إعادة اكتشاف حسّ الدهشة المخبوءة في أعماقنا: حوارٌ مع الكاتب الرؤيوي إرنستو ساباتو (1)

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

     معلّمي الأكبر : هذا هو الوصف الذي أراه منطبقاً تماماً على الكاتب ( إرنستو ساباتو Ernesto Sabato ) ، بل أنني أرى الرجل مستحقاً ليكون أحد ( غوروهات ) الإنسانية على مرّ العصور .

       ولد إرنستو ساباتو في الرابع والعشرين من يونيو عام 1911  في مدينة روخاس – مقاطعة بوينس أيرس – الأرجنتين ، وفي عام 1929 التحق بكلية العلوم الفيزيائية والرياضيات بجامعة لا بلاتا القومية ، وكان أحد الناشطين في حركة الإصلاح الجامعية . أختير عام 1933 لمنصب السكرتير العام لإتحاد الشباب الشيوعيين، وفى خلال دورة عن الماركسية تعرف على ( ماتيلدا كوسمينسكي ريختر ) : الطالبة ذات السبعة عشر عاماً والتي تركت منزل والديها لتعيش معه ، ولكن في عام 1934  بدأ يشعر بعدم الثقة في الشيوعية وفى ديكتاتورية  ستالين ، وعندما تنبه الحزب لذلك التغير قرر إرساله لمدة سنتين إلى المدارس اللينينية في موسكو التي كانت طبقاً  لكلمات ساباتو ( مكاناً حيث يتعافى الأشخاص أو ينتهى بهم الأمر في معسكرات العمل أو في أحدى مستشفيات الأمراض النفسية ) .

     في عام 1938 حصل ساباتو على الدكتوراه في الفيزياء من جامعة لابلاتا القومية، وفي عام 1939 انتقل إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT  قبيل أندلاع الحرب العالمية الثانية  ، وفي عام 1940 عاد إلى الأرجنتين من جديد ولكنه كان قد قرر ترك المجال العلمي ؛ غير أنه عاد ليخدم كأستاذ في جامعة لابلاتا . في عام 1943 – وبسبب أزمة وجودية قاسية الوطأة – قرّر أن يتقاعد نهائياً من المجال العلمي ويكرّس نفسه للأدب والرسم ثم استقر بعد ذلك في بانتانيو – قرطبة  ليعيش في مزرعة بدون وجود ماء ولا كهرباء  ليتفرغ للكتابة  وحدها .

     توفي ساباتو بمنزله  في الصباح الباكر من يوم 30 أبريل ( نيسان ) عام 2011 – قبل أن يكمل المائة عام بخمسة وخمسين يوماً – بعد إصابته بالتهاب رئوي استمر لبضعة أشهر .

 يعرَفُ من أعمال ساباتو ثلاثيّته الروائية :

  •  النفق ( 1948 )

  • عن الأبطال والقبور (1961)

  • ملاك الجحيم  (1974 )

وله العديد من كتب المقالات المنشورة .

                      *  *  *  *  *

8

 أظن أن من المناسب إلقاء بعض الضوء على رؤية ساباتو للمستقبل الإنساني ومصير مجتمعاتنا البشرية وبحسب ماورد في تقديم  مترجم كتابه ( الممانعة )* :

     يغادر أرنستو ساباتو الروائي والفيزيائي والمفكر موقع الروائي في كتابه ” الممانعة ” مقترِحاً نصوصاً وأفكاراً ترمي إلى إيقاظ البعد الإنساني فينا ويخبرنا بوضوح أنّ شرط تلك اليقظة لا يتم إلا إذا كنا نرغب حقاً في حياة أخرى ممكنة ولدينا المحفزات الكافية لتغيير المسار وسط هذه الأرض اليباب التي تطوقنا سواء في بيوتنا أو مدننا أو مواقع عملنا أو في مؤسسات الحكم التي تحاصرنا وتتحكم بالمصائر، يقول ساباتو : ” فلنمنح أنفسنا بعض الوقت ، لنحلم بالرفعة التي يمكن أن نصبو إليها مرة أخرى إن نحن تجرأنا على النظر إلى الحياة بطريقة مختلفة عن المألوف ” . إنّ ما يدعونا إليه ساباتو هو المجازفة بأشياء كثيرة من أجل أن نعيد لشخصياتنا البعد الإنساني الحقيقي الذي افتقدناه ، وينعى علينا في عصر الهيمنة العولمية هذا التواصل التجريدي الذي يبعدنا عن جوهر الأمور معتقداً أن تواصلنا المجرد يدعُنا نغوص في لامبالاة ميتافيزيقية جائحة، بينما هناك كيانات خاصة مشخصنة غير مرئية تحتكر السلطة وتنفينا عن واقعنا ، فيتساءل : ” هل يمضي الإنسان في طريقه التراجيدي إلى خسران إمكانية الحوار مع الآخر؟” . جوابنا سيكون نعم وحتماً ؛ ففي العالم الافتراضي تتوالد ملايين الأقنعة والأكاذيب والتوهمات والأخيلة الكاذبة والخداع  تفضي في معظمها إلى تقليص فرص التعرف الحق على عالمنا المحيط بنا ؛ فبين المسافات الحقيقية والسير في الطرقات وبين أحضان العالم الواقعي تحدث اللقاءات المباشرة ويتمكن الإنسان من تأسيس رؤية عقلانية لواقعه ويمتلك إمكانية عقد علاقات المحبة عبر الحوارات الدافئة المباشرة بين البشر، وقد يظن المولعون بالفضاء الإلكتروني أنهم كائنات متصلة مع العالم كله بينما هم في الحقيقة معزولون عن إنسانيتهم والجماعة البشرية. يعقّب ساباتو قائلا : ” إن الجلوس أمام شاشة التلفاز بانتظام يؤدي إلى تخدير الحساسية ويثبط الهمة العقلية ويحط من قدر الروح الإنسانية ” .

     لا يمكن حسب رؤية ساباتو أن ينحني الإنسان احتراماً لمن يختلسون أموال الشعب المخصصة للتعليم والخدمات ، ويسرق آخرون صناديق مؤسسات المجتمع المدني ، لكن المشكلة تكمن كما يرى في الإعلام العولمي ؛ فالفضائيات الدولية تقدم اللصوص والقتلة باحترام وتقدير وكأنهم أناس شرفاء يحتفي بهم مقدمو البرامج أمام أنظار الملايين بخاصة الأطفال والمراهقين ممن تبهرهم الشهرة والشخصيات المتأنقة على الشاشة السحرية ، ويرى ساباتو أن تقديم هؤلاء في الإعلام واعتبارهم شخصيات مهمة بمستوى الاقتداء والانبهار بدل معاقبتهم ” لهو من أكبر الأعمال الأخلاقية المنحطة التي تسهم في جرح مشاعر الناس ” . يعزو ساباتو إلى أمثال هذا الأداء الاعلامي المزيف للحقائق مدى الإحباط الذي يصيب المجتمعات وهي تقف عاجزة وكأنها تتواطأ مع الأنظمة التي تبيح سرقة حيوات البشر وأحلامهم فتجنح إلى الخنوع والرضوخ أمام هؤلاء الذين يحتقرون القيم الإنسانية ولا يُعاقَبون على جرائمهم وكنتيجة للصمت الموجع لا بد أن يقود إحساس المجتمعات بالإحباط والعجز إلى تبني سلوك الكراهية والنقمة والعنف غالباً للرد على الموجة الجائحة المتمثلة في هيمنة اللصوص وسرقتهم مخصصات التعليم والعلاج والإعمار والتنمية وتسببهم في الانحطاط الشامل للقيم والتنمية والتعليم في بلدانهم .

 3281ee2894df619ea24cb91f54900ae5

      هذا هو القسم الأول من الحوار مع ( إرنستو ساباتو ) المنشور في الموقع الالكتروني ( رسالة اليونسكو  The Unesco Courier ) الذي أعاد نشر الحوار كتحية وداع لساباتو عقب وفاته عام 2011 .

 * أرنستو ساباتو : كتاب ( الممانعة ) ، ترجمة وتقديم : أحمد الويزي –  كتاب مجاني صدر مع مجلة ” الرافد ” في عدد ديسمبر 2010 التي تصدر عن دائرة الثقافة والإعلام – حكومة الشارقة .

                                                             المترجمة

 

 

 الحوار

—————–

 

*  يُعرَفُ عنك كتابتك العديد من المقالات التي تكشف فيها عن التأثيرات المضادة للإنسانية التي يمكن أن يتسبّب بها العلم والتقنية ، ونلمح هذا الميل لديك بخاصة في مجموعة مقالاتك المنشورة عام 1951 تحت عنوان ( رجال وتروس Men and Gears ) . كيف تأتّى لشخص تلقّى تدريباً علمياً راسخاً مثلك أن يرى الأمور مثلما فعلتَ في كتاباتك ؟

–  درستُ الفيزياء والرياضيات في بواكير حياتي ، وقد منحني هذان الحقلان المعرفيان نوعاً من الهجرة التجريدية والمثالية نحو “الفردوس الأفلاطوني ” بعيداً عن الفوضى التي تطبق على خناق عالمنا ، ولكني سرعان ما وجدتُ أن الإيمان الراسخ غير المقيد وغير المشروط الذي يكنّه بعض العلماء لموضوعات الفكر ” الخالص ” والعقلنة الكاملة والتقدّم المضطرد جعلهم يغضّون الطرف عن  ( بل وحتى يزدرون ) موضوعات إنسانية جوهرية في هيكلة الوجود البشري مثل : طبيعة اللاوعي ، والأساطير التي تقع في موضع القلب لأيّ تعبير فني ذي أصالة – أي باختصار أهمل هؤلاء العلماء ” المعقلنون ” كل شيء ذي صلة بالجانب ( الخفي ) من الطبيعة البشرية. من الطبيعي القول أن كلّ هذه الموضوعات المؤثرة كنت أفتقدها بجدية في عملي العلمي الخالص في بواكير حياتي : كنت أفتقد السيد ( هايد ) الذي يحتاجه كل ( دكتور جيكل ) ليكون إنساناً ساعياً لمراتب الكمال ، ومن جانبي فقد وجدت ( السيد هايد ) الخاص بي في الرومانتيكية الألمانية وقبلها في الوجودية والسريالية ، وحصل في وقتٍ ما من حياتي أن أشحتُ بنظري بعيداً عن خوارزمياتي ومنحنياتي المثلثية ومضيتُ أنظر في وجه البشرية ، ومنذ ذلك الوقت لم أسمح لناظريّ بأن تزوغا أبداً عن ذلك الوجه .

 

*  لكنّ بعضاً من أعاظم الكتّاب المعاصرين وجدوا في أنفسهم القدرة على بلوغ نوعٍ من المصالحة التوفيقية بين العلم والمجالات الإبداعية ؟

–  قد يكون الأمر كذلك ، لكنّ هذا لايقلّل من شأن قناعتي بأن عصرنا الحالي بات موسوماً بتعاظم شقة الخلاف بين العلم والإنسانيات – ذلك الخلاف الذي غدا عصياً على أية مصالحة مزعومة ؛ إذ منذ عصر التنوير ( الأوربي ) وأيام الموسوعيين العظماء ، وقبل هذا منذ سيادة الفلسفة الوضعية* positivism صار العلم يحقق إنجازات مدهشة لكن في مقابل مايشبه ( الهزيمة الأولمبية ) التي تنهش في جسد الإنسانية ، وباتت سيادة العلم والإرتقاء المصاحب له على معظم القرنين التاسع عشر والعشرين كفيلة بتقزيم الفرد وجعله ليس أكثر من ترس صغير في آلة عملاقة ، وأرى أن المنظّرين الرأسماليين والماركسيين ساهموا جميعاً في ترسيخ هذه النظرة المشوّهة والباعثة على الحزن : نظرة الفرد الذي ” يذوب ” في الجموع حيث يُختَزَلُ شقاء الروح وعذابها المروّع إلى محض إنبعاثات إشعاعية يمكن قياسها فيزيائياً !!

 

*  نعم ، بل وحتى في القرن التاسع عشر نما تيار فلسفي راح يُسائلُ الصرح الفلسفي الشاهق الذي أنشأه هيغل وأناخ به على الفرد حتى كاد يسحقه . يحضر هنا كيركيغارد الذي كتبتَ عنه مطوّلاً وبكثافة …

–  كيركيغارد هو المفكّر الأول الذي طرح السؤال الإشكالي حول أيهما له العلوية والأسبقية : العلم أم الحياة ؟ وقد أجاب من جانبه وبصرامة قاطعة أن الحياة تأتي في المقام الأول وتتقدّم على كل ماعداها ، ومنذ ذلك الحين راحت الأشياء التي يجعلها العلم في موضع المركز في الكون تُزاحُ لصالح إحلال الفرد – كما نراه أمامنا – محلّها ؛ الأمر الذي قاد لاحقاً إلى ذيوع أفكار ( كارل ياسبرز ) و (مارتن هايدغر ) والفلسفة الوجودية للقرن العشرين التي ما عاد فيها الفرد مراقباً علمياً نزيهاً للحوادث حسب بل صار يُنظر له كذاتٍ فيزيائية مجسدة ” قُدّر لها أن تموت … ” وهو ماكتبت عنه وأراه أصل ومصدر كل المأساة والميتافيزيقا البشرية وأعلى أشكال التعبير الأدبي وأكثرها رقياً وأهمية .

 

*  ولكنها ليست الأشكال الوحيدة بالتأكيد ؟

–  بالطبع هي ليست الأشكال الوحيدة للتعبير الأدبي ، ولكني أراها – بقدر ما يختصّ الأمر بي – الأشكال التعبيرية الأكثر أهمية بسبب البعد المأساوي والميتافيزيقي المُفارق(الترانسندنتالي  transcendental ) الذي تنطوي عليه : يمكن للمرء في هذا الموضع مثلاً أن يدقق النظر في عمل دوستويفسكي الموسوم ( مذكرات من العالم السفلي ) – تلك الخطبة اللاذعة التي وسمت بكراهيتها الجنونية العصر الحديث وطائفة العابدين لفكرة التقدم المضطرد .

 laresistencia

*  إذن إنتاجنا الأدبي يمثل منقذاً  في وضعنا الراهن ؟

–  نعم ، لأن الرواية يمكنها التعبير عن تلك الموضوعات   البعيدة عن متناول الفلسفة أو المقالة مثل شكوكيّاتنا المؤلمة بشأن الله ، القدر ، الأمل ، معنى الحياة …   

   الرواية من جانبها توفّر إجابات لكل أنواع الأسئلة البشرية ( المأساوية والميتافيزيقية ) ، وهي لا تفعل هذا الأمر بسذاجة من خلال التعبير عن الأفكار حسب بل من خلال الرمز والأسطورة ومحاولة ترسيم الخواص السحرية للفكر الإنساني . إن كل شخوص الروايات العظيمة هم حقيقيون بقدر حجم الحقيقة التي يحملها ” الواقع ” ذاته : هل يمكن عدّ ( دون كيخوته ) غير حقيقي ؟ إذا كان الواقع يحمل صلةً ما بفكرة ( الدوام الإستمرارية ) فإن شخصية ( دون كيخوته ) التي خلقها خيال سرفانتس هي حقيقية أكثر بكثير من تلك الأشياء التي تحيط بنا لأنها ( أي دون كيخوته ) شخصية خالدة لايقوى عليها الفناء .

 

هوامش المترجمة:

 

* الفلسفة الوضعية : إحدى فلسفات العلوم التي نشأت على يد  الفيلسوف والعالم الاجتماعي الفرنسي الشهير أوغست كونت . ترى هذه الفلسفة أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة المستمدة من التجربة الحسية  والمعالجات المنطقية والرياضياتية لبيانات تلك التجربة التي تعتمد على الظواهر الطبيعية الحسية وخصائصها والعلاقات بينها والتي يمكن التحقق منها من خلال الأبحاث والأدلة التجريبية.نشأت هذه الفلسفة كنقيض لكلّ من  اللاهوت والميتافيزيقيا اللذين يعتمدان المعرفة الإعتقادية غير المبرهنة .

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *