مخارج التجارب التعاونية من الأزمة الإقتصادية

خاص- ثقافات

*د.زهير الخويلدي 

توطئة:
” الاقتصاد التضامني هو من هذه الظواهر التي يمكن إما أن تكون انتقالية وإما أن تشارك في انبثاق نموذج جديد من التنمية”1
لا يقدر المرء على فهم العالم المتأزم وتفسير الأحداث السياسية وانعكاساتها الاجتماعية ورصد الحقبة التاريخية والالمام بحيثياتها الدقيقة وتفاصيلها الجزئية إلا بالانطلاق من البنية التحتية والاعتماد على النشاط المادي للبشر ودراسة الحياة الاقتصادية والرجوع إلى شغل العمال في الحقول والمصانع والتعرف على حركة الأموال ونبض الأسواق وطبيعة المبادلات وقيمة العملات في البورصة ومؤشرات النمو.

أهمية تناول المسالة الاقتصادية:
كل شيء يتشكل من خلال الاقتصاد: المال قوام الأعمال، المال هو المهجة الحقيقية للأشياء، اذ من يمتلك المال يمتلك كل السلطات.
تأكيد التلازم بين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي
العمل مصدر الثروة وسر التقدم الاقتصادي وليس ملكية الثروات والموارد الطبيعية.
الاقتصاد الإنتاجي يحقق شروط الاستقلال الحضاري والسيادة التامة للدولة
البنية التحتية هي التي تحدد البنية الفوقية والعامل الاقتصادي هو المحدد للوعي وللحياة الاجتماعية.

طرح المشكل : دواعي الأزمة الاقتصادية، الركود، البطالة، غلاء الأسعار، الانكماش، تدهور المقدرة.
من أين يمكن تناول الأزمة الاقتصادية؟ ماهي المداخل الشرعية؟ وهل توجد مخارج مشرفة من الأزمة؟
كيف يمكن طرح المشكل الاقتصادي؟ هل من جهة السياسة أم من جهة العلم؟ ما دور النقد الفلسفي في تحييد الإيديولوجيا والتنبيه على المنهج؟ وما الفرق بين الذاتي والموضوعي في مطلب التنمية الاقتصادية؟
متى تتدخل الدولة قصد التوجيه والمراقبة والتشجيع ومتى تتوقف وتفسح المجال للمجتمع المدني في نسختها الاقتصادية وتتيح الفرصة للمبادرة الحرة والانتصاب للحساب الخاص من أجل الفائدة العامة؟

16649493_10211855094561383_6420253089942660615_n
أليست المشاكل السياسية والاجتماعية والثقافية هي مشاكل اقتصادية بالضرورة؟ وما علة ذلك؟ وهل هي فشل المنظومة الاشتراكية أم بؤس النظرية الرأسمالية وفوضى السوق وتحول الإنسان إلى بضاعة؟ أين يمكن للمرء أن يبحث عن الحلول؟ هل في التركيز على البعد التشاركي الاجتماعي أم على بعد التضامن؟ ما ذا يعني اقتصاد تضامني؟ ومتى ظهرت الفكرة؟ ومن طبقها على أرض الواقع؟ وهل نجحت التجربة؟ والى أي مدى يمكن اعتمادها في البلدان التي تعيش حال مخاض بعد اندلاع حركات الاحتجاج الشعبي؟  وما الحاجة إلى الاقتصاد التضامني؟ هل لأزمة القطاع العام غير المنتج أم بسبب طفيلية القطاع الخاص؟

المبررات:
النجاح على مستوى الانتقال الديمقراطي في تونس لم يرافقه تقدم في مؤشرات التنمية على مستوى الاقتصادي ( نسب النمو، فرص الشغل، القضاء على التضخم والمديونية، التوازن بين العرض والطلب وبين الصادرات والواردات، والسيطرة على الاقتصاد الموازي، توفير السيولة المالية الكافية، استقرار الأسعار، وتأمين القدرة الشرائية للمواطن، معالجة مشاكل البنية التحتية في المدن والجهات الداخلية).

بقاء أنماط الإنتاج القديمة وصمود الاقتصاد التقليدي ضمن رؤية انعزالية عن العالم وتضارب السلوك الاقتصادي للناشطين مع المصلحة الشخصية والسلوك العقلاني واعتماد اقتصاد المحافظة على الوجود.

فشل المنوال التنموي الذي تم اعتماده منذ دولة الاستقلال الذي تراوح بين التخطيط المركزي في الستينات وانتهاج سياسة الانفتاح والشراكة في السبعينات، وتزايد المشاكل التي تمت فيها عملية الخصخصة لجانب من الاقتصاد الوطني وإعادة الهيكلة التي بدأت منذ 1986 بالنسبة للمؤسسات الناجحة في القطاع العام.

العبء الكبير الذي تمثله بعض القطاعات الحيوية على ميزانية الدولة بالنظر إلى حجم الإنفاق وفشلها في إدارة مواردها المالية بالاعتماد على ذاتها وتزايد مديونيتها وتعطل مشاريعها بسبب العجز الذي تعاني منه مثل الصناديق الاجتماعية والبنوك العمومية وقطاع الخدمات والمصالح غير المنتجة من الناحية الربحية.

اشتداد الأزمة في المجال الاقتصادي على مستوى البرامج والرؤى والخيارات والبدائل بعد انحراف النمط الاشتراكي إلى اقتصاد غير منتج وخال من التنافس وتعولم النموذج الرأسمالي وتوحش آليات الإنتاج وظهور ملامح الاستغلال والاحتكار على مسالك التوزيع والاستهلاك. فهل الاقتصاد التضامني هو خيار ثالث بين الليبرالية والاشتراكية أم هو نظام اجتماعي للدولة الديمقراطية؟ لماذا يظل مجرد بديل انتقالي؟ والى أي مدى يصلح لكي يكون منوالا دائما للتنمية والتحديث؟ وماهي المآخذ والمنزلقات التي يعاني منها؟

المشاكل:
–       انعدام التكامل الوظيفي بين الاقتصاد العالمي والاقتصاد الوطني والاقتصاد المحلي.
–       ابتلاع القطاع الخاص للاقتصاد العام على مستوى الإنتاج والتبادل والاستهلاك أو العكس.
–       اكتساح الاقتصاد الموازي المسالك التقليدية التي كان يعتمدها الاقتصاد الوطني بشكل رسمي.
–       انتشار الفساد في المعاملات وتفشي ظاهرة التهريب للمواد المدعمة والتهرب الجبائي.
–       غياب القدرات الإنتاجية والاقتصار على التحويل وملء البطون وضعف الطاقة التشغيلية.
–       اختلال في إدارة السلوك الاقتصادي واضطراب في إنتاج المنافع واحتكار في السوق وعدم تكافؤ في مجال توزيع الخدمات وغياب التكامل المرجو بين الفلاحة والصناعة والتجارة والخدمات.
–       صعوبة الانتقال من الظواهر المجهرية والمحلية والقطاعية في الأنشطة الاقتصادية إلى القوانين الكلية والمبادئ العامة والمنظومات النسقية التي تتيح إمكانية الصياغة الصورية للبعد الاقتصادي.
–       بروز رأسمال طفيلي يتطور عن طريق المضاربة والسمسرة والاقتصاد اللامادي ويتحرك بقوة في الفضاء الافتراضي ويقطع من الأنماط الكلاسيكية للإنتاج ويلتقي عضويا مع مفهوم اللاّعمل.
–       اندراج الأعمال التعاونية والأنشطة التضامنية ضمن آلية الاستقطاب والاحتواء التي تتبعها الدولة في علاقة مع الفئات غير المحظوظة والشرائح المهمشة من أجل تحقيق الاعتراف والإدماج.

يمكن تلخيص هذه المشاكل في مآزق خمسة عبر عنها أنطوني جيدنز بالطريقة التالية:
-العولمة: ما الذي تعنيه بالتحديد وماهي الدلالات الموجعة التي تحملها معها؟
-الفردية، بأي معنى، إن وجدت، المجتمعات المعاصرة بدأت تصير أكثر فردية؟
-اليسار واليمين- ما الذي يفيدنا من الادعاء بأن كليها لم يعد لهما معنى؟
-الهيئة السياسية- هل أخذت السياسة طريقها بعيدا عن الآليات الأصولية الديمقراطية؟
-المشاكل البيئية- كيف يمكن دمجها في سياسات الديمقراطية الاجتماعية؟2
فهل الخلل في الآليات المتحكمة في النظام الاقتصادي أم في البنى المسيرة للمنظومة المالية التي تفرزه؟ أي دور للقرار السياسي في تعثر أو نجاحه؟ وماهي مساهمة المجوعة الوطنية وعامة الشعب؟
المستويات:
–       اقتصاد السوق ودولة رأسمال ومجتمع الموظفين
–       بناء المجال الاقتصادي ضمن الموارد والحاجات المجتمعية.
–       تقاطع التعاوني والتشاركي والاجتماعي والجماعاتي.
–       مصادر الثروة والفاعلون الاجتماعيين ونماذج التنمية.

النماذج:
راهنية الاقتصاد التضامني:   صياغة تأليفية بين الحرية والعدالة ضمن نظرية لبيرالية المساواة
+ المنظور الأممي للمثال الأوروبي (هابرماس)
+ خصوصية التجربة الجماعاتية في أمريكا (رولز)
+ نموذج ليبرالي اجتماعي من كباك في كندا ( تايلور)
+تحدي الاقتصاد الشعبي في الشيلي (نيغري)
+ نمط اقتصادي مضاد للخصاصة وفي الهند (أمارتيا صن)
+ سياسة التسيير الذاتي في المجال التنموي في الفضاء غير الرأسمالي.
+ تشغيل بعض التصورات الاعتقادية في تطوير آليات الإنتاج الاقتصادية.
لكن هل الاقتصاد الديني هو علم وهمي؟ ماهو دور المؤثرات الروحانية في الآليات المادية للانتاج؟ وكيف توجد صلة متينة بين الرأسمال الرمزي في الحقل الديني والرأسمال المادي في الحقل الاقتصادي؟
لقد كشف ماكس فيبر عن علاقة الإصلاح الديني وتشكل المذهب البروتستانتي بنشأة الطبقة البرجوازية التجارية وميلاد الرأسمالية الصناعية وخاصة ارتباط النزعة الفردية بالملكية الخاصة ومراكمة الثروة3 . من ناحية مقابلة أظهرت بحوث ماكسيم رودنسون عن وجود موانع اعتقادية تحول دون تشكل طبقة رأسمالية في الإسلام 4 . كما اهتم عالم الاقتصاد أمارتيا صن في الحقبة الأخيرة من القرن العشرين في العالم الهندي بتأثير التصور التعاوني في البوذية في تشكيل اقتصاد اجتماعي وبعث بنك للفقراء5 .

المكونات:
مشروع تطوير اقتصاد تضامني يتكون من العناصر التالية:
-مكون تابع للدولة (المؤسسات- السوق الاجتماعي
-مكون تابع للمجتمع المدني (الفاعل- المستفيد
-مكون تابع للمنظمات غير الحكومية (التمويل- التكوين

الرهانات:
–       ضمان الحق في الحقوق وتوزيع العائدات بطريقة منصفة على الفئات الأقل حظا.
–       تقاسم فرص الشغل والمناصب الوظيفية على أساس الاستحقاق والجدارة والتخصص.
–       توسيع المنفعة الاجتماعية المتأتية من التطور الاقتصادي على مختلف الشرائح الشعبية.
–       الانتقال من الدولة المهيمنةTutélaire  إلى الدولة الشريكة partenaire في الإنتاج.
–       البحث عن النجاعة والإنتاجية بالمرور من تحقيق التوازن إلى اقتصاد الحياة الجيدة.
–       بناء إيتيقا اقتصادية تتخطى التناقض بين العدالة والحرية بتوسط قيمة الإنصاف ومنح الحقوق6 .

مقتضى المبحث:
إيجاد نقاط ارتكاز صلبة على مستوى الإنتاج والتبادل والاستهلاك تسمح بالتقليص من التفاوت والفقر والبطالة والحرمان وتحقق التوازن بين المبادرات الحرة والبعد الاجتماعي للدولة بتوسيع دوائر العدل.
علاوة على أن سياسة الاقتصاد التضامني تقوم على المبادئ التالية:
–تعزيز السلام الأهلي والمحافظة على نظام اجتماعي فعال بتمثيل الفئات المتصارعة.
– سلطة تفاوضية تنتهج سياسة اندماجية وتوجه بالمساواة في الحقوق والإقناع في البرامج.
-تجنب مخاطر الفقز في الظلام وإعطاء المواطن الإحساس بالأمان والثقة بالذات.
-منح المستثمر فرصة الاختراع والابتكار وتحميله مسؤولية التنمية المستدامة.
-مشاركة فعلية في الإنتاج الاقتصادي واتساع مجال الحرية المتاح أمام الأفراد
-دولة الاستثمار الاجتماعي تعتمد على مجتمع مدني خلاق وأسرة ديمقراطية مبادرة.
-تجديد القطاع العام بالتنازل لصالح المحليات وبالاعتماد على الكفاءات الإدارية.
– تنظيم الأسواق من أجل تحقيق التوازن بين المصالح الفردية والمصلحة العامة.
– تطوير الرأسمال المادي والبشري بما يوفر ممارسة اقتصادية ناجعة ورفاهية اجتماعية.
لكن ما الذي تستهدفه دولة الاستثمار الاجتماعي في ظل نظم الاقتصاد التضامني؟

خاتمة:
الاقتصاد التضامني ورقات في طريق الحل:
الخيار الثالث بين اقتصاد السوق ورأسمالية الدولة
الاقتصاد الاجتماعي وضمان الحقوق الأساسية
تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني في التنمية.
المراهنة على عقلنة الإنتاج ورقمنة الحياة الاقتصادية.
ورطة البدائل في العديد من المراوحات والمضيقات:
قبول التعددية السياسية والتمسك بالعدالة مع رفض الليبرالية الاقتصادية
السعي إلى تحقيق تنمية اقتصادية مع التشبث بالتغطية الاجتماعية للدولة
تفكيك مركزية السلطة والثروة والتشبث بتدخل الدولة تنظيما وتوجيها.
التحكم في الاقتصاد الموازي ومقاومة التهريب والاحتكار والتهرب الجبائي.
بناء اقتصاد وطني يعول على الكفاءات ويدير القطاعات الحيوية بشكل عمومي.
من أين نبدأ؟ وما العمل من أجل تفادي هذه النقائض؟

المحاذير والانزلاقات:
تحرير التجارة يؤدي إلى اكتساح البضائع الأجنبية وانهيار الاقتصاد الوطني
تصنيع الفلاحة يفضي إلى فائض في الإنتاج وزيادة العرض على الطلب
تطوير الصناعة قد يتسبب في تزايد الإنفاق وتراجع الاستثمار وتقلص فرص الشغل وحدوث كوارث بيئية
تسريع الخدمات وعصرنة الإدارة قد يزعزع ثقة الجهات المانحة ويزيد من التخوف ويعطل المعاملات.
فأين اليد الخفية التي تقدر على التحكم في لعبة المال في الأسواق وتجعل الفوضى مصدرا للنظام؟

الاحالات والهوامش:
[1] L’économie solidaire, une perspective internationale, sous la direction de Jean –louis Laville, Nouvelle édition @ Desclée de Brouwer, 2000 ,p130.
[2]  أنظر أنطوني جيدنز ، الطريق الثالث، تجديد الديمقراطية الاجتماعية، ترجمة مالك عبيد أو شهيوة ومحمود محمد خلف، دار الرواد، بنغازي ، ليبيا، طبعة أولى، 1999، صص57-105.
[3]  راجع ماكس فيبر ، الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية، ترجمة محمد علي مقلد، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، طبعة 1990.
[4]   راجع ماكسيم ردونسون، الإسلام والرأسمالية، ترجمة نزيه الحكي، دار الطليعة، بيروت، طبعة 1968.
[5]  راجع أمارتيا صن، التنمية :حرية، اقتصاد الحريات والمجاعات ، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، عدد 303،سنة 2004.
[6] Voir Le point, références, comprendre l’économie, les textes fondamentaux de Smith, Ricardo, Marx, Keynes, Hayek, Coase, Friedman, Rawls, Mars-Avril,2016 .

المصادر والمراجع:
Le point, références, comprendre l’économie, les textes fondamentaux de Smith, Ricardo, Marx, Keynes, Hayek, Coase, Friedman, Rawls, Mars-Avril,2016,
L’économie solidaire, une perspective internationale, sous la direction de Jean –louis Laville, Nouvelle edition @ Desclée de Brouwer, 2000 ,
ماكسيم ردونسون، الإسلام والرأسمالية، ترجمة نزيه الحكي، دار الطليعة، بيروت، طبعة 1968.
ماكس فيبر ، الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية، ترجمة محمد علي مقلد، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، طبعة 1990.
أنطوني جيدنز ، الطريق الثالث، تجديد الديمقراطية الاجتماعية، ترجمة مالك عبيد أو شهيوة ومحمود محمد خلف، دار الرواد، بنغازي ، ليبيا، طبعة أولى، 1999.
أمارتيا صن، التنمية: حرية ، اقتصاد الحريات والمجاعات، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد303، سنة 2004.

___
كاتب فلسفي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *