*د. حسن مدن
سنجد مدخلاً لهذا الحديث في تجربة كاتب عالمي معروف في علاقته مع مدينته، ذلكم هو التركي أورهان باموق أما المدينة فهي اسطنبول. يقول باموق، حامل «نوبل» للآداب لعام 2006: إنه لا يكتب من أجل الشعور بالراحة والاسترخاء، بل لإنقاذ نفسه. حين انهالت عليه الدعوات من كل مكان لإلقاء المحاضرات والإدلاء بأحاديث حول الشؤون السياسية بعد أن ذاع صيته، أبدى تبرماً شديداً من ذلك: «لا أحب أن أفعل هذا الأمر»، هكذا قال.
وقال أيضاً: «لا تكمن مسؤوليتي في الادعاء بإنقاذ العالم أو تغييره بخطابات سياسية بل بالاستمرار في كتابة الكتب» .
لا ينقص السياسة من يشتغل بها، فالسياسيون في العالم كُثر، أكثر بما لا يقارن بعدد الكتّاب، لذا يتعين على الكاتب سبر أعماق روحه وخياله. يحدث التغيير حين يغوص الكاتب بعيداً في مغامرة الكتابة، وبالتالي يكون بمقدوره، بشكل ما، كتابة أعمال أدبية تكون مفيدة للإنسانية.
يوزع باموق عامه بين عدة أمكنة: أربعة أشهر في نيويورك حيث يدرّس بجامعة كولومبيا، ثم أربعة أو خمسة أشهر في اسطنبول، حيث أصدقاؤه ومنزله وكتبه والمدينة التي يعرف أنه سيدفن فيها، رغم أن الصحافة التركية التي يهيمن عليها من يصفهم بأشباه الفاشيين تهاجمه باستمرار.
اسطنبول هي المدينة التي منها استوحى موضوعات وشخوص رواياته . عند ولادته كان عدد سكان المدينة لا يزيد على مليون شخص، بعد نحو نصف قرن تضخم هذا العدد ليبلغ ثلاثة عشر مليوناً، إنها حالة نموذجية لأي مدينة كبرى في الشرق الأوسط
الكلام نفسه يمكن أن يقال عن القاهرة وعن طهران، وعن عواصم ومدن أخرى، لم تعد المدينة مدينة بالمعنى الذي كانت عليه في بدايات القرن العشرين.
وفي روايته «متحف البراءة» يتحدث عن بائع متجول للبن الرائب، قدم إلى اسطنبول من الأناضول، شأنه شأن أغلبية سكان اسطنبول اليوم الذين وفدوا إلى المدينة من قراهم من دون معطف كما يقول.
ليست مبالغة القول: إن اسطنبول هي البطل الرئيسي في رواياته. تستهويه مدينته لأنها تقع في الشرق الأوروبي، لكنها مع ذلك تحمل مزيجاً فريداً من الغرب والشرق، وهو أمر لا يدركه إلا السياح أو من ينظرون إلى المدينة من خارجها.
هذا المزيج نقمة ونعمة في الآن ذاته: نقمة لأنه قد يخلق ضروباً من انفصام الشخصية خاصة لدى الأقليات التي تبحث عن تحقيق ذواتها، فيما تتنازعها سمات ثقافية متعارضة، ونعمة لأن ثراء وعمق الثقافة التركية عائد لهذا المزيج بين حضارتين وثقافتين .
مثال آخر عن علاقة الأدب بالمدينة نجده في مدينة عربية عريقة هي بغداد. الذين يحفظون قصيدة الجواهري: «يادجلة الخير، يا أم البساتين»، التي كتبها في ستينيات القرن العشرين من منفاه في مدينة براغ، يتذكرون ولا شك ذلك البيت منها الذي فيه يقول الشاعر: «يا أم بغداد من ظُرفٍ ومن غنجٍ/ مشى التبغدد حتى في الدهاقين».
و«التبغدد» حسب ناشر ديوان الجواهري هو: «تكلف عادات أهل بغداد وأخلاقهم، طراز معيشتهم وطرق الحياة والتعامل والتخاطب. وقد انتشر «التبغدد» في معظم أرجاء العالم إبان العصور العباسية الأولى، وفي أيام رفعة العالم الإسلامي وعظمته وامتداد نفوذه وسلطانه أخذاً بالظرف واللطف البغداديين، يوم كانت بغداد عاصمة الدنيا آنذاك، وتعاطياً لأساليبها وأزيائها وتأنقها. أما الدهاقين فهي جمع دِهقان: رؤساء القرى والمدن المتنفذون، وهي فارسية معربة».