تُصنَّف مارغريت برانت كواحدة من أهم الكاتبات النسويات في العالم، اللواتي عملن في الأعمال التطوعية لتحسين أوضاع ضحايا الحروب من النساء في غواتيمالا ونيروبي. وقد تحدثت هذه الكاتبة عن الحب راوية وبطلة رواية (سماء قريبة من بيتنا – 2015) لشهلا العجيلي. وفي هذه الرواية أيضاً يرى عم الراوية في عمتها (سويداء) نموذجاً ثورياً، ونسخة متقدمة من جماعة الـ Sans culottes التي ظهرت في باريس إبان الثورة الفرنسية، وهي أحد أصول الحركة النسوية في العالم.
ربما يكون من التمحّل أن يرى المرء في هاتين الإشارتين للنسوية، ملمحاً نسوياً في الرواية. لكن الإشارتين تتعززان في الرواية، ليتعزز فيها الملمح النسوي، ولكن بحسبان، كما هو الشأن في كثير مما تكتبه الكاتبات العربيات، وفي قليل مما يكتبه الكتّاب. غير أن النسوية بدت عنصراً بنيوياً، وليس ملمحاً فقط، في كتابات عديدة، منها مثلاً رواية سحر خليفة الأولى (لم نعد جواري لكم) وكذلك أغلب رواياتها، ومنها رواية سميرة المانع (الثنائية اللندنية) ورواية فيروز التميمي (ثلاثون) ورواية عفاف البطاينة (خارج الجسد).
وفي غير الرواية تلك هي الكتابة الفكرية لفاطمة المرنيسي ونوال السعداوي وشيرين أبو النجا وليلى أحمد، وفي النقد الأدبي تلك هي كتابات خالدة سعيد ويسرى مقدم ويمنى العيد وزهور كرام. ومن الكتّاب تبكّر إلى النسوية، في سبعينات القرن الماضي، الكتابةُ النقدية للراحل جورج طرابيشي، والكتابات الفكرية للراحل بوعلي ياسين ومنها مؤلفاته: (الثالوث المحرم – أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي – خير الزاد في حكايات شهرزاد). ثم ستتميز كتابات هادي العلوي ووضاح شرارة وحاتم الصكر وآخرين على رأسهم إبراهيم محمود في كتبه (الأنثى المهدورة: لعبة المتخيل الذكوري في صناعة الأنثى) و(الضلع الأعوج) و(الجسد المخلوع) و(جماليات الجسد المحظور)، وصولاً إلى كتاب حفناوي يعلي (مدخل في نظرية النقد النسوي وما بعد النسوية، أو كتاب مي نايف (النسوية وما بعد النسوية). ولعل لي فسحة هنا كي أذكر كتابي (النسوية في الكتاب المدرسي السوري) الذي صدر عام 1978، عدا عن دوري في نشر كتب أخرى منها (سيكولوجية الأنوثة) للوسي إيريغاري، و(الجنوسة) و(الجنسانية) لعدد من الكتاب والكاتبات، و(نظرية الأدب النسوي) لماري إيجلتون.
هل للنسوية في تاريخنا نصيب؟
تعود سارة جامبل بمصطلح النسوية إلى العام 1860، وذلك في معجمها وفي مبحثها (النسوية وما بعد النسوية). وقد بات من المتعذَّر ضبط تعريف بعينه للنسوية، جراء ما تواتر واغتنى وتقاطع وافترق القول فيها. ويعلل بعضهم وبعضهن تعدد تعريفات النسوية بتعددها هي (النسوية الاشتراكية، السوداء، الجذرية، البيئية، الليبرالية، المابعد الكولونيالية، الإيديولوجية و… العربية). وباختصار، النسوية فلسفة نقدية، لكن همها ليس في النظري، بل في العملي، وليس العملي إلا تحرير المرأة، وبعبارة أخرى: لإعادة الاعتبار إلى الهامش. ومنهم ومنهن من يكتفي بالقول إن النسوية حركة ثورية غربية، مجتمعية وفكرية، تفجرت في أعقاب الثورة الشبابية 1968، ولا تفتأ دوائرها تنداح في أرجاء العالم.
بالعودة إلى الأسّ، إلى المرأة، ومن بين الكثير الكثير، حسْب المرء أن يستذكر من كتاب ماري إيجلتون (نظرية الأدب النسوي) قول فيفيان فورستر: المؤنث هو ما تم كبته، أو أن يستذكر الشعار الفرنسي: حيث يكون الكبت تكون هي. وكذلك هو قول سيمون دوبوفوار: المرأة هي كل شيء سواها، وقول جوليا كريستيفا إنه لا يمكن تعريف المرأة أبداً. وقد انطلقت من ذلك الباحثة ترينه ت. مينه – ها، لتقول عن المرأة في سجلها الأوروبي – وأضيف: والعربي – هي رحم، وفتنة، ولغز، ومادة سلبية، ولاشيء إلا الجنسانية. ومن الطريف المؤسي ما تمضي إليه من أن المقطع Wo الذي يضاف إلى man (رجل) ليصبح Woman (امرأة) في السياقات الجنسوية، لايختلف عن القول في السياقات النسوية الزائفة: امرأة ملونة، امرأة عالمثالثية..
ليس الأمر بعيداً عن كل ذلك في تاريخنا، حيث أفردت للنساء صفحات معدودات في سجلاتنا التراثية، كما في الشعر أو الغناء أو التصوف. ولا يبدل من ذلك أن السيادة السردية قد أسندت إلى شهرزاد، فالذكورة هي من كتب تاريخ المجتمع الذكوري. ولذلك، وكما في الغرب حتى أمس قريب، ندرت النصوص والدراسات المتعلقة بالتاريخ الأدبي للنساء. ولا يقلل من ذلك ما أخذ يتسلل إلى رفوف المكتبة العربية منذ سبعينات القرن الماضي.
في كتابة التاريخ الأدبي للنساء، وكما لدى الذكور، هي الحاجة أيضاً لدى النساء إلى السلف، أي إلى تأثيل الحاضر، وبالتالي توثيق وتصليب شرعيته. وما أخشاه، في حدود اطلاعي الدانية، ألا يكون الطغيان الذكوري على تاريخنا وتراثنا قد ترك للسلف النسوي أثراً ذا شأن، غير ما ارتضاه ذلك الطغيان، على الأقل حتى أطلّ القرن العشرون. والمهاد التاريخي العربي للنسوية الأدبية أو اللغوية أو النقدية، هو إذن بالغ التواضع، وإن يكن منا من يؤثّل لها في القرن التاسع عشر في تراث رفاعة الطهطاوي ومريم جبرائيل نحاس وقاسم أمين ومريانا مراش… لكن الأمل سيظل معقوداً على الرغبة المتنامية في اكتشاف الأعمال المفقودة في بطون مئات آلاف المخطوطات التي تنتظر في مختلف البلدان، مع التشديد على المسافة ما بين تراث كتابة النساء وبين تراث الكتابة النسوية.
للمهجر/ المنفى/ الشتات حضوره القديم المتجدد عربياً. ومجلى ذلك في الأدب الحديث يبدو فيما عنون به جورج طرابيشي كتابه: (شرق وغرب – رجولة وأنوثة). فمنذ رواية توفيق الحكيم: (عصفور من الشرق) إلى رواية الطيب صالح: (موسم الهجرة إلى الشمال)، ومن بعد إلى يومنا، تواصلت بخاصة الكتابة الروائية السيرية التي تشتغل على الآخر وهذا ما سميته، وبه عنونت أحد كتبي العام 1985: (وعي الذات والعالم). أما ما يتصل بالأدب النسوي هنا فهو من جهة تجنيس الكتابة الذكورية والأنثوية للآخر الغربي. ولكن ينبغي ألا ننسى هنا اطّراد مساهمة الكاتبة العربية في هذا كله، ليكون، بنسبة أو أخرى، لهذه الكتابة ما تنماز به من النسوية، وليس في الرواية فقط. وإذا كانت هذه الكتابات قديمها وحديثها، قد غذّت القول في خرائطيات الشتات، وفي مسألة الهوية، فإنني أراهن على ما قد يكون منعطفاً جديداً لهذه الكتابات، بفعل الهجرة والتهجير واللجوء والنزوح مما تتفجر به بلدان عربية شتى، على رأسها سوريا. وعلى الرغم من قرب العهد تقتضي الإشارة إلى روايات محمود خلف الجاسم (نزوح مريم) وسوسن جميل حسن (خانات الريح) وشهلا العجيلي (سماء قريبة من بيتنا).
ماذا عن نقدنا النسوي؟
في واحد من وجوهه، يبدو النقد النسوي نقداً أيديولوجياً، وها هي أنيت كولودني، تقر بأن (السياسة النسوية) أساس النقد النسوي، والجدال فيه بالتالي شبيه بالجدال في الماركسية المعاصرة. وبحسب كولودني، ليس النقد النسوي سوى مقاربة مريبة أساساً للأدب، ويفتقر إلى التماسك المنظومي. وتتحدد المهمة (المدنية) للناقد (ة) النسوي (ة) بالتدقيق في صحة الأحكام الجمالية عبر السؤال: من يخدم النص؟ وماذا يخدم؟
فيما للناقدة من المدونة النقدية العربية، قدر يتصل بذلك. ويتواتر في هذه المدونة الصوت الأكاديمي كصدى في الغالب للذكوري من هذا الصوت، وكمختلف عنه في النادر الذي يبحث عن خصوصية، سواء تعلق الأمر بالنسوية أم لا. ومن المتميز في الصوت الأكاديمي أضرب مثلاً بأماني فؤاد في كتابها (الرواية وتحرير المجتمع) ورفقة دودين في كتابها (مرآة الغريبة: مقالات في نقد الثقافة) وسلوى السعداوي في كتابها (خطاب النسوية العربية المعاصرة) وشهلا العجيلي في كتابها (الكذب – الحقيقي: من قال إنني لست أنا) ولطفية برهم (أنماط الوعي).
غير أن الصوت النقدي البالغ التميز كلما اتصل الأمر بالنسوية، يأتي من خارج الأكاديمية، ومثاله الأوفى والأكبر هو يسرى مقدم في كتابيها (مؤنث الرواية) و(الحريم اللغوي).
ينهض كتاب يسرى مقدم الأول بالمطارحة بما تعنيه من السجالية، ولا تعلو إلا بقدر ما يتوفر لصاحبها – صاحبتها من المكنة العلمية والنظر العميق. ومن ذلك ما تعلق بذكر القارئ الذي يدخل غالباً إلى نص المرأة متلصصاً، فمثل هذا القارئ يماهي بين كتابة المرأة وجسدها، كما بين الواقع والخيال.
تتركز شواغل كتاب (مؤنث الرواية) باللغة والبلاغة، وبما بين الكتابة وجنسوية الإبداع. وهنا تأتي مطارحة (لغة الظل)، اللغة المحكومة بالاتباع والطاعة، إذ تكتب الكاتبة ما تعلمته من المتسلطين على عرش الكلام. وفي مطارحة (مساءلة اللغة وإبداع المرأة) تساجل الناقدة عبدالله الغذامي الذي يقر في كتابه (المرأة واللغة) بالانقسام بين مصطلح الفحولة وبين الأنوثة في الكتابة الإبداعية. وتدفع يسرى مقدم بالسؤال عن كيفية انعتاق الكتابة من محبسها الذكوري. وتقترح لذلك أن تتنكب الكاتبة المحاكاة، وأن تنتج خطاباً مناهضاً للعنصرية الجنسوية، لتنجو من سلطة شهريار العصر، ولتبشر بمعجم لغوي يفك أسر الدلالة المغلولة. وفي هذا السياق تأتي مساجلة الناقدة للكاتبات اللواتي تطفح رواياتهن بالاحتجاج والقهر. وتنوه الناقدة ببعض الكتابات النسائية التي ترهص بقول خاص لايتعارض بالضرورة مع «قول الآخر المختلف أو ينافسه أو يزيحه، بل يتكامل معه ويكتمل به لتبرأ اللغة من أحادية القول المستبد».
يتفاعل نداء كتاب (مؤنث الرواية) مع غيره من نداءات النقد النسوي. وتسمي مقدم نفي أسيمة درويش لخصائص إبداعية ذكورية أو أنثوية بالعمى المعرفي، ومنه استبطان الرجل في روايتي (أهل الهوى) لهدى بركات و(يوم الدين) لرشا الأمير. ويمكن القول بعامة إن كتاب (مؤنث الرواية) يبدو اقتراحاً لمؤنث النقد يبرأ من ترجيع الناقدة المعهود لصوت الناقد، فيثري النقد بخصوصيته.
أما كتاب (الحريم اللغوي)، فيدلّ بالمنهجية الصارمة، وباللغة النقدية الثرية والحارة والدقيقة، وبالثقافة الضاربة عميقاً في التراث العربي الإسلامي، وفي الثقافة المعاصرة، وبخاصة ما اتصل منها باللغة والفلسفة. ويهجس كتاب (الحريم اللغوي) بالثوابت المصدرية والتصنيفات الفوارقية، وعلاقتها باللغة العربية، وانعكاسها على الإبداع الروائي العربي. هكذا أقبلت الناقدة على مراجعة مدونات ومصنفات فقهية وقواعدية لقدامى ومحدثي النحاة واللغويين، وفي حضور أعلام الفكر الحديث: دريدا وفوكو وإيكو ويونغ وفروم.
تفتّق الناقدة القول فيما تعده ضلالة النحو العربي الذي يذود عن اللغة المصفاة، فإذا به يتورط في تعزيز الفكر الذكوري الفوارقي، وإذا بالنحوية ليست إلا انعكاساً لأحكام البيولوجيا والاجتماع، وهو ما استرشده الخطاب الثقافي الذكوري العربي المعاصر عند الماركسي والقومي والمتدين. ولا تحابي يسرى مقدم المؤنث الإبداعي والنقدي الذي يرطن بأنوثة لفظية وبوهم تفجير اللغة أو وهم الاستفراد الأنثوي مقابل الاستفراد الذكوري.
من (المثنى)، هذا الذي تنفرد به لغتنا (أم اللغات)، يمضي كتاب (الحريم اللغوي) إلى الخوف من التابوت الفاغر: تابوت المؤنث والأنثى. وفي وجه هذا الخوف تأتي مساهمة يسرى مقدم، كما تأتي المقاربة العربية للنسوية الأدبية واللغوية والنقدية بخاصة، وللنسوية بعامة، مما يضيء عتمات الفكر واللغة والروح والتاريخ و… المستقبل.
تاريخ متواضع
المهاد التاريخي العربي للنسوية الأدبية أو اللغوية أو النقدية بالغ التواضع، لكن الأمل سيظل معقوداً على الرغبة المتنامية في اكتشاف الأعمال المفقودة في بطون مئات آلاف المخطوطات التي تنتظر في مختلف البلدان، مع التشديد على المسافة ما بين تراث كتابة النساء وتراث الكتابة النسوية.
________
*الاتحاد الثقافي
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
لو كنتُ روائياً*عقل العويطأتوجه بهذه الافتتاحية إلى الروائيات والروائيين اللبنانيين والسوريين والعراقيين والفلسطينيين والعرب أجمعين، لحضّهم على…
-