سيناريو نهائي

خاص- ثقافات

*ناصر ثابت 

في شقته التي تقف على ناصية الشارع، جلس إلى جانب السرير، أخرج مسدسَه الذي بالكاد يعرف كيف يستخدمه، صوبه إلى رأسه، ثم عدَّل المسدس قليلا، وضعه في فمه، وأطلق النار. لم يتردد. فعلها دون الكثير من التفكير. في تلك اللحظة بالذات.

كان السيناريو بينه وبين نفسه معداً سلفاً. كان يعرف كيف سيجلس، وكيف سيصوب المسدس، وكيف سيطلق. في جزء من الثانية كان ملقى إلى جانب السري، والدماء تحيط بجسده، أو بركام جسده. كان هناك تموج في الألوان. أحمر قان، ثم خفيف، فمائل الى السواد.

صوت الرصاصة الوحيدة أيقظَ بعض الجيران، لكنهم ترددوا في النهوض من دفء أسرتهم في تلك الساعة التي كانت قد تسلقت معظم جبلِ الليل، فعادوا إلى نومهم.

كان قد كتبَ مرة:

“خذ من ذاتك ما تشتهي

واترك لها مجالا حتى تنمو في المدى المفتوح

مثل غزالة تركض في ملاعب الذاكرة

اقتطع من عجينة روحك شيئاً

وأجله إلى ما قبل الموت”

كانت الأمطار شديدة، والعتمة هائلة، تحمل في طياتها الخيال المرعب. ولكنه كان حقيقية هذه المرة!

السوداوية التي كانت في الأجواء زادت من إصراره. دفعته لتنفيذ الخطة. ولو أنه كان يستطيع أن يمارس الإحساس بعدها، لكان منتشياً سعيداً بما أقدم على تحقيقه بشجاعة.

الحمامة البرية التي كانت قد بنت عشا في زاوية الشرفة بين الشقوق والأنابيب والأسلاك، طارت خائفة.  ولكنها بعد أن هدأ الصوت، وتبددت الرهبة، عادت وكأن شيئاً لم يكن!

الدم ما زال ساخناً. والجثة، جثته ما زالت وحيدة. مثله هو في الحياة. مثل أيامه بل سنواته الأخيرة. لم يكن وحيداً بالمعنى الحرفي للكلمة، بل بالمعنى المؤلم لها. كان يعرف القليل من الناس، ويختلط ببعض الأهل والمعارف والأصدقاء، ولكنه كان يحس في داخله بوحدة عميقة جداً. على مستوى الروح، وتفاصيل الذات. كان يعرف أنه حتى يتخلص من وحدته، عليه أن يفعل مثلما يفعل الآخرون. مرة يذهب إلى المقهى ليتحدث إلى الغرباء، ويجالسهم ويمازحهم، أو فقط يمشي في الشارع مطلقاً المجاملات تجاه الرائح والغادي.

الفكرة لم تكن تروق له. العلاقات فكرة جميلة، لكن، لا يجب أن يسعى إليها إنما يجب أن يتركها تتطور بانسياب ذاتي. مثل طفل يولد، ويكبر، ويصبح كياناً حياً وحراً.

في دفاتره نقرأ النص التالي:

“استبقْ الاحداث قليلا، أنتَ في دائرة الوحدة

والأصدقاء خارج أفيائك

إذا كنت لا تفهم ما يعني هذا

فاستلف من عمرك صوتاً آخر، عله يعلمك.

أو، فاعبر محيطات الوجع، لأنه قدرك”

الدم المنساب في كل مكان بدأ يبردُ، ويتخثر ويتحول إلى اللون الداكن. العينان شاخصتان، الوجهُ محطمٌ بفعل الرصاصة، الأذن يسيل منها خطٌّ من الدم، يلتقي بالأرض.

في تلك الأثناء كان المطر شديداً، وتسارعَ كدقات قلوب العدائين. كل من كانوا على قيد الحياة لا حظوا ذلك، وهو لم يكن منهم. لقد أضاع هذه اللحظة الخصبة. كانت الأرض عطشى بعد أعوام من القحط. لم تكن هذه المرة مؤذنة بزوال الجفاف. فحتى يزول يجب على المطر أن يلقح الأرض طوال فصل الشتاء. هذا لم يحدث، وها هو ينهي حياته قبل أن يراه. قبل أن يستمتع بأثر حيامن المطر على الأرض.

الحمامة التي طارت مع الصوت، عادت إلى العش، وأطلقت القليل من الهديل.

“خذ من ذاتك ما تشتهي

فلا شك أنك ستفتقدها

عندما يحين موعد الرحيل المؤقت

وتدخل في دهاليز النهايات

وتغرق في بئر الخلود

وتستبدل هويتك بما يرضي غرور النرجس

تخفي شيئاً وتظهر شيئاً

تخفي الحزن والهزائم، والترقب، والأمل الزائف

وتظهر الفرح واللامبالاة والرضا”

الجثة مازالت مكانها، تصلي عليها خيوط الفراغ، ورائحة الدم المسكوب بدأت تفوح. السرير، وقد أصابته كميات من الرذاذ، ما زال على حاله. من ذا الذي سينام عليه من بعده؟ على الأغلب سيشتريه أحدُهم، او أنه سيصبح خشباً لبعض المواقد. أما الفكرة الأساسية من الموت في تلك اللحظة فلم يفهمها أحد!

هو الذي يعمل ويعيش متوسط الحال، دون عائلة أو أبناء، بعد أن هجروه إلى دولة أخرى. كان يعرف أنه يعاني من وحدة قاسية. الألم يحز قلب الحمامة. فقد كان يحن عليها وعلى فراخها، وعندما كان أحدها يسقط كان يأتي ويحمله إلى العش مرة أخرى.

هل كان لا بد من الرصاصة؟ لم يكن هناك تفسير. الرسالة التي تركها قرب السرير لا يوجد فيها الكثير من الحكايا.

” ابعثوا ما أملك إلى أبنائي، فإن لم تجدوهم فامنحوه للأيتام والمحرومين. أحرقوا جثتي ولا تحبسوا رمادَها في زجاجة. وزعوا الأثاث على الفقراء”

كأن الرسالة تقول، أمحوا أثري محواً كاملاً، لا تبقوا مني شيئاً.

كيف يكون ذلك وقد ترك خلفه نصوصاً سيسحقُها اليُتمُ والإهمال؟ من ذا الذي سيعيدة قراءتها، ويعطفُ عليها بالتصويب والتعديل، ويخرجها من حالتها الخام.

والآن هو ممدد على الأرض، وقد تفتتت عظام الفك والرقبة بفعل الرصاصة، وتطايرت أجزاء من اللحم والأحشاء. بردت جثته، وشابها الاصفرار، وبدأت بالتصلب. لا بد أن أول شخص سيضع يده عليها سيحسها يابسة ثقيلة.

لم يكن يحتاج إلى حجة حتى ينهي عمره. لم يكن يعرف كيف ستكون النهاية. هي أول رصاصة يطلقها في حياته وآخر رصاصة. لم يكن متمرساً في موضوع السلاح. وقد اشترى المسدس من أحد الباعة الذين تعرف عليهم صدفة أثناء تسوقه. كان ذلك الشخص يريد أن يبيعه حتى يحصل على بعض المال، لقضاء بعض الحاجات.

لم يكن يحتاج لأن يكون خبيراً في موضوع السلاح. كان فقط بحاجة لأن يعرف كيف يطلق الرصاصة. سأل الرجل عن الرصاص، فأعطاه بعضَه هدية. قال له: “خذ هذه الرصاصات، لم يعد بي حاجة إليها بعد أن بعتك المسدس!”

قام بحشوه بها، بمساعدته، وانطلق إلى غرفته. كان هذا قبل عدة أيام من التنفيذ. كان يعرف ما ينوي فعله، ولم يكن يقرُّ بخرافة الإله، حتى تمنعه من أن يقتل نفسه. وكان مستعداً لدخول سرداب الفراغ والتلاشي، ماراً بنفق النهاية الذي لن يحس فيه بشيء. هذه الكيانية التي كان يمارسها في حياته ستصبح لا شيء. في لمح البصر، مثله مثل كل الذين سبقوه إليه.

فإن كان كذلك، فلم التعجل؟ لم تكن جدران غرفته تلح عليه. كان النهر السري في قيعان نفسه هو الذي يحرضه. كلما رآه مارا من مغارات القلب الموحشة. كان يعرف أن النهاية ستأتي الآن أو آجلاً.

الوقت تمدد مثل الجثة الهامدة التي ما زالت ملقاة إلى جانب السرير، ولم يجدها أحد.

الوقت يتمايل، والحقيقة ترقص، والنهاية في بدايتها.

سوف يبكيه لا أحد، وسوف يودعه لا أحد. سوف يختفي، من حياة البشر دون أن يحس به أحد. لم يكن في حياته فاشلاً، بل كان متوقد الذهن، منتجاً، يكتب ويعمل ويتأمل.

من نصوصه نقرأ:

“أنت ذاتين في ذات واحدة

إحداها مسروقة من ذئب قديم

وأخرى من حَمَلٍ ميت

كلاهما تتجدد في نبضك المتهتك

وتخفي نفسها عن الأخرى

فهل أنت الآول التي تخون الشجر والمطر والقصائد

ولا ترضى بالهدوء والوهم؟

وتتركك فوق حطام كوكب ما؟

وتعلقك من خيط رفيع فوق غبطة الحب

الذي نذرتَ من اجله تأريخك؟

أم انت الثانية التي تخون أيضاً؟

تخون الوقت والنوم والهدوء

وحبر المسافة؟

وسطور الريح؟

مترددة كطفل لم يولد بعد

كاللون الأحمر في النبيذ

ذائبة في هواء الوجود

تحرق الكلام وتشرب الملل

وتفتش عن الدروب بكل شغف

يقتلها التجاهل والوهم والوساوس

متماسكة كأنها قصر من عيدان الكبريت

تستحق أن تصلب في أعماق الجنة لأنها لا تؤذي أحداً

وعشاؤها الاخير لم يكن إلا فاكهة النور وخبز الندى

هي تسبح في ماء المطر قبل انهماره على الموجودات

لأنها ترى ما لا يراه الناس.

غير أنك مزيج من الاثنتين

فهل تعترف بالانفصام؟

أم هل تُمسرِح حياتك وتقدمها للآخرين على بساطٍ من القصائد والنصوص؟

أخرجْ نفسك من هذا المزيج

ضع جانباً نصوصك المنشورة وغير المنشورة

ضع جانباً معجزاتك

اترك ثورتك الذاتية

وحضِّرْ نفسك للخلود.

اختر بين الموت والتلاشي

وشتان بين الاثنين”

لكنه لم يكن ينتمي لأحد، لا يجامل أحداً ولا يجامله أحد. لا يخالط الكثيرين، وكانت كتبه لاقت بعض الانتشار الخفيف. قصائده خصوصية لا علاقة بالواقع.

الغريب أن الرصاصة خرجت من الخلف وثقبت الجدار ثقباً عميقاً. بصماته كانت على المسدس، لم يحاول إخفاءَها. كان يأمل ألا يُتهم أحد بقتله. والرسائل التي كان يريد إيصالها إلى الآخرين كانت في كتاباته.

كان حراً، لا تحدُّه الأديان ولا الأفكار. لم يكن ينتمي إلى أي مجتمع. دون نيته ودون قرار منه، كان بعيداً عن التصنيفات. لا يعرف شيئاً عن المسدسات، ولا عن العساكر ولا الحروب.

والآن بعد أن وضع الرصاصة في حلقه، وخروج الروح خروجاً سلساً صار مستعداً لكي يرقد بسلام إن استطاع.

الحمامة التي دخلت العش انتظرت حتى طلع الصباح، وطارت لتبحث عن شيء تطعمه لفراخها. الصباح لم يجلب هدوء المطر. الرياح هدأت قليلاً والمطر ظل كما هو، ثم تحول بشكل تدريجي وصار خفيفاً لا ينفع في شيء. لا هو قادر على ري النباتات، ولا على سقيا العطاش.

الجفاف سيستمر. الجثة الآن زاد اصفرارها. ولم يطرق أحد بابه لكي يكتشف ولو بالصدفة موتَه.

الوحيد الذي من الممكن أن يطرق بابه هو بائع الجرائد. وقد حضر هذه المرة، وترك الجريدة كعادته، وهم بالذهاب.
توقف لحظة، وقرر أن يطرق الباب، مثلما يفعل أحيانا عندما لا يطل عليه ليدفع له ثمن الجريدة. نقر نقراً خفيفاً. انتظر. لم تفتحْ له الجثة! قرر أن يذهب الآن، وأن يجرب ذلك في المرة القادمة.

طرق البائع الباب. لم يسمع أحد الصوت، ولم يفتح أحد الباب، فوضع الجريدة أمام الباب وذهب.

الصباح يتطور شيئاً فشيئاً. اليوم هو يوم عطلة نهاية الاسبوع، وهذا ما زاد من عزلته ميتاً، مثلما كان يزيدها حياً. هل انتقى الوقت بهذه الطريقة أم هي الصدفة فقط؟

الرسالة التي تركها ما زالت على حالِها، بانتظار من يقرؤها. أما هو فما زال ممداً، على وجهه مسحة خوف، ربما ناجم عن عنصر المفاجأة القادم من انفجار البارود قريباً منه. ولكن هذا لم ينجح في تخليصه من قناع الحزن العميق. وفي لحظات الوحدة هذه يصعد الليل الى القلب. تنزل ستائر العتمة، ويلقي التاريخ بثقله على الليلة القادمة، فتحس الجسد البارد أنه أصبح خارج التاريخ. الموسيقى الخفيفة القادمة من الصمت تؤلمه أكثر لأنها سمادُ الروح لزهرات الرمل القديمة.

الوحدة تلاحقه حتى في موته.

“هناك سوف يسري الملل في بدنك الرطب

وسوف تشعر بخدر لذيذ

الخلود: نوم طويل الأمد

ذوبان كامل في الرؤى المقطرة

لكن إناثك اللواتي يتابعن قصائدك باهتمام

ربما وجدن تفسيراً واضحاً له

ولاندثار الزمن وانتحاره

وكلما قالت لك الزهرة سراً

أمسك بخيط طائرتك الورقية

وتأمل أرجوحة العمر المقطوعة

تجدْ بقاياك

وتجدْ أنك موغلٌ في ذاتيك وعاديتك”

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *