إبراهيم جابر إبراهيم *
في الحياة، الحياة الانتهازية القاسية؛ يصنعُ الناس وجوهاً أخرى لهم، ويمشون خلفها، ليخفوا ندوباً فاقعة.أو يداري الناس أسماءهم، وينحلون أسماء أخرى لا تدلُّ عليهم.وأحياناً يتركون ألقابهم على طاولةٍ ما، لينسوها، وينسوا معها ماضيا يريدون التخلص من جثته.لكن الشاعر الذي يستدعي ماضيه دائماً ليجعله مُضارعاً بإلحاح، هو غير كل ذلك؛ حين ظلَّ وفيّاً على نحوٍ نادر لقناعٍ نبيلٍ اختاره أول شبابه ليصعد به الى باخرةٍ مُحمّلة بالوعود وأقواس قزح!ظلَّ أمجد ناصر يسكن في هذا “الاسم” أزيد من ثلاثين عاماً بكثير، لم يتذمر منه، ولم يجلس أمامه مرّةً كغريب، ولم يفكر في أن يضلّله في ضباب “لندن” ويذهب هو من شارع آخر!وفي الوقت الذي ناء كثيرون تعباً من أسمائهم الحقيقية فخلعوها لأنها تظلُّ تشير الى ذلك الماضي، حمَلَ الرجل الخمسيني الشابّ الشاعر الثلاثيني الناجي من مصائر متعددة، على ظهره، وأخذه إلى كلّ مكانٍ اشتهاه، ولم يعاتبهُ مرةً، أو يحاكمهُ، بل ظلَّ مُبتسماً دائماً كأب!هي فكرة الوفاء بحذافيرها.وفي كتابه الأخير “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد”، يبدو الشاعر كما لو أنه يحتفل بشكلٍ مختلف، بعيد ميلادٍ ما، لهذا الابن، أو يحتفل بأنهما صارا بنفس السنّ فجأةً!ينشر للابن كتابه، يومياته في “الاجتياح”، دون أن يتدخل هو، وربما ليحقق له وعداً شخصياً بينهما؛ أو يسدّد له دَيناً!ويبدو “أمجد ناصر” هنا أبعَد ما يكون عن محاسبة الماضي بأدوات وعي لاحق؛ كما يفعل كل “الأبطال” حين يُسجّلون مذكراتهم، فهو يُقدّم الماضي وحيداً، وعارياً، وجاهزاً للشتم أو للغزَل، ولا يقف بجانبه ليدافع عنه. بل يتركهُ ببندقيته القديمة الفارغة، الآن، من الطَلقات. ويمضي كأي أب لا يخلع ابنه ولا يدلّله أكثر مما يجب.الشاعر الذي بقي يقيم في اسمٍ غير فاره، لا يفكّر كمهزوم، ولا تخطر له فكرة تسليم اسمه، في عمليةٍ تشبه تبادل الأسرى، ليستعيد سلطته عليه وليقيم له محاكمة فعلها الكثيرون حتى لأسمائهم الحقيقية؛ من باب شراء المستقبل الواضح!فكرة الوفاء المعقّد والنادر هذه تستحق أن نتذكّر الشابّ البدوي، ابن عشائر بني حسن، “يحيى النعيمي”، لنقول له شكراً!شكراً كبيرة؛ لأنك استضفت هذا الرجل المغامر “أمجد ناصر” في دمك ثلاثين سنة، حتى إنّك كنت كل صباح تغسل له وجهه بكفّيك، وأنفقت عليه كلّ عِطرك!
* كاتب من الأردن يعيش في الإمارات
( الغد )