أناييس نن.. الكاتبة كما لم نألفها


*مازن معروف

في مجموعتها القصصية “تحت جرس زجاجي”، التي صدرت حديثاً عن “دار المدى” ونقلها إلى العربية المترجم ياسين حافظ، نقرأ أناييس نن، بصيغة لا تشبه ما اشتُهِرَتْ به. أي اليوميات والرواية والإيروتيك. رغم أن الكتاب لم يكن أولى نتاجات الكاتبة التي شاكست الذكورية، لكنه حين ظهر، كان بمثابة النيغاتيف الأصفى والأكثر تماسكاً لصورة نن الأدبية، ليس كما ألفناها أو عرفنا عنها في مذكراتها الشهيرة. الكتاب صدر بعد عشر سنوات تقريباً من انتهاء علاقتها بهنري ميللر. لكنها، لم تتطرق فيه وبأي مستوى من الصراحة، إلى علاقتها المثيرة بالكاتب. رغم أن واحدة من قصص المجموعة (ولادة) قد تكون انعكاساً لإجهاض نن جنينها الذي يعتقد أن ميللر والده. القصص نفسها، تعكس مرحلة من حياة نن، لكن في بنية أدبية، ليست السهولة واحدة من سماتها. حتى أنّ نن نفسها لم تكن تخلصت بعد من خياراتها الرمزية في اللغة والسوريالية وأحياناً التجريدية التي عرفت بها في روايتها “بيت السفاح” مثلاً. 

ويبدو واضحاً أن تأثير عشيقها المحلل النفسي أوتو رَنْك، وأحد أفراد “جماعة فيينا”، لم يكن قد تلاشى بالكامل. فنرى مثلاً انحيازها الدائم إلى العوالم النفسية لشخصيات القصص، على حساب ديناميكية الحدث وحركة السرد فيه. يمكن القول إن الحالة المتاهية إحدى ميزات هذه القصص. وهي تؤشر إلى قسوة لغوية تعادل إلى حد ما، قسوة فرضتها الحياة على الشخصيات في القصص. فهي إما معزولة، منفية أو أنها فجيعتها التي تسري فيها بصمت أو رؤيتها السحرية والفردية إلى العالم. تضمر نن صاحبة “طيور صغيرة” و”دلتا فينوس” السرد في الشعر، فنعثر في القصص على استعارات متقدة. تسبر الكاتبة من خلالها الطبقة ما تحت الأرضية من الحياة.نها مهتمة لأن تدلنا في الشخصيات على ما هو أبعد من تكوينها الفيزيولوجي أو سلوكها مثلاً، على خاصية بشرية يدور حولها المجاز ويخترقها. مجموعتها الصغيرة هذه، ستشكِّل منعطفاً في مسار القصة القصيرة الأميركية الحديثة، من حيث الحرية التي تمارسها وتفرضها نن في استخدام اللغة، سواء بإبقائها على الشعر نابضاً كالعشب على ضفتي جُملتها السردية. أو تمسُّكِها بالمفاصل الدرامية خافتةً في قصصها القصيرة، وبالجموح مدفوناً في التأمل. بعض قصص المجموعة (“البيت الزورق”، “تحت جرس زجاجي” و “رجتم”) تحمل بدايات مكثّفة. كما لو أنها تستدعي القارئ إليها ببطء أو بتردد. وبمقارنتها بالنصوص الإنجليزية، نجد أنها خضعت لترجمة حرفية تقريباً، ما عزز من تعثّرها لغوياً بالعربية. ذلك أن قراءتها بالإنجليزية لا تعطي هذا الانطباع على الأقل. إنها قصص مغسولة بالنثر. تتسرّب إلينا كسحر لا نشعر به إلا بعد اكتماله. وتدلُّ على قدرة نن في مناورة اللغة بعينين فذّتين للبقاء تحت سلطة السرد.
_____
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *