمة المعروفة، وربما المتخلصة من حقوق النشر، وقد يُعاقِب المترجمَ ببرم شفتيه أمام أسماء جديدة معقدة، لتكون الطعنة موجهة إلى ما سيقبضه المترجم من مكافأة. الاشمئزاز الأول يتحول إلى استنفاد للأسماء المكتشفة حديثاً والسعي إلى ترجمة كل أعمالها.

نحن والآخر
◆ هل علينا أن نترجم للآخر قصد نقل إبداعه ومعارفه، أم علينا أن نترجم له أنفسنا ليقترب من ثقافتنا؟


◆ ◆ بالتأكيد لا بدّ أنْ نترجم للآخر، حتى ولو كنا أقل حاجة إليه، فالترجمة عملية نبيلة لا تنتهي بوصول الأمم إلى أوج حضارتها، بل هي تزداد مع تقدم تلك الحضارة. أما بالنسبة لترجمة أعمالنا إلى الآخر فهذه العملية تتوقف على نوعية الترجمة: من يختارها ومن يدعمها، فكثيراً ما تتحول الترجمة إلى مجاملات وطنية ورسمية. هنا لا بد من إعمال الضمائر والهيئات المستقلة والمحايدة.

◆ إلى أي مدى أثرت فيك صفة المبدع في ترجمتك لأعمال عالمية؟


◆ ◆ هنا تتدخل سعة الاطلاع وإجادة اللغات الأجنبية والذائقة والقراءة المكثفة. أما صفة أن يكون المترجم مبدعاً فهي، كما أزعم، تضيف إلى الترجمة الكثير. فلا أنجح من ترجمة قصيدة من طرف شاعر، ولا أفضل من ترجمة رواية حديثة بلغة حديثة لا تسعى إلى ترجمة النص الجديد بلغة عربية متأصلة في التراث كما فعل، ويفعل بعض المترجمين، حارمين قراءهم من صياغات حديثة يتعين نقلها كما هي ليس من باب الدقة فحسب، بل من أجل إثراء اللغة المنقول إليها أيضاً.

العرب والقراءة

◆ العرب لا يقرؤون قياساً بمجتمعات أخرى، وعلاقتهم بالكتاب تكاد تكون منعدمة في هذا الزمان مع أن ثقافتنا العربية الإسلامية مبنية على الكتاب كمعين معرفي أساسي، ما هي برأيك الأسباب الكامنة وراء ذلك؟


◆ ◆ أسباب كثيرة ومعقدة. ربما يكون عنوانها الأساسي هو التخلف الحضاري العام والتواكل على مستحضرات ما ينتجه لنا العالم. قيمة الكتاب لا تدخل أيضا في « تقويم» نوع الإنسان الموجود أمامك. عندنا الفلوس أهم من ثقافتك. وثقافتك لا تميزك كثيراً عن غيرك، ولا تمكنك من إثارة رغبة زملائك في العمل كي يقتفوا أثرك لتحسين رتبهم الوظيفية. ظروف أخرى كثيرة لا حاجة إلى الإطالة حولها، مثل الفقر والأمية والجوع، وكلها تنضوي تحت العنوان الكبير الأول…

◆ محمد علي اليوسفي المبدع شعراً ورواية، هل قدم إلى حد الآن المدونة الأدبية التي أراد، أم أن مشروعه الأدبي الخاص أخذت منه الترجمة كل وقته؟


◆ ◆ قدمت وما زلت أقدم، لكنني لا أدّعي أنني حققت ما أصبو إليه، هذا السؤال يصور الترجمة وكأنها ملاذي اليومي، كلا يا سيدي، لا أترجم إلا في أوقات البيات الكتابي. ولم تعرقل الترجمة كتاباتي بل أفادتها وأغنتْها. لنقل إن بعض الكتاب يمارسون وظيفة حكومية وأنا أمارس وظيفة مختلفة اسمها الترجمة في أوقات متقطعة.

الغريب

◆ رغم النجاح الكبير الذي حققته أعمالك الإبداعية وترجماتك المختلفة من إشعاع في كثير من البلدان شرقاً وغرباً، إلا أنك بقيت غريباً في تونس كصالح في ثمود… هل اخترت أن تدخل تونس من وراء البحار والمحيطات؟


◆ ◆ لكنني مررت بتجارب وجغرافيات متعددة سواء في العيش أم في مجال الترجمات، حتى ما يُسمّى بـ «الثورة التونسية» استقبلتها بتراكماتي وتجاربي، فأعادتْ لي لاحقاً بعضاً من أصدقائي الذين تنكبوا معاداتي في الأيام الأولى الحماسية! هذا السؤال يحاول أنْ يؤلمني، لكنه بدلاً من ذلك يرجع بي إلى بعض «الآفات» التي أتحلّى بها: أبرزها أنني لا أخوض غمار الساحات ولا أطيل عند طائفة المحسوم أمرهم منذ بداية تاريخ الكتابة، طبعاً بعد محاولات تقرّب فاشلة. أكتب وكفى. وحتى الإعلام أتعامل معه ببخل لأنه وسيلة تدمير تسعى إلى إثبات نفسها وتأكيد نجاحها أكثر من اهتمامها بـ «الطبق» الذي تقدمه (هل تتذكر هذا التعبير في إعلامنا الثقافي: طبق؟ وجبة دسمة؟).

◆ تقول دائماً إن الشعر يتميز بسرعة التفاعل مع الحدث وفي ذلك مكسبه ومقتله أيضاً، هل لك أن تبين لنا ذلك؟


◆ ◆ في ذهني ما كُتب عن الانتفاضة الفلسطينية سابقاً. وفي ذهني الآن ما يُكتب عن «الثورات العربية». سؤال: ماذا تبقى من شعر الانتفاضة؟ وهو السؤال نفسه الذي يمكن أن يطرح على شعر «الثورات».

ما دعوته «المكسب» يأتي من الحضور السريع لمواكبة الحدث، و«المقتل» يأتي من كون كل سرعة وتسرّع قد يؤديان إلى التهلكة. وهناك أيضاً مسألة أساسية تتعلق بجوهر الشعر ومفهومه: يتبنّى الانفعالات أم يعيد صياغتها وإنتاجها؟ يحلق فوق ذرى إنسانية أم يستلقي تحت أقدام بشرية باسم الشعب وباسم التغيير؟

زمن الرواية

◆ ظهرت في السنوات الأخيرة أعمال روائية عربية مهمة استطاعت أن تفرض حضورها في المشهد الثقافي العربي، ما هي برأيك أسباب الصحوة الروائية العربية؟


◆ ◆ ربما يكون ذلك من نتائج الترجمة لأعمال عالمية. أضيف أيضاً، التحاق المرأة بالكتابة وازدياد أعداد الكاتبات المتميزات في كل البلدان العربية والمهاجر. ثم انتشار ظاهرة الجوائز وترجمة النصوص الفائزة. وسهولة نشر الرواية نسبياً مقارنة بنشر الشعر، إلخ…

◆ يذهب الكثير من النقاد إلى القول بأن الزمن هو زمن الرواية كجنس أدبي طاغ، ماهي برأيك الأسباب الكامنة وراء ذلك؟


◆ ◆ قيل ذلك كثيراً، وما زال يُقال، لعلّ الرواية ما زالت تستفيد من فنون العصر وتفيدها. فالروايات هي مثلا، أفلام لم يتم نقلها إلى الشاشة. وهي ربما أيضاً ما زالت قادرة على توفير التسلية في عالم ينحاز إلى الصورة. تتفوق على الشعر- من حيث الانتشار- بكونها لا تكاد تشتغل كثيراً على اللغة، ولا تقسّم جمهورها بين محب للقديم ومحب للجديد ومدافع عن التفعيلة أو عن قصيدة النثر: هي رواية جديدة في كل الأحوال، ولا تنتمي كثيراً إلى التراث، خصوصاً عندنا، نحن العرب. يضاف إلى ذلك أنّ الإنسان بطبعه يحب الحكاية: يسمعها أو يحكيها، أو يختلقها. أما الشعر فكان ولا يزال في الأغلب الأعم مقتصراً على أهله وعلى بعض المستأنسين به.

كيف تقيم تعامل دور النشر العربية مع المبدعين عموما والمترجمين منهم بالخصوص؟

◆ ◆ صارت لي عداوات كثيرة مع ناشرين ودور نشر. فأرجوك لا تزد الطين ناشراً آخر.

◆ هل سيساهم صعود التيارات الإسلامية في الوطن العربي في انحسار الإبداع؟


◆ ◆ قد يحدث ذلك، وقد لا يحدث إلا جزئياً، علينا في هذه الحال أن نستقرئ حالات الإبداع في بلدان مرّتْ أو تمرّ بتجارب إسلامية….. أخشى أنْ نكون نحن الأسوأ دائماً في الإتيان بنماذج قاتلة، لا تقبل بالتصوف ولا برؤى الباطن ولا بكرامات الأولياء التي تشكل جزءاً مهماً من الضمير الجمعي.

– الإتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *