يُعد كرستوفر مارلو الأب الشرعي للدراما الإنجليزية في القرن السادس عشر، ويعتبر النقاد مسرحيته «تمبرلاين العظيم»، التي عُرضت على المسرح في لندن عام 1587، أول مسرحية إنجليزية حقيقية، عقب مُحاولات بدائية من جانب مجموعة «نُبهاء الجامعة» في كتابة مسرحيات تخرج عن إطار ما عُرف ب «مسرح الكنيسة». وحققت مسرحياته نجاحاً كبيراً رغم حداثة سنه، وهو صاحب التأثير الأكبر على الكاتب والشاعر الإنجليزي الأشهر ويليام شكسبير، وامتد تأثيره إلى جميع كُتاب الدراما حتى العصر الحديث.
ولد مارلو عام 1564 في مدينة كِنت البريطانية لأسرة فقيرة، وتحتشد سيرته الذاتية بالمواقف الغامضة والمُتلبسة، تتضارب المعلومات حول شخصيته وتعليمه ونشاطاته وعلاقاته بالبلاط الملكي بعد ذلك. ورث مارلو القوة والتهور عن والده الإسكافي، وعُرف عنه كثرة الشجارات والتعرض للمشاكل، وأنه عاش حياة مُستهترة جمعته بالأوغاد واللصوص في صباه ومطلع شبابه.
تغيرت طبيعة حياته حين التحق بمدرسة، وتفوق في الدراسة لدرجة أنه التحق بجامعة كامبريدج عام 1580، ليدرس الأدب والفلسفة. انقطع عن الدراسة بالجامعة، وسافر إلى فرنسا في رحلة مُريبة اُتهم بسببها بالجاسوسية والعمل لحساب الملكة إليزابيث لنقل أخبار الكاثوليك. ولا يمكن التيقن من أخبار شجاراته ومُغامراته وأدواره المُريبة، ولكن الأكيد أن هذا الصعلوك اهتم بالمسرح في العشرين من عمره، ونال الحظوة في البلاط الملكي وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ما جعله شريكاً في مؤامرات القصور، وأحد ضحاياها.
أثار قربه من الملكة حقد النبلاء عليه، وتعرض لعدة مُحاولات اغتيال، ودخل السجن عدة مرات بسبب شجارات مع أتباع خصومه من النبلاء، وربما كانت تلك الأحقاد سبباً في التباس المعلومات المتوافرة عن حياته الشخصية. ونجحت إحدى محاولات اغتياله عام 1593، وهو في التاسعة والعشرين من عمره، ودُفن في مقبرة مجهولة.
يُشكك بعض مؤرخين الأدب في موته، ويعتقدون أن تزامن وفاته مع ظهور شكسبير، ومولدهما في نفس العام، والتشابه الكبير بينهما في اللغة وأسلوب الكتابة وموضوعات المسرحيات، بل وتشابه عدة مسرحيات بعينها، عوامل تُرجح أنهما نفس الشخص، وأن مارلو اختفى وخرج إلى العالم بهوية جديدة.
ويرفض مؤرخون آخرون هذا الزعم، ويستشهدون بحقيقة ظهور شكسبير على الساحة الأدبية قبل وفاة مارلو بعدة سنوات. ولا يزال هذا الجدل قائماً حتى الآن، ويُعرف ب«سؤال شكسبير»، الذي يبحث في هوية شكسبير الحقيقية، وتتأرجح فيه آراء الباحثين بين تأثر شكسبير الشديد بأعمال مارلو، وبين كونهما الشخص ذاته.
وفي حياته الأدبية القصيرة، أنجز مارلو ديوان شعر وحيداً هو «من الراعي العاشق إلى محبوبته»، وترجمة كتاب «غرام أوفيد»، إضافة إلى ست مسرحيات فقط؛ أبرزها على الإطلاق وأكثرها تأثيراً في تاريخ الأدب هي مسرحية «الدكتور فاوستس».
تدور المسرحية حول الطبيب الألماني الشهير فاوستس؛ الذي لا يكتفي بما حقق من مجد في مجال الطب، ويسعى للحصول على المزيد من المعرفة والقوة، فيوافق على توقيع عقد مع الشيطان لكي يتعلم السحر والسيطرة على العناصر، وفي المقابل يحصل الشيطان على روحه بعد أربعة وعشرين عاماً. وتكشف المسرحية عن تأثر مارلو بالثقافة الإغريقية إلى حد بعيد، إذ أكثر من استدعاء أفكار الإغريق عن النجوم والفلك، واستحضر شخصيات إغريقية مثل الإسكندر الأكبر، وهوميروس، والجميلة هيلين التي أشعلت حرب طروادة.
وترسم المسرحية روح عصره، والرغبة في امتلاك القوة والسيطرة على العالم، التي سادت في القرن السادس عشر. ويُعد الارتقاء الاجتماعي للطبيب الفقير بعلمه وجهده انعكاساً لتجربة مارلو الشخصية في الانتقال من حياة الصعلوك إلى حظوة الملوك، اعتماداً على قدراته الذاتية وليس بأصله. ولقد تطورت فكرة الارتقاء الاجتماعي لديه من الاعتماد على القوة البدنية التي جعلت من راعي الأغنام الفقير القوي أميراً شهيراً في مسرحية «تمبرلاين العظيم»، إلى الارتقاء، اعتماداً على العقل والعلم في مسرحية «الدكتور فاوستس». وتخدم هذه الفكرة معركته الخاصة مع «نبلاء الرداء»، الذين اكتسبوا اللقب والمال والسلطة بالميراث. ويمتد موقف مارلو المُعادي للنبلاء في تصوره الخاص عن الخطايا البشرية الكُبرى، والتي تتطابق مع سمات نبلاء ذلك العصر؛ مثل الكسل والجشع والحقد والتكبر.
________
*الخليج الثقافي