افتح علبة الكذب واكتب!

*حكيم عنكر

في تسجيل معها، يعود إلى سنة 1974، تؤكد الكاتبة الفرنسية الأميركية أناييس نن، أن الحياة مغامرة تستحق العيش بكل قوة. وترد على الصحفي الفرنسي بيرنار بيفو في برنامجه الذي كان يحمل عنوان “افتحوا الأقواس”، بأنها تستغرب لماذا يضيّق الناس من مفهوم المغامرة، ويحصرونها في تلك الأشياء السطحية، في حين هي أوسع وأشمل، وتعني زخم العلاقات الإنسانية بكل ما فيها من اكتشاف وحب وخيبات وولع.

ثم تبتسم وتضيف: نعم، لقد عشت مغامرات كثيرة، لكن بمعنى آخر. وحين يسألها بيفو، هل حاولت وضع نفسها في طريق كاتبين كبيرين، هما: هنري ميلر وأنطونين آرتو، ردت بأنها ما كان لها أن تفعل ذلك، فهما كانا مشهورين، وهي في تلك السنوات، بالكاد أعلنت نفسها ككاتبة شابة في خطواتها الأولى.

في هذا البرنامج “افتحوا الأقواس” والذي استضاف أسماء كبيرة، من بينها روجي غارودي وأوجين يونسكو وسالفادور دالي ورولان بارت، يسأل الصحفي اللامع الذي سيتألق أكثر في برنامجيه “أبوستروف” و”حساء الثقافة”، الكاتبة “الإيروتيكية” إذا ما كانت استفادت من عون أدبي، بشكل أو بآخر، من كبار الكتاب والأدباء والفنانين الذين تعرفت إليهم.

وبتهذيب جميل، ترد: كان من الطبيعي جدا أن تحتاج كاتبة شابة مثلها إلى المساعدة في تلك الفترة من تجربتها، وما فعله ميلر وآرتو وغيرهما هو تقديم المساعدة لكاتبة واعدة في بداية الطريق.

في مذكراتها التي أصدرتها في الأربعينيات من القرن الماضي، تتحدث عن علاقاتها مع هؤلاء ومع آخرين، وهي المذكرات التي ستتحول إلى عمل سينمائي. تقرّ نن Nin أن عقيدتها الوحيدة هي الحب، وتعرّف نفسها بأنها ليست روائية بل كاتبة مذكرات. أما المتابعون لسيرتها فيعتبرونها أكثر النساء قدرة على الاختلاق والكذب في مذكراتها.

تدافع عن نفسها في “يومياتها”، وتقول بأنها لم تمنح نفسها يوماً لشخص لا تحبه. الهروب من القسوة القاهرة بالنسبة إليها يدفع إلى الكذب، حين تهدد استقرار ومصير الفرد. وبشيء من الدعابة تقول “الشخص الوحيد الذي لم أكذب عليه هو دفتر مذكراتي، أعترف له بكل حنان، وأحياناً يحدث أن أكذب عليه سهواً”.

يتحوّل الكذب هنا إلى مرادف للإبداع، وإلى ضرورة للاستمرار في الحياة. فعلبة الكذب التي كانت دائما جاهزة للفتح بالنسبة لهذه الكاتبة، هي سر قوتها. تعتقد أن الكذب ضروري، حيث لا يؤذي الآخرين، وهي لطالما احتاجته في لحظات الحياة العصيبة للعيش بأمان ونشداناً للسلام الداخلي.

تعيدنا مذكرات أناييس نن إلى سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي، وإلى الوسائط المستعملة في ذلك الوقت للتواصل من بريد وتلغرام(كم كان الأمر بطيئا قياساً إلى وسائل التواصل في عالم اليوم). كما أن وضعها كامرأة وكاتبة متحررة سيجعل منها رمزاً للحركات النسوية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. فطريقتها اللامتناهية في حب الحياة، جعل الأوساط الثقافية في فرنسا وأميركا تلفت إليها و”تتحشّر” على حياتها. ورسائلها إلى أنطونان آرتو وميلر وإدواردو سانشيز إذا ما قورنت بـ “المترسلات” العربيات من الكاتبات والأديبات شاسعة البون، هي التي احتاجت جلسات من العلاج النفسي في بداية حياتها الأدبية كي تولد من جديد. متقدمة بجسارة نحو مهنة اسمها الكتابة، يعتبر صندوق الكذب فيها، ذريعة فنية لاقتناص الجمال والتصالح مع الذات. ألم تقل العرب بأن أعذب الشعر (الأدب) أكذبه!؟

_____
*ضفة ثالثة.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *